مقالاتمقالات مختارة

وُلد مع إحياء الخلافة وحشَد المماليك لمقاومة التتار وفتح مجلسه للنساء.. ابن تيمية الإمام السلفي الذي رُشح لمشيخة الصوفية

وُلد مع إحياء الخلافة وحشَد المماليك لمقاومة التتار وفتح مجلسه للنساء.. ابن تيمية الإمام السلفي الذي رُشح لمشيخة الصوفية

بقلم إبراهيم الدويري

في يوم الاثنين 2 محرّم 683هـ/1284م بدار الحديث السكّرية الواقعة في حي القَصّاعين بدمشق؛ حضر جمْع من أئمة الوسط العلمي يتقدمهم قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزَّكِي الشافعي (ت 685 هـ/1287م)، والشيخ تاج الدين الفَزاري شيخ الشافعية (ت 690هـ/1291م)، والشيخ زين الدين ابن المرحّل الشافعي (ت 691هـ/1292م)، وزين الدين ابن الـمُـنْجَى الحنبلي (ت 695هـ/1296م)؛ جاء الجمع ليشهد أول حلقة تدريس يعقدها شاب في الثانية والعشرين من عمره اسمه أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، ويخبرنا الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ’تاريخ الإسلام’- بأن هذا الشاب “خضع العلماء لحسن درسه” في هذ اليوم الذي كان “يوما مشهودا”!

من تلك الحلقة وذلك التاريخ؛ لم يتوقف صوت ابن تيمية لحظة عن الصَّدْح بآرائه والصَّدْع بمواقفه، وبعد أن أُعِيد الجسدُ إلى التراب استطالت الشجرة، وطوال قرون انداحت فروعها في جنبات العالم الإسلامي وسَرَى رُوحُها فيها. جاء ابن تيمية من رحم العاصفة وهكذا كان مشروعه الذي نجم في لحظة قلق كبرى، وفي حياته كلها كان يمشي على وَتَرٍ مشدود فوق رمال متحركة من المعارك الفكرية التي كلما خَبَتْ تجدّدت وتأجّجت، وطاف في جغرافيا ساخنة بين الشام ومصر شاء القدَرُ أن تكون آخرَ مراكز المقاومة الحضارية للأخطار الغازية آنذاك.

كان ابن تيمية إذن هو ترجمان لحظة المقاومة تلك؛ فكان يجمع بين هموم المفكر وهمة المناضل، وأوْقَد في عصره -ولا يزال- ثورة فكرية وروحية، وفتح باب السؤال الاجتهادي وقد كاد أن يوصد، وكان -كما وصفه الذهبي- من “أئمة النقد” فحاكم تراث أسلافه والتراث اليوناني، وهو من مؤرخي الأفكار الكبرى في التاريخ الانساني، وله وقعه الخاص في رسم الخرائط الفكرية والمعرفية حيث تجده يعيد تفريع المدارس ويُمَوْضِعُها بحسب طبيعة كل خريطة.

وككل صاحب عباءة فكرية كبيرة؛ انتسب إلى ابن تيمية من أحسن التلقي عنه ومن أساء في تلمذته له، ومن أحاط بكليات مشروعه ومن اجـتزأ منها بتحكّم، ولا يمكن أن يلحق الرجلَ إلا ما قاله وهو جلي واضح، ولا أن يحاكَم إلا بما خطَّه وهو غزير موَّثق، ولا يسأل عن فهوم الآخرين ولا عما يكسبون.

ورغم ما كُتب عن هذا الإمام المؤثر في عصره والعصور التي تلته من مؤلفات وبحوث قديمة وحديثة، وصلت لأكثر من ألف عنوان -وهي في ازدياد مطّرد- بعدة لغات عالمية وإسلامية؛ فإن الصورة الذهنية عنه ظلت مشوَّشة لاستدعاء الباحثين والكتاب له غالبا في القضايا الجدلية والخلافات العقدية والمواقف السياسية والفكرية.

في هذا المقال؛ نسعى لرسم خريطة مفاهيمية لشخصية ابن تيمية وسيرته عبر سياقات ومواقف ونماذج توضح الأبعاد الكبرى التي اتسمت بها مسيرته؛ فهو عالم موسوعي، ومعلِّم مصنِّف، ومفكر ناقد، ومناظر بارع، وخطيب واعظ، ومصلح ناور بين الصدع بالنصيحة في قصور الحكام ودفع ضريبة ذلك بالمصابرة في السجون، والانخراط في سُوح الجهاد والمقاومة على جبهات الثغور.

وإننا -في تطوافنا حول بعض عوالم ابن تيمية- لا نرى أننا أحطنا بما يكفي من معالم مشروع هذا الإمام، ولكننا حرصنا على الإتيان بكل ما يمكن أن يؤطر لنا سيرة ومسيرة رجل ترك في الدنيا دَوِيًّا لا يزال يملأ أرجاءها ويشغل الناس!

نشأة عاصفة
في يوم 10 ربيع الأول 661هـ/1263م وُلد صاحبنا أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية بمدينة حرّان (= تقع اليوم جنوبي تركيا)، بعد أسبوع واحد من إعلان مقتل الخليفة المستنصر بالله الثاني (ت 660هـ/1262م) الذي ببيعته -في القاهرة يوم 13 رجب 659هـ/1261م- أعلِنت عودة الخلافة العباسية بتدبير من السلطان المملوكي الظاهر بِيبَرس البُنْدُقْداري (ت 676هـ/1277م)؛ بعد أن اختفت هذه الخلافة مدة سنتين إثر تقويض المغول أركانها في بغداد سنة 656هـ/1258م.

ولعل في تزامن وقوع هذين الحدثين في أسبوع واحد ما يشي بمركزية السياق التاريخي في تحليل أبعاد شخصية صاحبنا، وضخامة وتشعب مسارات المهمة التي سيضطلع بها في حياته؛ منذ أن وعى حركةَ الأحداث من حوله، بدءا من النزوح الاضطراري الذي ألجِئت إليه عائلته -سنة 667هـ/1269م- فغادرت مرابعَها في حَرّان إلى الشام طلبا للأمان من هجمات التتار، فـ”ساروا بالليل ومعهم الكُتُب على عجلة لعدم الدَّواب فكاد العدو يلحقهم”؛ حسبما يرويه ابن عبد الهادي المقدسي (ت 744هـ/1344م) في ’مختصر طبقات الحديث’.

