﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت﴾.. دعوة للتأمل ورسالة خاصة للملحدين
بقلم د. علي الصلابي
يُقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان لا تقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي يقررها في كل جانب من جوانب الكون والحياة، فهو يلفت النظر تارة إلى المنافع التي يحصل عليها الإنسان من تسخير هذه الدواب ركوباً وحملاً ولباساً وطعاماً وشراباً وزينة، فهي المسخرة للإنسان مذللة له منقادة. قال تعالى: “وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْبَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” (النحل، آية : 5 ـ 6).
والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة كانت هي الإبل والبقر والضأن والمعز، أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة، والقرآن الكريم إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر وتلبية لأشواقهم كذلك، ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار والأشعار، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وما إليها، ومنها تأكلون لحماً ولبناً وسمناً، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد لا يبلغونه إلا بشق الأنفس، وفيها كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح، جمال الاستمتاع بمنظرها فارهة رائعة صحيحة سمينة، وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أكثر مما يدركوه أهل المدينة. قال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر} (الغاشية: 17: 22).
في هذه الآية الكريمة يخص الله سبحانه وتعالى ـ الإبل من بين مخلوقاته الحية، ويجعل النظر إلى كيفية خلقها أسبق من التأمل في كيفية رفع السماوات ونصب الجبال وتسطيح الأرض، ويدعو إلى أن يكون النظر والتأمل في هذه المخلوقات مدخلاً إلى الإيمان الخالص بقدرة الخالق وبديع صنعه. والآية الكريمة “أَفَلَا يَنظُرُونَ إلى الْإِبِلِ” أفلا صيغة استفهام إنكاري، وهي أفضل صور الحث على النظر، وعلى إعمال البصر، والعقل والقلب للوصول إلى ما عليه الإبل من خلق بديع. وفيها دعوة للنظر إلى الإبل بما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها، فقد خلقت جميلة جداً، فهي تبهرك حين تمشي وحين ترد الماء وحين تبرك.
كان الإنسان يسافر ويحمل أثقاله على الإبل، ومنها يشرب ويأكل ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل، ولها خصائص مهمة، فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقوده الصغير، فتقاد وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف، مرعاها ميسر، وكلفتها ضئيلة، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال، فالإبل من إبداع الخلاق العليم المتفرد بصنعته التي تدل عليه وتقطع بوجوده، ولها أسرار في خلقها، نذكر منها:
إن العلماء في عالمنا المعاصر قد توصلوا إلى بعض الخصائص التي يمتاز بها الإبل عن بقية المخلوقات من ذلك: اختلاف “كريات” الدم الحمراء في الإبل عن بقية كريات الدم الحمراء في جميع المخلوقات، إذ أن جميع الحيوانات لها “كريات” دم حمراء مستديرة الشكل، أما الإبل فإن كريات الدم عنده “أهليجية” الشكل، وليست لها نواه ـ وذلك لحكمة أرادها الخالق جل وعلا، ومن أجل هذه الخاصة يمكن أن يشرب الإبل مائة لتر من الماء مرة واحدة عندها تتفتح كريات الدم بقدر حجمها مرتين دون أن تتفجر، يقول أحد العلماء: إن جميع خلق الله سبحانه وتعالى من إنسان وحيوان ونبات له قدرة محدودة على شرب الماء، فإذا زادت الكمية عن القدر المحدد انفجرت كريات الدم الحمراء وعرضت حياة صاحبها للخطر، ويقول: إن بعض الإبل تستطيع أن تستغني عن الماء لمدة تزيد على ستة أشهر في فصل الشتاء، ويدلل هذا العالم بذلك على التجارب التي قام بها في معمله على الإبل وبقية الحيوانات الأخرى، والتي نفقت بمجرد أن أفرغ في جوفها كمية من الماء تزيد عما تتحمله كريات الدم الحمراء داخل جسمها.
يدلل بعض العلماء نتيجة للأبحاث التي أجريت على هذا الحيوان العجيب أن لعابه يعتبر من أقوى المضادات الحيوية التي عرفتها البشرية في قتل المكروبات، ولهذا نجد أن الأمراض التي تصيب الإبل قليلة جداً، وتكاد تكون خارجية مثل “الجرب” و”الشاف”.
