السودان ومنزلق الفوضى الخلاقة
إعداد د. مدثر أحمد الباهي
ربما يعتقد الكثيرون أن مصطلح الفوضى الخلاقة مصطلح جديد ظهر بعد التفرد الأمريكي بزعامة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والواقع أن المصطلح ظهر لأول مرة عام 1902م على يد مؤرخ أمريكي يدعى تاير ماهان، وقد توسع الأمريكي مايكل ليدين فأسماها «الفوضى البناءة» أو «التدمير البناء»، وذلك بعد أحداث سبتمبر بعامين في 2003، وهذا يعني الهدم، ومن ثم البناء، ويعني هذا إشاعة الفوضى، وتدمير كل ما هو قائم، ومن ثم إعادة البناء حسب المخطط الذي يخدم مصالح القوى المتنفذة، وقد يكون أكثر المفكرين الذين تحدثوا عن هذا الأمر هو اليميني الأمريكي صامويل هانتنقتون صاحب نظرية “صراع الحضارات”، حيث بنى نظريته على أساس أن الصراع العالمي القادم سيكون حضاريا، مع التركيز على معاداة الحضارة الإسلامية، التي يرى أنها لا يمكن بحال أن تنسجم مع الحضارات الأخرى، وبخاصة الحضارة الغربية، وقد تلقفت مراكز البحوث و الدراسات نظرية الفوضى الخلاقة، وأشبعتها بحثا ودرسا، والنظرية تعني باختصار أنه عندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنه يصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالح الجميع.
وفي مطلع عام 2005 أدلت وزيرة الخارجية الأميركية “كونداليزا رايس” بحديث صحفي لصحيفة واشنطن بوست الأميركية، كشفت فيه حينها عن نية الولايات المتحدة الأمريكية نشر الديمقراطية بالعالم العربي والبدء بتشكيل ما يُعرف بـ”الشرق الأوسط الجديد”، كل ذلك من خلال نشر “الفوضى الخلاقة” في الشرق الأوسط عبر الإدارة الأميركية.
وبالنظر إلى السودان؛ فإنه لا يكاد يختلف في أن هذا البلد قد ابتلي بحكامه وسياسييه سواء من أسموا أنفسهم إسلاميين حركيين أو أحزاب ديمقراطية، كما لا يختلف اثنان في أن السودان متميز عن كثير من البلدان كموقع جغرافي وثروات أرض وعراقة أمة وطيبة شعب ونبوغ علماء.
لقد صبر السودانيون وصابروا، من أجل سودانهم ليبقى وطنا آمنا مطمئنا فيه من دفء المشاعر وراحة القلب وسكينة الفؤاد ما يجده ويعيشه ويشهد به كل من دخله من غير أهله، ورغم ذلك كله تتجدد معاناة السودانيين وتتلون كل فترة بلون ولون. وإذا ما جئت لِتُنقِّب عن أُس المشكلة وجذر المعضلة سيبدو لك أوّل ما يبدو الفشل المستحكم عند حكوماته المتتابعة وهذا الفشل مرده إلى أسباب:
- غياب الإرادة في الإصلاح الشامل.
- لا توجد رؤية واضحة للإصلاح.
- ضعف نزاهة بعض القيادات العليا ومن إفرازاتها سوء اختيار الأعوان.
- تضخم شرايين النهب والسلب المنظم لثروات البلاد.
- ثلاثية الاستبداد: (القمع، والاقصاء، ورعاية الفساد).
- العجز عن مواجهة التحديات والتعامل مع الأزمات.
- تبرير الأخطاء وتسويغ الإخفاقات باحترافية.
تلكم سبعة أسباب، وهي سبعة موبقة، ولكل سبب من الأسباب سالفة الذكر له شواهده التي لا تخفى ولا تحتاج إلى دليل، ولعل البعض يوافقني الرأي إن قلتُ إنّ حكومة الإنقاذ التي جاءت بانقلاب 89 تنطبق عليها تلك السبع آنفة الذكر.