قاد آلَ تيمية في رحلة النزوح الخطرة تلك والدُ صاحبنا المفتي الحنبلي ذو الفنون عبد الحليم ابن تيمية (ت 682هـ/1283م) الذي كان “شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد موت والده”؛ وفقا للذهبي في ’العِبَر‘. وفي وصفه والدَ ابن تيمية بأنه “حاكم حران” ما يستدعي التوقف عنده لفهم علاقة هذه الأسرة -وهي المشهورة بالعلم المتسلسل في أجيالها- بقضايا السياسة وشؤون المجتمع العامة، وتلك هي الأبعاد الثلاثة الملخصة بكثافة لشخصية صاحبنا والتي أهّلته بجدارة لحمل لقب “شيخ الإسلام”.

أما طريقه إلى نيل ذلك اللقب فكان يحتاج إلى عصامية وغرام عارم بالتميز المعرفي؛ ويخبرنا المؤرخ الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ’أعيان النصر’- عن شغف شيخه ابن تيمية بالعلم منذ صغره؛ فيقول عنه: “وكان من صغره حريصا على الطلب، مـُجِدًّا على التحصيل والدأب، ولا يؤْثر على الاشتغال (= الدراسة) لذةً، ولا يرى أن تضيع لحظة منه في البطالة فَذَّةً، يذهل عن نفسه ويغيب في لذة العلم على حسه، لا يطلب أكلا إلا إذا حضر لديه”.

وحين غاب عن رحلة نزهة لأهله وعاتبوه على ذلك؛ أجابهم قائلا: “أنتم ما تزيَّد لكم شيء ولا تجَدَّد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد؛ وكان ذلك الكتاب: “جَنَّة الناظر وجُنَّة الـمُناظر”” لموفق الدين ابن قدامة المقدسي (ت 620هـ/1223م).

ولم تذكر كتب التراجم الكثيرة التي أرَّخت لابن تيمية تفاصيل غالبية شيوخه في العلوم رغم كثرتهم، ومن اللافت أيضا أنه لا يعتني بذكر شيوخه في مصنفاته رغم عددهم الوافر، إذْ كان “شيوخه أكثر من مئتيْ شيخ”؛ حسبما نقله ابن ناصر الدمشقي (ت 842هـ/1438م) -في ‘الرد الوافر‘- عن الذهبي.

كان عامل الذكاء والشغف بتحصيل العلم من أقوى عوامل موسوعية ابن تيمية وتصدره العلمي المبكر جدا؛ فالذهبي يقول -في كتابه ‘ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية‘- محددا متى بدأ شيخه التدريس والتأليف: “فأفتى وله تسع عشرة سنة بل أقلّ، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت..، ومات والده -وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم- فدرس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتُهر أمره وبعُد صيته في العالم”.

وقد أجمع مترجمو ابن تيمية على وصفه بالموسوعية والإحاطة بمعارف عصره مع ملكة نقدية لا يقف أمامها علماء مذهب ولا حمَلة فكر؛ فهو -حسب الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ’ذيل تاريخ الإسلام’- كان “من أئمة النقد ومن علماء الأثر… والفقه ودقائقه وقواعده وحججه والإجماع والاختلاف حتى كان يُقضَى منه العجب..، وحُقَّ له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه. وأما أصول الديانة ومعرفتها ومعرفة أحوال.. أنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشَقّ فيه غبارُه ولا يُلحَق شأوُه”!

موسوعي ناقد
يصف العمري شيخه بأنه كان عارفا بـ”الأصلين والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق، وعلم الهيئة (= علم الفَلَك) والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابيْن (= اليهودية والنصرانية) وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية”.

ويتراءى للباحث في أبعاد موسوعية ابن تيمية الناقدة أن ثمة ثلاثة عوامل تضافرت لتحقيقها: العامل الأول: البيئة الأسرية العلمية التي نشأ فيها؛ فقد كان آل تيمية أسرة علمية عريقة في المذهب الحنبلي؛ فأمه سِتُّ النِّعَم بنت عبد الرحمن الحرانية (ت 716هـ/1316م) “الشيخة الصالحة” -بتعبير ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘- هي التي نذرته مبكرا لخدمة العلم وتحصيله، ووالده عبد الحليم كان مفتي حَرّان وخطيبها؛ كما رأينا.

والعامل الثاني في موسوعية الرجل هو البيئة العلمية في دمشق التي قدِم إليها وهو ابن سبع سنين؛ ففيها -حسب الذهبي في ’ذيل تاريخ الإسلام’- سمع من “خلق كثير، وأكثرَ وبالغَ، وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب..، ونظر في الرجال والعِلَل وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر، مع التدين والنبالة”.

أما ذكاء ابن تيمية فكان سمة فارق بها غيره طوال تاريخه العلمي، وهو العامل الثالث من عوامل موسوعيته الذي غطّى على غيره؛ فقد تواتر وصفه بقوة الذكاء في صيغ عديدة دبّجها مترجموه فيما كتبوه عنه، ومن ذلك قول الذهبي -في ’تذكرة الحفاظ‘- إنه كان “من الأذكياء المعدودين”. ونوّه ابن عبد الهادي -في ’العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية’- بـ”فَرْط ذكائه وسَيَلان ذهنه وقوة حافظته وسرعة إدراكه”.

غطى ابن تيمية -بنبوغه وموسوعيته- على دور عائلته بمن فيها والدُه الذي مهر على يديه في الفقه، كما حجب الأضواء عن شيوخه وعلماء عصره؛ وهو ما عبّر عنه يقول المؤرخ الجغرافي ابن فضل الله العمري (749هـ/1349م) -في ’مسالك الأبصار’- بقوله إنه “جاء في عصر مأهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء..، إلا أن صباحه طَمَسَ تلك النجوم..؛ ثم عُبِّئتْ له الكتائب فحَطَم صفوفها..، وأخمدت أنفاسَهم ريحُه، وأكمدت شراراتَهم مصابيحُه”!

