مقالاتمقالات مختارة

بعض مظاهر العبث بالتصور الإسلامي

بقلم إحسان الفقيه

«أخْبِرني عن الإسلام»، لم يجد الصحابة في الرعيل الأول عناءً في استيعاب الرد على هذا المطلب، ولم تكن ثمة إجابات ضبابية تنغَلِق أمامها العقول في التعرف على الإسلام وتفاصيله، بل كانت تعريفات واضحة جليَّة تنسجم مع الفطرة السويّة والعقول السليمة، فيضع المسلمون على أساسها تصوُّرا واضحا مُوحَّدا عن الإسلام.
وخلال قرون مضت، انشطرت وحدة الفكر الإسلامي، واضطربت منظومة التصورات لدى فِئات من الناس، وتمَّ العبث بهذه المنظومة، وأُدخل فيها ما ليس منها، واستجاب المسلمون لضغط التيارات الوافدة، التي حاولت جاهدةً إعادة تعريف الإسلام، وتقديم تفسيرات جديدة له، تتعارض جُملة وتفصيلا مع نسخته الصحيحة التي نزلت من السماء.
أبرز مظاهر العبث في منظومة التصور الإسلامي، كانت اختزال المنهج إلى بعض الشعائر التعبُّدية والقيم الروحية، وترتَّب عليه استبعاد مجالات الحياة المختلفة عن مظلة الإسلام، فلا سياسة في الدين، والدين لا شأن له بالنظام الاقتصادي، والدين لا علاقة له بالأمور التي تقع خارج نطاق المسجد وهكذا.
وليس ذلك فحسب، بل حُمّل الإسلام ـ رغم إقصائه- المسؤولية عن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع أن التاريخ يشهد على ذلك النموذج الحضاري الرائع الذي شيَّدهُ العرب في ظل الإسلام، عندما تمثَّلوه منهجا في حياتهم، رغم ما اعتَرى الحِقب المُختلفة من خلَلٍ في التطبيق، إلا أنه كانت هناك ثوابت تمسَّك بها المسلمون حفظت للدين شكله وجوهره.
الإسلام دستور حياة، ومنهج شامل يحيا به الناس ويموتون عليه، يُصلحون به دنياهم وآخرتهم، وهذه الحقيقة هي التي يهضمها العقل، فليس من المعقول أن يكون هذا المنهج الذي خُلق من أجله الكون، مجرد مشاعر بشرية تجاه الخالق، وصيغٍ جمالية للتعامل مع المخلوق فحسب.
طال العبث في التصور الإسلامي مصادر التلقي لدى المسلمين، حيث استجاب قطاع واسع منهم إلى الدعوات الهدَّامة التي تُحْدث شرخًا في هذا الجانب، وفرّقت بين الوحيين (الكتاب والسنة)، حيث انبَعث أشقى القوم لحصْرها في القرآن دون السنة النبوية، وما ذلك إلا لغاية خبيثة تتلخَّص في هدم هذا الدين، إذ أن السُّنة وحيٌ من الله كما القرآن، ومُكمِّلة له، ومُفَصِّلة لمُجْمَله، وشارحةٌ للخطوط العريضة التي وضعها الكتاب.
ولو أن المسلمين استجابوا لهذه الدعوة، وقاموا بإقصاء السنة النبوية، لعاشوا بلا دين، فمعظم الأحكام والتشريعات جاءت بها السنة وليس القرآن.
ومن أوجه هذا العبث، القبول بالتعدُّدِية في مفهوم الإسلام، وأعني بها: القبول بالتقسيمات التي ادَّعاها المستشرقون بأن الإسلام ليس شيئا واحدا، وأنه متنوع بتنوع أطياف شعوبه، فقالوا: إسلام شعبي، إسلام شيعي، إسلام سني، إسلام صوفي، إسلام قديم وجديد، إسلام معاصر…
ترتَّب على هذه التقسيمات تسويغُ تنوُّع مصادر التلقي، التي فتحت الباب على مصراعيه للآراء الشخصية والافْتِئَات على الشارِع، فبعد أن كانت مصادر التلقي هي القرآن والسّنة والإجماع، أُقْحِمت مصادر جديدة كالكشف والإلهام والمنامات، وبعضهم ادّعى تحريف القرآن والحكم بعدم صلاحيته كمصدر.
