يوهان جوته.. الأديب الألماني الذي تأثر بالإسلام والأدب العربي!
بقلم عمران أبوعين
أهمل البحث العلمي دراسة علاقة جوته بالعالم العربي لفترة زمنية طويلة على الرغم من عمقها وخصوبتها، ولم يمنحها تلك الأهمية التي أولاها لعلاقات الشاعر الأكثر بروزاً للعيان بثقافات الشرق الأخرى، ففي الوقت الذي تتوافر فيه مؤلفات قيمة توضح لنا علاقات جوته بالثقافات الفارسية والهندية والصينية، فإننا نفتقد بحوثاً مشابهة توضح لنا علاقته بالثقافة العربية.
إن علاقة جوته بالإسلام وبنبيه – صلى الله عليه وسلم- ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر. حيث لم يقتصر اهتمام يوهان جوته بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل، فقد نظم، وهو في سن الثالثة والعشرين، قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم “أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي”. بل إن الدهشة لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في إعلانه عن صدور “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” الذي قال فيه أنه هو نفسه “لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم”.
يمكن القول، إن علاقة جوته بحكايات ألف ليلة وليلة جديرة باهتمام متميز لأنها من ناحية، واحدة من أمهات الكتب في الأدب الشعبي العالمي، ومن ناحية أخرى، لأن تأثيرها في جوته تأثير بالغ القوة. وحقيقة الأمر أن جوته كان طيلة حياته شديد الشغف بأحاديث شهرزاد، إذ تعرف من خلال والدته وجدّته في أيام طفولته المبكرة على بعض هذه الحكايات ولم تمح من ذاكرته أبداً. ولقد استدعى جوته، في الكثير من أشعاره، شهرزاد وعبّر على لسانها عن بواعث معينة، وألبسها أدواراً وأفعالاً مختلفة، كما يمكن العثور في رسائله ومذكراته اليومية وأحاديثه المنقولة على الكثير من الإشارات لهذا السفر، اقصد (ألف ليلة وليلة).
ففي رواية “سنوات التجوال” حيث إن ما يبدوا أنه اهمال في البناء الشكلي للرواية ، لم يكن بأي حال من الأحوال بسبب ما يرافق الشيخوخة من كسل وتقاعس، وإنما هي حسب -اعتراف جوته- طريقة السرد بعينها لأقاصيص مختلفة بصورة متداخلة، وتقديمها على شكل باقة من الزهور المتشابكة التي اختارها بوعي تام كأسلوب في السرد. فإن ألف ليل وليلة هي التي أرشدته إلى أسلوب السرد هذا، كما أكد هو نفسه بقوله بأن طريقته في كتابه “سنوات التجوال” كانت تقوم “على طريقة السلطانة شهرزاد”.
ولم يقتصر تأثر جوته بألف ليلة وليلة على البناء الشكلي فحسب، إذ استلهم بالقدر نفسه، وفي العديد من الحالات، مادة وموضوعات ملموسة من هذا السفر العربي. وتشهد على هذا الاستلهام أعمال أدبية دبجها في مراحل حياته كافة، ابتداء من عمله الدرامي المبكر “نزوة العاشق” وانتهاء بآخر أعماله، وهو القسم الثاني من “فاوست”. ففي مسرحيته المبكرة “نزوة العاشق” التي كتبها وهو أبن السبع عشر سنة، كان جوته قد استعار لبطلته من إحدى قصص ألف ليلة وليلة الاسم العربي: أمينة. لكنه لم يأخذ الاسم فحسب، بل استعار كذلك المعالم الكلية لهذه الشخصية التي تلاحقها الغيرة.
ويعثر المرء أيضاً في حكاياته الفنية على وفرة من السمات المستقاة من ألف ليلة وليلة. وينطبق هذا على حكاية “باريس الجديد” و”ميلوسينة الجديدة” مثلما ينطبق على الحكايات الخرافية التي وردت في قصته “أحاديث مهاجرين ألمان”، وفي “سنوات تجوال فلهلم مايستر” فإن الشاعر يلمح بصورة جلية إلى قصتي علاء الدين والمصباح السحري وحلاق بغداد، كما استعان في الجزء الأخير من روايته “الأنساب المختارة” بقصة “أبو الحسن وشمس النهار” من ألف ليلة وليلة.
وفي الفصل الأول من القسم الثاني من “فاوست” يوجد الكثير الكثير من المؤثرات التي تعود أصولها إلى ألف ليلة وليلة، فهنالك مثلاً موضوع استخراج الكنز المدفون في باطن الثرى، وموضوع المناظر السرية العديدة التي رافقت تنكر الأشباح. وفي نهاية الفصل الخاص بالمناظر السحرية التي رافقت تنكر الاشباح، أثنى جوته على ألف ليلة وليلة وأشاد بشهرزاد، وذلك على لسان القيصر وهو يثني على مفيستوفليس، هذا السيد المسؤول عن إمتاع القيصر وتسليته، إذا قال في مشهد “حديقة السرور”:
أي حظ طيب هذا الذي قادك إلى هنا،
مباشرة من ألف ليلة وليلة؟
لو استطعت أن تشبه بشهرزاد في خصوبة عطاياها،
لوعدتك وعدا صادقا بأسمى الهدايا.