وإلى ذلك؛ فإن نزعة ابن تيمية الاجتهادية وذهنيته الناقدة جعلت حضوره الشخصي أقوى من كل المؤثرين فيه، وتميزت موسوعيته العلمية بالنقد والنظر، إذْ “كان إماما لا يلحق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين”؛ كما في ’مختصر طبقات الحديث’ لابن عبد الهادي.

وينقل الأخير عن الذهبي ما يفيد بأن هذه الموسوعية هي التي جعلت ابن تيمية متفوقا على خصومه العلميين، فهو إذا “ذُكِر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عُدّ الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفّاظ نطقَ وخرسوا..، وإن سُمِّي المتكلمون فهو فرْدُهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا (ت 428هـ/1038م) يَقْدُم الفلاسفةَ فَلَّهم.. وهتك أستارهم وكشف عُوارهم”!

منابر مشهودة
من ملامح التاريخ الثقافي المهم في حضارتنا اهتمام العلماء -من مختلف المذاهب- بحضور دروس ترسيم المتصدِّين للعلم والمتصدرين للإفتاء ورقابتهم العلمية الصارمة عليها، ولا سيما أولئك الذين لفتوا الأنظار في سن مبكرة مثل ابن تيمية؛ فكان أعلام دمشق ينتظرون شهود درسه الرسمي الأول بعد خلافته لمركز والده العلمي وهو الثانية والعشرين.

انعقد هذا الدرس يوم الاثنين 2 محرّم سنة 683هـ/1284م وكان درسا هائلا حافلا، على النحو الذي صدّرنا به هذا الحديث؛ فقد “كتبه الشيخ تاج الدين الفَزَاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون، وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره”؛ وفقا لتلميذه ابن كثير.

ومنذ أول يوم دخل فيه ابن تيمية الفضاءَ العلمي العام؛ صار اعتلاء المنابر وإلقاء الدروس وتفقيه الناس وإصلاح المجتمع وإرشاد العامة ونصح حكامها قضايا محورية في سيرته ومسيرته، على غرار سِيَر المصلحين والمجددين في كل عصر. ومن لطائف شغفه بالدروس وإحياء المنابر ما ذكره ابن كثير من أنه كان أثناء اعتقاله بمصر إذا وَجد فرصة فإنه “يحضر الجُمُعات ويعمل المواعيد (= المحاضرات الأسبوعية) على عادته في الجوامع”.

وهذه العادة المستحكمة جعلته يضيف إلى الدروس -التي خلف فيها أباه- جلوسَه “يوم الجمعة عاشر صفر (سنة 683هـ/1284م) بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيئ له لتفسير القرآن العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير من كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوعة المحررة، مع الديانة والزهادة والعبادة. سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان، واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة”.

لم تكن دورس ابن تيمية كلاما يردَّد ونصوصا تعاد، بل كان قوي التأثير ولدروسه صدى في أرجاء دمشق والحواضر الإسلامية؛ فكان مشتغلا “بالله تعالى والتجرد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم، فانتفع [الناس] بمجلسه.. وموافقة قوله لعمله وأناب إلى الله خلق كثير”؛ حسب ابن عبد الهادي في ’العقود الدرية‘.

أجّج ابن تيمية بدروسه قلقا معرفيا ودفْعاً روحيا في العالم الإسلامي، وأثار تساؤلات وجدد أجوبة لأخرى قديمة؛ فقد كان يرى أولويةَ إعادة ضبط فوضى الأفكار التي كانت تضرب المشهد العلمي، وضرورةَ تأسُّس الإصلاح الثقافي والمجتمعي والسياسي على أرضية فكرية مستوية، بعد إزالة ركام التشوهات التي لحقت بالعقل المسلم طوال قرون من تداخل الثقافة الأصيلة بالسلبي من المناهج الدخيلة.

وخير من يخبرنا عن ملامح ذلك القلق المعرفي والزخم الروحي هو تلميذه الصفدي الذي ذكر -في ’الوافي بالوفيات’- أنه بعد طرحه عدة مسائل مشكلة على ابن تيمية كان إذا رآه يقول له: “أيش حس الإيرادات [عندك]؟ أيش حس الأجوبة؟ أيش حس الشكوك؟ أنا أعلم أنك مثل القِدْر التي تغلي تقول: بق بق بق، أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، لازمني.. لازمني تنتفع”! ويضيف الصفدي: “كنت أحضر دروسه ويقع لي في أثناء كلامه فوائد لم أسمعها من غيره ولا وقفت عليها في كتاب”!

“أسلمة” معرفية
أضاف ابن تيمية إلى إلقاء الدروس والمواعظ جهوده الحثيثة في إحياء العلوم في الشام والأمصار الإسلامية، حسبما يستفاد من تلخيص الذهبي -في رسالته ’الأمصار ذوات الآثار’- لتاريخ ازدهار العلوم وانحسارها في دمشق التي قال إنها “تناقص العلم بها في المئة الرابعة والخامسة، وكثُر بعد ذلك ولا سيّما في دولة نور الدين (زنكي ت 569هـ/1173م)، وأيام محدّثها ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) والمقادسة [الحنابلة] النازلين بسفحها، ثم تكاثر بعد ذلك بابن تيميّة والمِزّي (الشافعي ت 742هـ/1342م) وأصحابهما”.

وتنبع قيمة الإضافات الحقيقية التي أتحف بها ابن تيمية قراءَه من كون مؤلفاته -بموسوعاتها ورسائلها- ظلت دائما تنطلق من حاجات واقع يعيشه هو وتحياه الأمة، وذلك مقارنة بمعاصريه من علماء القرن الثامن/الـ14 الميلادي الذين ظلوا في الغالب يتحركون في إطار مقررات الدرس الفقهي المألوف.