تمتاز الإبل عن بقية المخلوقات بقدرتها على إطفاء ظمئها بأي نوع من الماء تجده فهي تشرب من مياه المستنقعات شديدة الملوحة والمرارة، وتشرب من مياه البحر والمحيطات، وترجع مقدرة الإبل على تجرع محاليل الأملاح المركزة إلى استعداد خاص في الكليتين اللتين لهما قدرة عجيبة على إخراج الفائض ضمن الأملاح.
إن أبوال الإبل وردت فيها دراسات حديثة أولاها خلصت بعد دراسة على النبات المعالج بمواد مسرطنة إلى أن بول الإبل قد أوقف الخلايا السرطانية، ويمكن أن يستفاد منه في علاج سرطان الجهاز الهضمي وسرطان الدم، موحين بمزيد من التحليلات الكيماوية للمواد الفعالة في بول الإبل، وهذه الدراسة على أيدي كويتيين في جامعة الكويت بكلية الزراعة في الثمانينيات، ثم تلتها دراسة لباحثة سودانية وجدت في دراسة ميدانية في صحراء المغرب لدى القبائل التي لديها الإبل أن نساءهم ذوات شعر جيد، حيث أنهن يغسلن به شعورهن، ولذلك زالت القشرة، وامتنع تساقط الشعر، واستطاعت الباحثة علاج جرب الإبل من الإبل ببول الإبل، وذكرت في خلاصة بحثها أن بول الإبل فيه قدر عال من مركبات الكبريت والثيو سلقيت التي تعد أهم مكونات الشامبو ومنظفات الشعر.
إن الأبحاث العلمية أثبتت فعالية ضد بعض أنواع البكتريا والفيروسات ومعالجة كثير من الأمراض، وأثبتت كذلك أننا نستطيع معالجة الكثير من الأمراض جليلها وقليلها عن طريق ألبان الإبل وأبوالها، ويؤيد ذلك ما رواه الإمامان البخاري ومسلم بسندها عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن نفراً من قبيلة عكل قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام ثم استوحموا أرض المدينة ـ وسقمت أجسامهم ـ فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: (ألا تخرجوا مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها..؟ فقالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، ووقع خصوص التداوي بأبوال الإبل حديث أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ “عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذربةبطونهم”).
لقد أثبت كثير من العلماء الباحثين، أن في أبوال الإبل من الخصائص ما يمكن عن طريقها ـ بإذن الله تعالى ـ معالجة الكثير من الأمراض المستعصية ولقد كانت الأجيال السابقة، قبل ظهور ما يعرف بـ”المضادات الحيوية” والمطهرات يغسلون الجروح والقروح بأبوال الإبل فتندمل وتشفى، وكانوا إذا أحسوا بخمول في الجسم أو آلام في المعدة نتيجة لما يسمى بالتلبكات المعوية سارعوا إلى شرب أبوال وألبان الإبل فتعود لهم الصحة، وكانت النساء يغسلن رؤوسهن بأبوال الإبل فينموا الشعر ويتكاثر ويشفى من أمراضه التي تعمل على تقصفه وإزالة ما به من قشور وآفات. وهنالك أسرار أخرى عديدة لم يتوصل العلم بعد إلى معرفة حكمتها، ولكنها تبين صوراً أخرى للإعجاز في خلق الإبل كما دل عليه البيان القرآني.
———————————————————————————————————————-
مراجع البحث:
- د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، 2013م، ص: (151 – 157).
- أحمد النظاري، الجمال الحسِّي في القرآن، ص 186.
- البخاري، صحيح البخاري، دار الفكر، دمشق، ط1، 1991م، ك الطب، رقم (5686).
- د. سليمان القرعاوي، التفسير العلمي المعاصر، دار الحضارة للنشر، الرياض، ط1، 1425هـ، ص. ص 235- 238 – 240.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط 38، 2009م، (4 / 2161).
- سيد خضر، من سمات الجمال في القرآن الكريم: كيف يربِّي القرآن الحسَّ الجمالي للمسلم، دار الصحابة للتراث، طنطا، 1413هـ، ص 60.
- هيثم جمعة هلال، روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، دار الكتاب العربي، ط1، 2001م، ص. ص 307 – 308.
(المصدر: مدونات الجزيرة)