تأهب على الدوام لتسليتي
فما أكثر ما تبتليني أيام دنياكم
بأعظم الكروب والمنغصات.
عندما نمعن النظر في حياة جوته في فترة صباه وشبابه، نكتشف لديه -إلى جانب شغفه بحكايات ألف ليلة وليلة- اهتماماً كبيراً بالأقطار العربية، فالسيرة الذاتية (شعر وحقيقة) تخبرنا بأن جوته كان يشعر في سن الثانية عشرة بدافع داخلي يحفزه على تعلم اللغة العبرية، وأنه حصل بناء على ذلك على دروس خصوصية من احدى مديري المدارس الثانوية المختصين بهذه اللغة. وفي هذه المرحلة، التي كان فيها جوته يدرس العبرية “شغل نفسه بتعلم شيء من العربية” أيضاً، كما صرح بذلك هو ذاته في السنة الأخيرة من حياته لأحد زائريه من ذوي المعرفة بالعربية.
ويبين سجل الإعارات من مكتبة فايمار أن جوته كان قد استعار، ولأكثر من مرة، كتاب “نيبور” (صور وصفية لبلاد العرب) المنشور عام 1772 وكذلك كتابه “رحلة وصفية لبلاد العرب ولما يحيط بها من بلدان” بجزأيه الأول والثاني المنشورين على التوالي في العامين 1774 و1778 في كوبنهاجن.
وبفضل الرحالة الكثيرين الذي عكف جوته على دراستهم، استطاع الأوروبيون قراءة البحوث التي تتناول الأقطار العربية. وعلى وجه الخصوص، “شاردان” الذي جمع أمثالاً عربية ألهمت جوته بعض أشعاره. وكان لا بد أن نؤكد أن اهتمام جوته بالعرب وكل ما يتصل بهم لم يخمد جذوته حتى بعد أن تقدمت به السن وأخذت منه الشيخوخة. فها هو ذا، وقد بلغ خريف العمر، يبدوا في غاية الانفعال والتأثر عندما وقعت عيناه على أول الدراسات المستفيضة، والموثقة بالصور والمخططات، عن مدينة البتراء في الأردن الحالي، إذ كان البحاثة الشهير الدوق ليون دلابورد قد أهدا بخط يده، في العامين 1830 و1831 الأجزاء التي ظهرت تباعاً من مؤلفه “رحلة إلى البتراء العربية”، وتصف لنا مذكرات جوته اليومية كيف كان الشاعر يعرض “دفاتر البتراء” هذه على الأصدقاء والأمراء وذوي الجاه دونما كلل. ولعل العبارات التالية المأخوذة من هذه المذكرات اليومية أن تعكس لنا اهتمام جوته الشديد بهذا الكتاب، فهو يولد لدينا، كما يقول جوته “حالة من التعجب والانبهار لم يسبق له مثيل”، كما يثير فينا “السؤال المحير عن الكيفية التي نشأت بها مثل هذه العمارة”.
وقد عكف جوته على وجه الخصوص -إلى جانب اهتمامه بأدب الرحلات الشرقية- على دراسة تلك المؤلفات التي كانت تزوده بالمعلومات عن فنون الشعر العربي، أو تلك التي كانت تشبع رغبته في تعرُف الإسلام. ففي وقت مبكر وعندما كان لا يزال طالباً في جامعة لايبزج، تعرف جوته على المتنبي، وذلك على ما يبدوا، من خلال الترجمة التي قام بها “رايسكه” لاحد قصائده. وعن طريق الأديب الشاعر المتحمس “يوهان جوتفريد هردر”، شد انتباه جوته بشكل مختلف وأكثر عمقاً صوب الاهتمام بمناح أخرى من العالم العربي. وكان “هردر”، الذي يكبر جوته بخمس سنوات، قد أشاد بلغة العرب وأشعارهم في كتابيه “شذرات” و”الغابة النقدية الصغيرة”.
وفي بحثه “حول تأثير الأدب في عادات الشعوب في العصور القديمة والحديثة”، كتب “هردر” عن العرب، إلى جانب أمور أخرى، قائلا: “العرب شعراء منذ القدم، فلغتهم وعاداتهم تكونت بتأثير الشعر وغدت هي نفسها شعراً… ألا ما أروع أشعار العرب، إنها حقاً مرآة لطريقتهم في التفكير وفي الحياة! إنهم يتنفسون الحرية والإباء، وتملأ صدورهم روح المغامرة وشرف الطموح والفروسية والشجاعة التي طالما استفزها الأخذ بالثأر من الأعداء، وفاء منهم للأصدقاء وحفاظاً على العهد للحلفاء”. وأخيراً، كان لابد من الإشارة إلى أننا اعتمدنا على كتاب جوته والعالم العربي، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة، فالمعلومات الواردة في هذه المدونة هي من هذا الكتاب، مع التنسيق والتصرف.
(المصدر: مدونات الجزيرة)