ومن مظاهر هذا العبث، الادّعاء بأن التشريع الإسلامي لا يتناسب مع متطلبات العصر وروح التقدم، وأنه كان مجرد حالة تاريخية لأُمَّة العرب، وفي ذلك التصور مُصادمة صريحة لنصوص القرآن: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا»، كما أن هذا الادّعاء يتطلّب أن تكون الأديان السابقة على الإسلام حالة تاريخية أيضا، فمِن ثمّ يترتب عليه القول بأن العالم سيحيا أبد الدهر من دون بوصلة تُحددها كلمة الله الخالق.
ومن جهة أخرى، كان المنهج حاضرا يُوجِّه دفَّة الاندفاع الحضاري عبْر قرون طويلة، تقدمت خلالها عجلة التطور والصناعات والاختراعات، من دون أن يكون لهذه الدعوى مكان، فما الذي تغيّر في قرنٍ واحد من الزمان؟
ومن أوجه العبث بالتصور الإسلامي قضية الحكم، والخلط بين الحكم الإسلامي والحكم الثيوقراطي بهدف الثورة على النظام، الذي وضعه الإسلام ونبْذِه.
فرْقٌ بين الحكم الثيوقراطي الذي يجعل البشر نائبين عن الله، ويمنح الحكام سلطة كهنوتية، ويفرض لهم الطاعة المطلقة، والإسلام الذي يتعامل مع الحاكم على أنه موظف لدى الشعب، يقوم الشعب بتعيينه ومراقبته ومحاسبته، وعزله أن توافرت الدواعي في ضوء المصالح والمفاسد.
فرق بين الحكم الثيوقراطي الذي جعل الكنيسة في أوروبا تبِيع صكوك الغفران ومساحات الجنة، وتُصادر الأملاك والآراء باسم الرب، والحكم الإسلامي الذي يحرص ـ في شكله الأصلي- على إطلاق حريات الناس بضوابط التنزيل الإلهي، ويكفل الرأي والعلم والتطور، ويحفظ للناس كرامتهم.
قضية الخلاف كانت كذلك هدفا للعبث، فبعض المنتسبين إلى الإسلام يُشغّب على المنهج، عن طريق إثارة القضايا الخلافية، ويلوح بها للتدليل على اضطراب المنهج الإسلامي. ولا تخلو هذه الدعوى من إفْك عظيم، يجد له مكانا في الأمة بسبب الجهل، فالإسلام دين له أصول وفروع، فأما الأصول فهي أصول الاعتقاد وأصول النظر والاستدلال، وهي التي يتفق عليها أهل سنة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وهي مما لا يصح فيه الاختلاف.
أما الفروع فهي تُطلق على فروع العقيدة التي يسوغ فيها الخلاف، مثل: هل رأى النبي ربه ليلة المعراج؟ واختلافهم في الموزون يوم القيامة هل هو العامل أم عمله أم صحائفه أم الجميع؟، ويدخل في الفروع المسائل الفقهية التي لم يأت بها نصٌّ قطعي الثبوت والدلالة، ولم يُجْمع عليها المسلمون.
ولعَمْر الله إنها لمزية، لأن التشريع الإسلامي ليس جامدا، ويفتح الطريق أمام الاجتهادات في المسائل التي لن يضر الخلاف فيها بالعقيدة وأصول الدين، كما أن مِن شأن الخلاف الفقهي التوسعة على الناس بحسب الأحوال والأزمنة والأمكنة.
إصلاح منظومة التصورات التي يترتب عليها إصلاح التفكير ثم السلوك، هـــــي أول واجبات الدعاة في هذا الوقت، الذي تَدَاعت فيه الأفكار الهدّامة على الأُمة كما تَداعى الأَكَلَة إلى قَصْعتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

(المصدر: مجلة القدس العربي الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى