“يد الله”.. تفكيك المعادلة الفكرية للصهيونية المسيحية
بقلم معاذ محمد الحاج أحمد
رويداً رويداً تكشف الأحداث المتسارعة حقيقة الموقف الأمريكي من إسرائيل، وهيمنة التيار الإنجيلي في الولايات المتحدة على دوائر صنع القرار؛ ذلك التيار المؤمن بأن خراب العالم، وتدمير الكون سيقوده جيل النهاية التاريخية تحضيراً لذروة المعركة الكبرى التي ستجري رحاها في فلسطين بين المؤمنين (معسكر الأخيار)، وغير المؤمنين (معسكر الأشرار)، وتنتهي بهزيمة الأشرار، وموت الملايين، واعتناق من بقي من اليهود المسيحية؛ ثم ينعم العالم بألف سنة من العيش السعيد تحت راية المسيحية حسب روايات صفر حزقيال، وصفر الرؤيا، وصفر يوحنا.
انسياب الأحداث في منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، وقدوم “ترامب” إلى واجهة السياسة الأمريكية، ونقل السفارة إلى القدس يشي بتحضيرٍ لاهوتيٍ لمسار التاريخ تغذيه نبوءات الكتاب المقدس التي وُضعت حيز التنفيذ بتفكيك الاتحادات الدولية والإقليمية، والتجمعات الكبرى؛ لدفع العالم إلى الفوضى والاضطراب، كتلك الحالة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية؛ وبذلك تكون الأجواء الدولية مهيأة لاستقبال حرب عالمية ثالثة تعبد الطريق لمعركة “هرمجدون”، والعودة الثانية للمسيح المخلص. يبدو أن التزاوج الأيديولوجي بين المسيحية الإنجيلية والصهيونية اليمينية بات أكثر استعداداً من أي وقت مضى لمحرقة عالمية يفتك فيها السلاح النووي بمئات الملايين من البشر.
بهذا التمازج العضوي بين معتقدات المسيحيين السماوية ومخططات اليهود الأرضية، وانصهار خطباء المحفل الإنجيلي بأمناء الهيكل اليهودي استشرى الدعم الأمريكي والغربي للمشروع الصهيوني؛ تمهيداً لأحداث الذروة والمحنة التي لا يمكن أن تجري إلا بقيام دولة إسرائيل. هذا المقال يحاول أن يستجلي الحقائق التي تحفز إدارة الولايات المتحدة على أن تغامر بجميع مصالحها الاستراتيجية، وتستعدي شعوب العالم خدمة لإسرائيل. كذلك نحاول هنا أن نكتشف بعض العناصر الغامضة، والمحركات الفكرية والأيدولوجية التي أوجدت حالة التزاوج الأبدي بين السياسة الخارجية الأمريكية والمخططات الصهيونية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، وتهويد القدس بشطريها الشرقي والغربي.
تلتقي “جريس هالسل”، مع الشاب العربي المسلم “محمود”، الذي سيصحبها في جولة دينية استكشافية تحاول فيها الكاتبة المقاربة بين قصص مدارس الأحد الإنجيلية، والتاريخ الحقيقي لفلسطين والمدينة المقدسة |
من هنا، سنقوم باستقصاء بعض الشواهد التاريخية، والمراجع السياسية التي تتناول جذور العلاقة الأيدولوجية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ودورها في تحفيز صانع القرار الأمريكي على اتخاذ قراره النهائي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة عاصمة موحدة للكيان الصهيوني. سنفرد في هذه المقالة زيارة خاصة لكتاب “يد الله: لماذا يصلي الملايين لتعجيل النشوة الدينية ودمار كوكب الأرض؟”، المنشور في أكتوبر 1999، للكاتبة الأمريكية “جريس هالسل”، التي عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق “ليندون جونسون”، وألفت العديد من الكتب السياسية والفكرية والأدبية، وأولت عناية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط والعلاقة الملتبسة بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وعلاقة الأخيرة بدول المنطقة العربية التي ينتابها الكثير من المد والجزر. تنقلت “جريس هالسل) بين لندن، وباريس، وبرلين، وطوكيو، وليما، وهونغ كونغ، والقدس، وهانوي، وهناك عملت مراسلة لتغطية مجريات الحرب، وتوثيق مشاهد قتل المدنيين بالنابالم.
تجري الكاتبة حواراً فكرياً حول طبيعة التغلغل الصهيوني في الولايات المتحدة، والتحول الكبير في المسيحية وانتقالها إلى مسيحية صهيونية متطرفة منكبة على نبوءات توراتية تغذيها امبراطوريات إعلامية وقيادات سياسية نافذة. وتظهر الكتابة كيف انتقلت العقيدة التدبيرية والولادة الثانية من المواطن والمثقف الأمريكي إلى دهاليز البيت الأبيض الذي بات جميع مرتاديه يُنظّرون في مجالسهم الخاصة وحواراتهم العامة لمعركة هرمجدون، ونهاية التاريخ لصالح المسيحية. تضع الكاتبة تساؤلاً مهماً حول ضرورة إعادة تعريف المسيحية في ضوء المتغيرات التي أصابت المجتمع الأمريكي بأسره، والتوافق في النسق الفكري بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية. تحاول الكاتبة أيضاً أن تسجل ملاحظاتها حول زياراتها المتكررة للقدس وفلسطين موردةً بعض الشواهد التاريخية على الوجود العربي الأصيل في فلسطين، ودور الاحتلال الإسرائيلي في انتزاع أراضي العرب وتهجيرهم قسراً تحت تهديد السلاح.