فالمؤرخ الصفدي حين قدم لنا خلاصة عن رجال عصره المليء بالعلماء قال: “وعلى الجملة؛ فكان الشيخ تقيُّ الدين ابن تيميَّة أحد الثلاثة الذين عاصرتُهم ولم يكن في الزمان مثلُهم -بل ولا قبلَهم- من مئةِ سنة؛ وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م)، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي (ت 754هـ/1353م)”.

وحين نتأمل مؤلفات هذين الإمامين العظيمين وغيرهما نجد أن أغلبها اتجه لشرح نصوص الوحي أو المتون، أما ابن تيمية فرغم ما ذُكر في عناوين مصنفاته -التي تجاوز عددها المرصود الثلاثمئة- من شرحه لبعض متون المذهب الحنبلي؛ فقد كانت إضافته الحقيقية في التأليف -مع ما قدمناه- هي أن مصنفاته جاءت استجابة لوقائع معينة حصلت في بيئته العلمية والمجتمعية، كما كانت فتاواه وآراؤه تصاغ في شكل رسائل إصلاحية وقواعد كلية ناظمة لقضية من القضايا المثيرة للجدل في مجتمعات عصره.

وهذا ما يفسر لنا تعدد ذكر البلدان في أسماء مؤلفاته كـ‘القبرصية‘ و‘الطبرستانية‘ و‘الواسطية‘ و‘المـَدنية‘ و‘البعلبكية‘ و‘المراكشية‘؛ فهي كانت إما رسائل إلى ملوك زمانه حتى من غير المسلمين كالرسالة ‘القبرصية‘، أو فتاوى وإجابات لأسئلة أهالي تلك الأقاليم التي نراها تمتد من طبرستان (= تقريبا شمال شرقي إيران اليوم) إلى مراكش بالمغرب الأقصى، مما يلقي ضوءا على اتساع انتشار صيت الرجل العلمي وتأثيره الإصلاحي في حياته!

ونجد في جدالات ابن تيمية للفِرَق الإسلامية واليهود والمسيحيين ومحاكماته للفكر الفلسفي والمنطقي اليوناني اتجاها نحو تقعيد العلوم في ضوء الوحي وقواعد العربية الخالصة، ولعل هذا ما لخصه قول محمد بن قوام البالسي (ت 718هـ/1318م): “ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية”؛ طبقا لابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ’ذيل طبقات الحنابلة’.

وهذه “الأسلمة” التي قصَدَها البالسيُّ تشير -في رأينا- إلى أمرين في غاية الأهمية لفهم تأثير ابن تيمية؛ الأمر الأول: تخليصه علوم الإسلام من سطوة التأثير السلبي للفكر اليوناني والثقافات الوافدة التي تسللت إلى علوم المسلمين مع المترجَمات، وحاولت الانفراد بالقضايا العقلية وبالأخص منطق اليونان الذي نقضه ابن تيمية في كتابه ‘الرد على المنطقيين‘؛ وكذا تخليصها من الشوائب التي دخلتها عبر حِجاجه المستفيض والمؤصَّل للطوائف الإسلامية من متكلمين ومتصوفة وفقهاء مقلدين.

والأمر الثاني: هو بعث الروح في هذه العلوم وإخراجها من حيز المدارسة إلى الممارسة ومجابهة الواقع وتعقيداته في القرن الثامن/الـ14 الميلادي الذي ورث من سابقه تحولات كبرى متعددة أثّرت فيه وفيما بعده من القرون.
منهجية جديدة
ونرى أن من إضافات ابن تيمية المحورية في تطور العلوم و”أسلمتها” غرامه اللافت بتاريخ الأفكار والمذاهب، وذكر حيثيات نشأتها وتطوراتها وصيرورتها، ومقارنات رؤى المذاهب والفِرَق فيها، ورصد التوافقات والتباينات المنهجية بشأنها حتى داخل المدرسة الواحدة، والاهتمام بصياغة الخلاصات المعرفية والأحكام التقييمية والتصنيفات المنهجية، والعناية بكشف موارد العلماء المعرفية التي اعتمدوا عليها في مصنفاتهم واستقَوْا منها أفكارهم؛ كما فعل -في ‘مجموع الفتاوي‘- مع الإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) حين تتبع المصادر المنوعة التي جمع منها ذخيرة آرائه التصوفية.

فمن نماذج تقعيداته وخلاصاته المنهجية الجامعة قوله: “فلا بد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من نوع تنازع، لكن لا بد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة، كما أنه لا بد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف، لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق” (مجموع الفتاوى). وكذلك رأيه في أن “المعتزلة أبعد الناس عن الصوفية” (مجموع الفتاوى)؛ وأن “أعظم المتكلمين المعظِّمين للطرق العقلية هم المعتزلة” (كتاب درء تعارض العقل والنقل)؛ ومثل قوله: “وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى” (كتاب درء تعارض العقل والنقل).

ومن ذلك أيضا قوله -في ‘مجموع الفتاوى‘ محدِّدا مصدر بعض الاصطلاحات الدارجة في مناهج البحث الشرعية- إن “المسائل الخبرية (= العقائد) قد تكون بمنزلة المسائل العملية؛ وإن سُميت تلك “مسائل أصول” وهذه “مسائل فروع” فإن هذه تسمية محدثة قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب؛ لا سيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة. وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها” (مجموع الفتاوى).

ويمتاز ابن تيمية -في عرضه لآراء المذاهب والفرق- بقدرته على تركيب وتفكيك جبهات الرأي المنهجية، لافتا إلى مواقف التلاقي أو التلاغي بين بعض الفرق التي كثيرا ما شاع اعتبارها مختلفة أو مؤتلفة بإطلاق، وخاصة بين المتكلمين وأهل الحديث/الحنابلة. ولذلك كثيرا ما نجد عنده أمثال التعبيرات التالية: “وأما السلف والفقهاء والصوفية والعامة وجمهور المتكلمين فعلى إنكار هذا القول” (مجموع الفتاوى)، و”منهم من لا يعرف إلا طريقة النظر والقياس ابتداء كجمهور المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وبعض الحنبلية” (مجموع الفتاوى)؛ ومنه أيضا قوله: “والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرعٌ على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية -فيما يحتجون به من القياس العقلي- فرع عليهم (= الأشعرية)” (مجموع الفتاوى).