وبناء على ما سبق من تمهيد ومقدمات نطرح السؤال ونحدد الجواب ونضع البوصلة في الاتجاه الصحيح؛ فالسؤال الأهم هو: هل نظام البشير مهدد بطوفان الفوضى الخلاقة وربما عجز عن الوقوف أمامها، وأن طابورا خامسا قد اندس داخل أروقة النظام ومؤسساته هو الذي سيجر البلاد والعباد لتلك الفوضى؟
وأيا كان الجواب؛ فإن الفوضى الخلاقة شر محض نسأل الله أن يقينا إياها.
وهنا نقول: إن بنية السودان التحتية في كل المجالات ضعيفة جدا لا تحتمل أي نوع من أنواع العنف الشعبي.
سواء في ذلك ضعف بنية الطرق والجسور والمرافق العامة من مستشفيات ومدارس ومحطات الكهرباء وغيرها؛ فالمتوقع بالنظر لكثير من معطيات الواقع السوداني أنه إن انطلقت شرارة الفوضى فلن تصمد بنية الحياة بضعة أيام ويلقى الناس حينها عنتا شديدا. فكما يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة: ”إن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت؛ فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيراً؛ فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبينا لهم مضرتها وواعظا لهم أن يعودوا في مثلها”.
والمخرج الذي نراه من فخ الفوضى الخلاقة المنصوب للسودان يكمن في جملة من الإجراءات
العاجلة والحازمة، أبرزها:
أولا: ألا يختزل البشير الدولة في شخصه ويتنازل عن الترشح في 2020، وليعلم أن ما عجز عنه حال العنفوان فهو عنه أعجز بعدها ولا سيما مع اتساع الخرق وزيادة تعقيد الأمور، فليفسح المجال لمن قد يكون أولى وأقدر.. أو على الأقل أكثر عزما على الإصلاح وحزما فيه.
ثانيا: منع كل منسوبي الأجهزة العسكرية والأمنية والكوادر المنظمين في الحزب الحاكم من استعمال أسلوب البطش وإعمال القتل أو التعذيب ضد المتظاهرين.
ثالثا: تحديد آلية سلمية آمنة لنقل السلطة عبر مجلس انتقالي بداية عام2020
رابعا: أن يقوم البشير مع حكومته الحالية بحزمة من الإجراءات العاجلة حتى 2020ومن أهمها وآكدها:
1- استقطاب الكفاءات المخلصة النزيهة من الداخل والخارج وتمكينهم من وضع رؤية للإصلاح واعطاءهم الصلاحيات الكافية
2- الشراكات الذكية مع أصحاب التجارب الناجحة (ماليزيا تركيا) مثالا وذلك في مجالات محددة.
3- قطع شريان النهب والسلب المنظم لثروات البلاد الاستراتيجية سواء المعادن أو الثروة الحيوانية أو الزراعية وتقنين التصدير لها عبر الدولة لا عبر التجار.
4- إعادة النظر في هيكلة الدولة واختزال كثير من المناصب والوزارات التي أثقلت كاهل الدولة
5- الترويج للاستثمار وخلق بيئة جاذبة للمستثمر الأجنبي واستقطاب المستثمرين ومنحهم امتيازات
6-الإسراع مع الجدية في رفع المظالم والمكوس والجبايات التي أرهقت الناس وعطلت الإنتاج وأسست للفساد في البلاد حيث تقتات الدولة على أخذ أموال الناس ظلما دون مقابل أو حتى بمقابل غير مرضي!
7- مصارحة الشعب والتحدث إليه بشفافية حول الضائقة التي يمر بها السودان.
8-إلغاء سياسة حبس السيولة المالية داخل المصارف والبنوك وتمكين الشعب من التداول النقدي بشكل طبيعي.
9-إعادة ترتيب ملف العلاقات الخارجية وفق مصلحة البلاد والعباد مع تقديم مقاصد الشريعة التي جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها.
وقبل ذلك كله التوبة والأوبة إلى الله توبة نصوحا؛ فإنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.
(المصدر: موقع المنهل)