وجهاً لوجه تلتقي “جريس هالسل”، مع الشاب العربي المسلم “محمود”، الذي سيصحبها في جولة دينية استكشافية تحاول فيها الكاتبة المقاربة بين قصص مدارس الأحد الإنجيلية، والتاريخ الحقيقي لفلسطين والمدينة المقدسة. أقرت الكاتبة أن المعالم العربية والإسلامية ما تزال طاغية على المشهد العام في المدينة؛ فالأكثرية العربية عبر التاريخ هي الحقيقة الماثلة التي لا يمكن لأحد ادعاء بطلانها أو التشكيك بها.
تقول “هالسل”: (يستطيع محمود أن يعود إلى عشرة من أسلافه، فأجداده عاشروا في البيت، ولم يغادروه لأكثر من ثلاث مائة سنة). تسترسل الكاتبة في ذكر مشاهداتها للمسجد الأقصى وقبة الصخرة التي تشبه “تاج محل” في الهند من حيث فن الهندسة المعمارية، ومسجد عمر رضي الله عنه وغيرها من الدرر التاريخية والشواهد العربية. تقول مؤلفة الكتاب على لسان محمود: (إن الخلاف القائم بين العرب والمسلمين من جهة واليهود من جهة أخرى ليس لكونهم يهود، ولا مع الديانة اليهودية؛ فالأماكن المقدسة لدى اليهودية والمسيحية يعترف الإسلام بقداستها، والأنبياء الذين يقدسهم اليهود والمسيحيون يقدسهم المسلمون.
أجلى هذا الكتاب الحقيقة التاريخية المشتبكة عبر عقود من الزمن بأن اللاسامية (لاساميتان)، الأولى تحض على طرد اليهود من أوروبا والخلاص من شرورهم ودسائسهم، والثانية تبغض اليهود أيضاً لكنها تدعو إلى تحشيدهم في فلسطين
لا توجد حقوق مطلقة لأي أحد في فلسطين، فالسلطة العبرانية لم تدم سوى ستين عاماً). بطرح “هالس” لمسألة الحق المطلق في فلسطين، أعتقد أن الكاتبة قد وقعت في فخ عدم الإدراك الفعلي لأهمية حسم مسألة الحق التاريخي في القدس، ومحاولتها التوفيق بين السلطة العبرانية مقابل الولاية الإسلامية الشرعية على القدس، والخلط بين التوظيف السياسي والحق التاريخي والديني في الأرض المقدسة ولعلها الفقرة الوحيدة التي أتحفظ عليها. وتنقل الكاتبة “جريس هالسل”، عن أحد رفقائها في رحلتها إلى القدس يدعى “براد”، وهو إنجيلي من ولاية جورجيا، حيث يقول: (إن الله يقدر عودة اليهود إلى وطنهم، وقيام دولة يهودية في فلسطين، وعلى المسيحيين أن يبشروا للعالم بعقيدتهم المؤمنة بوجود إسرائيل).
تعرج الكاتبة على بعض مؤلفات التوراتي الأمريكي “هال ليندسي”، التي تتناول بالأساس تاريخ الشرق الأوسط والعالم، وتورد شواهداً من كتابه “الكرة الأرضية العظيمة السابقة”، حيث يزعم “ليندسي” (ان إسرائيل هي الخط التاريخي المعظم لأحداث الحاضر والمستقبل، وأنه آن الأوان لحدوث جميع النبوءات التي يتمركز بموجبها العالم حول منطقة الشرق الأوسط؛ سيما إسرائيل). تستدعي “هالسل” المزيد من الشواهد التاريخية على جذور الاعتراف الأمريكي بالقدس، والولع الأمريكي في تحريك مسار الأحداث نحو الصدام في الأرض المقدسة، حيث تنقل عن المؤلف “جون هاجي” في كتابه “الفجر الجديد” (إننا الآن في سباق نحو الكارثة).
لقد أجلى هذا الكتاب الحقيقة التاريخية المشتبكة عبر عقود من الزمن بأن اللاسامية (لاساميتان)، الأولى تحض على طرد اليهود من أوروبا والخلاص من شرورهم ودسائسهم، والثانية تبغض اليهود أيضاً لكنها تدعو إلى تحشيدهم في فلسطين وتجميع شتاتهم في الأرض المقدسة مهبط المسيح في مجيئه الثاني. وبذلك كشف التناقض الفكري القائم بشأن المسألة اليهودية حقيقة أخرى هي أن الإرهاب (ارهابان)، الأول ما يرتكبه الكيان الصهيوني اليوم من ذبح وتهجير وقتل للشعب الفلسطيني، والثاني التواطؤ والدعم الأمريكي المستمر للجرائم المتسلسلة التي تقوم بها إسرائيل تحت غطاء الغطرسة الأمريكية والهيمنة على القرار الدولي. وبمرور الوقت أصبحت الولادة الثانية، وعقيدة النار والكبريت، ومعركة هرمجدون، والنشوة الدينية، والمحنة الكبرى، وفوق كل ذلك إنجيل سكوفيلد ضميراً جمعياً ووجداناً دولياً يوجب دعم إسرائيل، والتزاماً عقدياً بحق شعب الله المختار في فلسطين، والقدس، وسائر البلاد العربية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)