وقد أتاحت لابن تيمية سعةُ اطلاعه على مدونات الحديث وتراث القرون الإسلامية -السابقة على عصره- أن يُكثر من الإطلاقات الحُكْمية في كتبه؛ فلا يندر مثلا أن تراه يقول إن “هذا الخبر لا يُعرَف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرَف عالم من علماء الحديث رواه” (منهاج السنة)؛ أو قوله: “وهذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة” الفقهاء؛ وقوله: “ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط” (مجموع الفتاوى).

وقد جاء في نص أورده ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ’مدارج السالكين’- للدلالة على جود شيخه بالعلم، ونذكره نحن هنا للبرهنة على اهتمام ابن تيمية بتفاصيل تاريخ الأفكار: “ومن الجود بالعلم أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيتَ له جوابَها جوابًا شافيًا..، ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية.. في ذلك أمرًا عجيبًا، كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة -إذا قَدَر- ومأْخَذَ الخلاف، وترجيح القول، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته”!

ويبدو أن غرام ابن تيمية بتاريخ الأفكار لم يكن بالأمر المتقبَّل لدى جمهور علماء عصره؛ فقد أخبر ابن القيم أن “خصومه يعيبونه بذلك، ويقولون: سأله السائل عن طريق مصر مثلا فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند، وأيُّ حاجةٍ بالسائل إلى ذلك؟!”.
جماعة متمايزة
تقتضي طبيعة الدعوات -إصلاحية أو غيرها- أن يجتمع أهلها على مبادئ وموجهات يلتزمون بها في مسيرتهم، وهي ظاهرة عُرفت إسلاميا مع تشكل الفِرَق العقَدية والمذاهب الفقهية وازدهار الطرق الصوفية وكثرة مريديها، لكن “الجماعة التيمية” كانت -في اشتباكها مع الأفكار والأحداث الجارية في مجتمعها- أقرب لروح وفاعلية التنظيمات المعاصرة، وذلك لثورة شيخها العارمة على آفة التعصب المذهبي ومناوأته الطويلة لبعض الطرق الصوفية، ثم لما بين أيدينا من أدبيات هذه الجماعة والوقائع التي شاركت فيها في حياته، وما لقيته من أذى جماعي في سبيل المبادئ التي دعا إليها مؤسسها.

تطرق ابن تيمية لموضوع التحزب الممدوح والمذموم في فتاويه وردوده على أسئلة عن معاني “الفتوة” وألفاظ “الزعيم” و”الكفيل” و”القبيل”. وكانت فتواه -في ’مجموع الفتاوى’- فتوى مقاصدية لم تقف عند جمود الحروف وأشكال المظاهر، فرأى أن المتحزبين إن “كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان”.

وتفيد رسائل ابن تيمية التي كان يكتبها لأصحابه من معتقله بمصر ما بين سنتيْ 705هـ-708/1305-1308م أنه يقود بالفعل جماعة شبه “منظمة”، يشرح لهم فيها ما أنعم الله به عليه في السجن كالمثبِّت لهم؛ ففي ’مجموع الفتاوى’ ورد نص “رسالة من شيخ الإسلام إلى أصحابه وهو في حبس الإسكندرية” يقول في بدايتها: “{وأما بنعمة ربك فحدث}؛ والذي أعرِّف به “الجماعة”.. أني.. في نِعَمٍ من الله ما رأيت مثلها في عمري كله”!

وفي رسالة أخرى يعتذر الشيخ عن عدم اللقاء بأصحابه ويصدر لهم أوامر “القائد” لأتباعه؛ فيقول: “والمقصود إخبار ”الجماعة” بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير كثير..، وإن لم يمكن خدمة الجماعة باللقاء فأنا داعٍ لهم بالليل والنهار قياما ببعض الواجب من حقهم..؛ والذي آمر به كل شخص منهم أن يتقي الله، ويعمل لله مستعينا بالله مجاهدا في سبيل الله، ويقصد بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا”.

وفي الوقائع التي عاصرها ابن تيمية يُكثر مترجموه ذكْرَه مقرونا بأصحابه أو جماعته؛ ومن ذلك الفصل الذي كتبه خادمه إبراهيم بن أحمد الغَيَّاني (ت بعد 730هـ/1330م) بعنوان ’فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الأحجار’ التي كان يزورها الناس ويتبركون بها، ونقله ابن عروة المشرقي الحنبلي (ت 1112هـ/1700م) في ‘الكواكب الدراري‘.

فقد ذكر الغَيَّاني فشل الوساطة التي قام بها شمس الدين محمد بن أحمد الدَّبَاهيّ البغدادي (ت 711هـ/1311م) بين ابن تيمية وشيخ المشايخ الصوفية أبي الفتح نصر بن سليمان المـَـنْبِجِي (ت 704هـ/1304م)؛ ثم قال: “فسيّر الشيخ نصر [المـَـنْبِجِي] إلى والي المدينة أن يكبس (= يقتحم) بيت ابن تيمية ويمسك أصحابه ويحطَّهم في الحبس، فسيّر الوالي نائبه فكبس البيت. وكان قصدهم أن يمسكوا شرف الدين (ابن تيمية ت 727هـ/1327م) أخا الشيخ فهرّبوه من فوق السطح، وأمسَك [النائبُ] أصحابَ الشيخ وجاء بهم إلى الوالي فحطّهم في قاعة عند بيته، ومنعوا الناس من الدخول إلى عند الشيخ، ثم بعد أيام عُزل الوالي فسُيِّب (= أطلق) الجماعة”.
أدبيات خاصة
ويكفي ما في هذه الفقرة من الدلالة على حضور البعد شبه “التنظيمي” لدى أصحاب الشيخ ابن تيمية، وفي وقت مبكر من حياته لأن الواقعة حصلت قبل وفاة المـَـنْبِجِي سنة 704هـ/1304م. وأما الرسالة التي كتبها العلامة أحمد بن إبراهيم الواسطي (ت 711هـ/1311م) -بعنوان ’التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار’- فيمكن اعتبارها “التقرير المذهبي” الموجِّه أدبيا لسلوك الجماعة، وقد أورد فيها أسماء كبار أعضائها ووصفهم بأنهم “إخوانه في الله السادة العلماء، والأئمة الأتقياء”.

