يدُّ الله المبدعة للألوان في الطبيعة.. دليل في وجه الملحدين على خلقه الكون
بقلم د. علي الصلابي
إنَّ الله هو الخالق العظيم، يحدثنا عن الشجر والنبات – الذي بثّه في السهول والجبال، في الصحاري والوديان، في الغابات والقيعان، داخل البيوت وتحت الثرى – حديث علم وصدق، ويدلنا على سر من أسرار عظمته، ويرينا من بديع خلقه وطلاقة مشيئته ومن عجائب حكمته ما يزداد به المؤمن إيمانا ويقينا، وكما يرينا إحدى سننه التي قدّر بها هذا الكون العريض وأقوات جميع مخلوقاته إلى يوم الدين، وهو يحدثنا أن جمال الشجر وألوان ثماره وعن الطبيعة من حولنا، فكل المخلوقات تسجد لعظمته وتسبح بحمده وتخضع لنواميسه في هذا الكون.
والقرآن الكريم عندما يعرض علينا سنة إلهية لحقيقة كونية يراها الناس ويتعاملون معها في آفاق الأرض وعلى امتداد الزمان، فإنما يضعها في حدودها الوضعية وغاياتها الوجودية، فلا مجال للعبث في هذا الكون ولو كان خلق بعوضة، فما بالك لو كانت هذه الحقيقة هي خلق الأشجار والثمار والألوان من حولنا وعبر ملايين السنين! في الوقت الذي يعتمد الماديون والملحدون في إنكارهم لوجود الله وحقيقة البحث على الظواهر الطبيعية وحدها دون النظر إلى مصدرها وسر بقائها.
وتختلف الأشجار اختلافاً كبيراً في أنواعها وأشكالها وألوانها مما يعطيها المزيد من الجمال والبهجة، وإن الله هو الذي أنشأ الشجر والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال، منوع الصنوف متشابهاً وغير متشابه.. وإنه هو الذي بث الحياة في هذه الأرض ونوَّعها هذا التنويع وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض، فكيف يذهب الناس ـ في مواجهة هذه الحقائق ـ إلى تحكيم غير الله في شأن الطبيعة وما تحمله من أسرار الجمال والألوان.
وتعدُّ الثمار جزءاً من جمال البساتين والحدائق إن لم تكن أجمل ما فيها، حيث أن لها من الألوان والأشكال ما يضفي على الحدائق جمالاً وبهجة، والثمار تختلف في ذلك من نوع لآخر، ومن صنف لآخر، بل تختلف حتى في الصنف الواحد، فألوان الثمار تتدرج وتزداد تدرجاً كلما دخل عليها يوم جديد، وهكذا إلى أن يكتمل جمالها باكتمال نضجها. قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِجُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌغَفُورٌ” (فاطر : 27 ـ 28).
إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب، لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في عواملها في الثمرات وفي الجبال وفي الناس وفي الدواب والأنعام، لفتة تجمع في كلمات قلائل، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعاً، وتدع القلب مأخوذاً بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعاً.
وتبدأ بإنزال الماء في السماء وإخراج الثمرات المختلفات الألوان، وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الأجيال، فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر، بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون، وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها، ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية، ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحياناً ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها.
– “وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ”
والجدد: الطرائق والشعاب، وهنا لفتة في النص صادقة، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها، والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها، مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد.
واللفتة إلى ألوان الصخور، وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، يعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزاً، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة، كما تراه في الثمرة على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيها في تقدير الإنسان، ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصراً مشتركاً بين هذه وتلك يستحق النظر والالتفات.
– “وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ”
ثم ألوان الناس وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر، فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه، بل متميز في توأمه الذي شاركه حملاً واحداً في بطن واحدة. وكذلك ألوان الدواب والأنعام والدواب أشمل والأنعام أخص، فالدابة كل حيوان، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور السوداء. هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته، ويقول إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله.
– “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء”
والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية يعرفون بآثار صنعته ويدركونه بآثار قدرته، ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه، ومن ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً، ويعبدونه حقاً لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون، ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر الذي يستشعره القلب، ويتحرك به، ويرى يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل ” إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”. قادر على الإبداع وعلى الجزاء، غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته، وهم يرون بدائع صنعته. وهذا هو الإعجاز الإلهي القرآني؛ إعجاز في الخلق والتقدير، وإعجاز في العرض والبيان، إعجاز في الكتاب المنظور وإعجاز في الكتاب المسطور.
———————————————————————————————————————
مراجع البحث:
- د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، 2013م، ص (143: 145).
- أحمد النظاري، الجمال الحسِّي في القرآن، ص 174.
- د. زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (النبات)، مكتبه الشروق الدولية، القاهرة، 2004م، ص 294.
- سيّد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة. مصر، 2008م، (5 / 2943).
(المصدر: مدونات الجزيرة)