ويدعو الواسطي “أصحاب الشيخ” إلى التوسط بين الرهبنة الخالصة والانهماك المفرط في الدنيا، وذلك بقوله “وليكن شأن أحدنا اليوم: التعديل (= الموازنة) بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية، والتوجهات القلبية، ولا يقنع أحدنا بأحد هذه الثلاثة عن الآخرين، فيفوته المطلوب”.

ويبلغ حضور المنزع التنظيمي وميزته الشعورية مداهما عند الواسطي حين يخاطب “إخوانه” قائلا إنهم أصبحوا “تحت سَنْجَق (= راية) رسول الله صلى الله عليه وسلم -إن شاء الله تعالى- مع شيخكم وإمامكم وشيخنا وإمامنا..، قد تميزتم عن جميع أهل الأرض -فقهائها.. وصوفيتها وعوامّها- بالدين الصحيح”، ثم يوضح معالم تميُّزِهم عن جميع هذه الفئات ذاكرا بالأسماء عددا من الطرق الصوفية.

وهذا مع التذكير الدائم بمنة الله على أهل المئة السابعة بوجود مثل ابن تيمية عموما، وما خص الله به أصحابه خصوصا في إقامتهم لنصرة الدين الحق، ثم إن الواسطي لا يفتأ يذكِّر إخوانه بما هم عليه من قيام “بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والإجحافات، وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله بما أمكن”.

ولئن كان غالب من ذكر الواسطي في رسالته بالاسم من الحنابلة ما عدا شافعيا واحدا؛ فإن  الجماعة التيمية كانت عابرة للمذاهب، وكان كثير منهم شوافع مع أن قضاة الشافعية وفقهاءها كانوا رؤوس المتصدّين لنشاط ابن تيمية، فرسالة قوام الدين عبد الله بن حامد (ت قبل 758هـ/1357م) -وهو أحد أعلام الشافعية بالعراق كان يلقب ابن تيمية بـ”إمام الدنيا”- إلى ابن رُشيِّق المغربي المالكي (ت 749هـ/1348م) -الذي يصفه ابن كثير بأنه “كاتب مصنفات شيخنا ابن تيمية” في حياته- تكفي دلالة على عبور الدعوة التيمية للمذاهب، مما جعلها مدرسة فكرية جامعة أكثر من كونها مذهبا فقهيا منغلقا.

وإضافة إلى كتبه الخاص ابن رُشيِّق المغربي؛ اكتسب الشيخ أصحابا وأنصارا له من المنتسبين إلى المذهب المالكي، رغم أن ثلاثة من علماء المالكية -وهم: علَم المتصوفة أبو الفضل أحمد ابن عطاء الله السكندري (ت 709هـ/1309م) وقاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف (ت 718هـ/1318م) وقاضي القضاة تقي الدين محمد ابن الإخنائي المتوفى سنة (ت 750هـ/1349م)- كانوا من أكابر خصومه الذين تولوا الشكاية منه إلى السلطة، أو ناظروه في مجالسها، أو نظروا قضائيا في الدعاوى المرفوعة عليه في محاكماتها.

وكان من أصحابه المالكيين مشاهير من ذوي الأصول الأندلسية، مثل الحافظ والمؤرخ ابن سيّد الناس (ت 734هـ/1334م) ومحمد بن جابر الوادي آشي (ت 749هـ/1348م)، كما نال دعماً علميا من بعض زملائهما في المذهب مثل إماميْ محراب المالكية بالمسجد الأموي: المفتي أبي عمر أحمد بن أبي الوليد الإشبيلي الدمشقي (ت 745هـ/1344م) وأخيه أبي محمد عبد الله بن أبي الوليد (ت 743هـ/1742م)، اللذيْن زكّيا فتوى ابن تيمية في “مسألة شد الرحال”.

ومن الطبيعي أن يكون الحنابلة والشوافع أكثر أتباع ابن تيمية لانتشار المذهبين في الشام وجواره المصري والعراقي؛ فابن القيم أشهر أصحاب الشيخ من الحنابلة، وابن كثير والذهبي من أعلام الشافعية الذين اعتنقوا فكر الشيخ ومبادئه الإصلاحية، كما أن بعض فقهاء الحنفية انضموا للدعوة التيمية مثل علاء الدين مُغْلَطَايْ الحنفي (ت 762هـ/1361م).

“رجل ملة”
لن نتوقف كثيرا في هذه الفقرة مع مواقف ابن تيمية في الصدع بالحق ومواجهة حكام زمانه، ولا مع مواقفه البطولية في الجهاد وصدّ الأعداء الغزاة؛ إلا بالقدر الذي يوضح لنا علاقة ابن تيمية العالم الفقيه بتشعبات السياسة وتوجيه الجماهير، مستحضِرين أنه في هذا كان وارثا طبيعيا لتراث ضخم من الإيجابية العلمائية تركه أئمة شاميون تزامن ميلاده ونشأته مع رحيلهم، من أمثال عز الدين بن عبد السلام (ت 660هـ/1262م) والنووي (ت 676هـ/1275م).

أما ارتباط الشيخ بتفاصيل الأحداث السياسية في ذلك فقد اشتهر ونقله أصحابه والمترجمون لسيرته والمؤرخون لعصره. ومن ذلك ما يخبرنا به ابن عبد الهادي -في ’العقود الدرية’- من أنه في “أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمئة (702هـ/1302م) كانت وقعة شَقْحَب (= قرية تبعد اليوم عن دمشق 38كم جنوبها) المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته ونهاية كرمه…؛ ما يفوق النعت ويتجاوز الوصف”.

وينقل لنا ابن عبد الهادي عن أحد أصحاب ابن تيمية -وكان ممن حضر معه وقعة شَقْحَب- انبهاره بـ”كثرة من حضرها من جيوش المسلمين”؛ ثم أورد حديثه عن مكانة شيخه عندهم فـ”قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين”.

ولعل إقبال هؤلاء السلاطين وأتباعهم على ابن تيمية وشدة اعتقادهم فيه هو ما جعله يقول للمعجبين به والمادحين له كلمته المأثورة التي أوردها ابنُ عبد الهادي في ‘العقود الدرية‘: “أنا رجل ملة لا رجل دولة”! وذلك بعد دخول “جيش الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة والشيخ في أصحابه شاكِياً (= لابساً) في سلاحه داخلا معهم، عالية كلمته قائمة حجته، ظاهرة ولايته مقبولة شفاعته، مجابة دعوته ملتمسة بركته، مكرَّما معظَّما، ذا سلطان وكلمة نافذة”!

فهل كانت كلمة ابن تيمية هذه “أنا رجل ملة لا رجل دولة” التي خاطب بها أتباعه ومحبيه -وهو بين أمراء الترك والعرب- حسًّا سياسيا من الشيخ أثارته خشيتُه من أن يؤجِّج ألقهُ الجماهيريُّ نارَ الغِيرة لدى هؤلاء الأمراء؟ خاصة أن الجميع في ساعة هم أحوج ما يكونون فيها للوحدة والتكاتف في مواجهة التتار؛ أم هي نفي لتهمة منابذة الأمراء والسعي إلى تولي سدة الحكم التي طالما اتـُّهم بها الشيخ لإقدامه وجرأته في قول الحق ومواجهة الطغاة والغزاة؟ أم إنها تأكيد لما قاله تلميذه ابن الوردي (ت 749هـ/1349م) -في ’تتمة المختصر في أخبار البشر’- من أن ابن تيمية لم يكن بالفعل “من رجال الدول..، وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زماننا ولا علومهم”!

ورغم اشتباك ابن تيمية المرير مع فقهاء زمانه الذين ظلوا يستقوون عليه بالسلطة غالبا؛ فإن علاقته بها ظلت محكومة بخيط رفيع من التوازن والبعد عن الصدام معها أو التوظيف لخدمتها، وبما ينطبق مع قاعدته التي أرساها في كتابه ‘السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية‘، والقاضية بأنه “إنْ انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس”.

نظرة متوازنة
ومن تجليات استقلاليته عن السلطة أنه وهو في الثلاثين من عمره “عُرِض عليه قضاء القضاة قبل التسعين (سنة 690هـ/1291م)، و”مشيخة الشيوخ” (= مشيخة الصوفية)، فلم يقبل شيئا من ذلك”؛ وفقا لابن رجب الحنبلي في ’الذيل’. ومن المعروف أن “مشيخة الشيوخ” هي الهيئة الرسمية المشرفة على شؤون الطرق الصوفية، وبتعبير القلقشندي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- فإن “مشيخة الشيوخ موضوعها.. التحدث على جميع الخوانق (= زوايا الصوفية) والفقراء بدمشق وأعمالها”.

ومع رفضه للرأي الفقهي المانع بإطلاق لدخول العلماء على السلاطين لاعتباره -حسب ابن مفلح الجنبلي (ت 763هـ/1362م) في ‘الآداب الشرعية‘- أن “الاجتماع بالسلطان من جنس الإمارة والولاية، وفعلُ ذلك لأمْره [بالمعروف] ونهْيه [عن المنكر] بمنزلة [تولِّي] الولاية بنية العدل وإقامة الحق”؛ فقد عُرف برفضه لهدايا السلاطين وأعوانهم رغم تأكيده -في ‘الفتاوى‘- أن المستحقّين الشرعيين لأخذ “الأرزاق من بيت المال.. ما يأخذونه ليس مُلْكًا للسلطان، وإنما هو مال الله يقسمه وليُّ الأمر بين المستحقين”.

في النصف الأخير من حياته؛ تكرَّرت حالات سجن ابن تيمية -منذ محاكمته الأولى سنة 698هـ/1299م- فبلغ مجموع المدة التي قضاها في السجون خمس سنوات متقطعة على فترات بين سنتيْ 705-728هـ/1305-1328م، لكن هذا العدد يزيد بمُدَد الإقامة الجبرية على عشر سنوات (= 30% من عمره العلمي!!)، وتراوحت القضايا المسجون بسببها بين العقيدة والفقه والتصوف، كما توزعت أماكن السَّجن وتحديد الإقامة بين الشام ومصر.

وينفرد الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ترجمته للشيخ من ’الدرر الكامنة’- بتعليل وتحليل طريفين لتكرُّر سجن الشيخ؛ فيقول: “ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى (= الخلافة)، فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت (= محمد بن تَوْمَرْتْ مؤسس دعوة الموحدين بالغرب الإسلامي والمتوفى 525هـ/1131م) ويُطْريه، فكان ذلك مؤكِّدا لطول سجنه”!!

على أن ما نقلناه هنا عن ابن حجر يبدو بعيدا عما تضمنه كلام ابن تيمية المتقدم من اعترافه بشرعية حكم المماليك، وحشده الدعم الجماهيري لنظامهم، ومشاركته في جهود الإصلاح لدولتهم من خلال كتابه ‘السياسة الشرعية‘، الذي يُعتقد أنه كتبه للأمير المملوكي آقش المنصوري (ت 719هـ/1319م)، وكان المنصوري نائبا على الشام للسلطان الناصر قلاوون (ت 741هـ/1340م) الذي كان ابن تيمية يلقّبه بـ”سلطان المسلمين”؛ ثم إن القضايا التي سُجن بسببها خلت من مواقف سياسية مناهضة للسلطة!!

وعي سياسي
من الملامح البارزة في كتابات ابن تيمية ذلك التأطير المنهجي الذي يتخذ به من الواقع السياسي والاجتماعي الـمَعِيش قوالبَ يُفرغ فيها فتاواه الفقهية المشتبِكة مع الأحداث؛ فكانت تلك الفتاوى دائما انعكاسا لعمق وعيه السياسي، وبراعة إحاطته بواقع عصره والجغرافيا السياسية التي تحيط به ومراكز القوى الإقليمية وموازين أنظمتها قوة وضعفا.

ولعل ما عمّق حضور تلك الأبعاد السياسية في شخصيته العلمية هو طبيعة عصره الذي كان فيه العالم الإسلامي ينتقل من عهد “الخلفاء المستضعَفين” إلى عصر “الخلفاء المُغيَّبِين”؛ ذلك العصر الذي ورثت فيه الدولة المملوكية جغرافيا الدولة الأيوبية وشرعية مكانتها، حين أوقف أمراؤها المدّ التتري العاصف في معركة عين جالوت سنة 658هـ/1260م، وأعلنوا عودة الخلافة في القاهرة، وصفَّوا الاحتلال الصليبي نهائيا بفتح عكّا سنة 690هـ/1291م. كما أنه العصر الذي شهد انهيار الأندلس كليا إلا مملكة غرناطة، وآذن بنشأة إمارة صغيرة في الجوار الشامي بالأناضول ستصبح -في غضون عقود- دولة ذات شأن ظل يتصاعد باطّراد حتى صارت ما عُرف بـ”الإمبراطورية العثمانية”.

وسنكتفي هنا بنموذج واحد لذلك الملمح المنهجي المؤطَّر بالبصيرة السياسية في كتابات الرجل ومواقفه؛ فحين سعى ابن تيمية سنة 702هـ/1302م -وهو ابن الأربعين- لتحريض سلاطين المماليك على التصدي للتتار الزاحفين من العراق إلى الشام ومصر -بعد “إسلام” ملوكهم- بقيادة سلطانهم قازان بن أرغون (ت 703هـ/1303م)؛ أصدر فتوى تُلزم المماليكَ بالجهاد فتمنحهم الشرعية السياسية، وتحشد الرأي العام لمناصرتهم في المقاومة حتى لا تتكرر هزيمتهم أمام التتار سنة 699هـ/1300م، فقال في فتواه تلك: “أما الطائفة (= المماليك الحاكمين) بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتِلون عن دين الإسلام، وهم مِن أحقِّ الناس دخولا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي ﷺ.. في الأحاديث الصحيحة المستفيضة”.

ثم يُتبع الشيخ ذلك برسمه خريطةً لجغرافيا المسلمين السياسية -من العراق إلى المغرب ومن اليمن إلى الشام- مبرهِنا بها على صدقية ما ذهب إليه من أهلية المماليك لقيادة المسلمين؛ فأكد أن “من يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها..، والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم. وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيِّعون له..؛ وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة.. وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعَفون عاجزون..؛ وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها..؛ وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك..؛ فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام..، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية”!

ونتيجة لهذه التبصُّر السياسي المستوعِب لواقع زمانه؛ نجد عند ابن تيمية نظرة واقعية لأنظمة الحكم في أيامه حين ينظِّر لنمط من التشريع الاضطراري للدولة القُطْرية ذات السلطة المستقلة عن أي مركز جامع، والتي كانت تُوصف في عصره بـ”الدولة السلطانية”؛ إذ يقول -في ‘مجموع الفتاوى‘- إن “السُّنة [هي] أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه، فإذا فُرض أن الأمة خرجت عن ذلك -لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك- فكان لها عِدّةُ أئمةٍ (= حُكّام)؛ لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق..، والأصل أن هذه الواجبات (= واجبات السلطة) تقام على أحسن الوجوه؛ فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يـُحْتَج إلى اثنين، ومتى لم تُقَمْ إلا بعَدد [من الأمراء].. أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” فتكون محكومة بقواعد الموازنة بين جلب المصالح ودفع المفاسد.

حضور جماهيري
يلخص لنا الذهبي -في ’الدرة اليتيمية في السيرة التيمية’- مواقف مختلف المنتمين للأوساط العلمية والمذهبية من ابن تيمية؛ فيخبرنا بأنه “قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يُداهن ولا يُحابي، بل يقول الحقَّ الـمُـرَّ الذي أداه إليه اجتهادُه وحِدَّةُ ذهنه، وسَعَة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع..، والتعظيم لحُرمات الله”.

ويضيف الذهبي أن تلك العداوات ترتبت عليها وقائع شديدة “فجرى بينه وبينهم حملاتٌ حربية ووقْعات شامية ومصرية، وكم من نَوْبةٍ قد رموه عن قوسٍ واحدة فينجيه الله”. ورغم تلك العداوات فقد كان للشيخ “من الطرف الآخر مُحِبّون من العلماء والصلحاء، ومن الجُند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبُّه؛ لأنه مُنْتصِب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه”.

ونفهم من كلام الذهبي أن “العامّة” لم تكن منقسمة على ابن تيمية إذْ كان بالنسبة لها محل إجماع، وتفيد الوقائع أنهم كانوا كثيري الاحتفاء به حين يمرّ بدكاكينهم في الأسواق، وحين يقدُم من سفر وخاصة إن طالت غيبته. فبعد مقدمه سنة 712ه/1312م من إقامته الجبرية الطويلة في مصر؛ اصطحبه السلطان “إلى دمشق… وكانت غيبته عنها سبع سنين كوامل..، وخرج خلق كثير لتلقيه..، حتى خرج خلق من النساء أيضا لرؤيته”؛ طبقا لابن كثير.

كان ابن تيمية أحيانا يقود الجماهير في مظاهرات كبيرة احتجاجا على بعض القضايا والظواهر، كما وقع في قصة عسّاف ابن الأمير أحمد بن حجي زعيم آل مري، الذي اشتهر -وفقا للذهبي في ’تاريخ الإسلام’- بأنه “أعرابي شريف مطاع”.

وكان من قصة هذا الأعرابي أنه “هو الذي حمى النصراني الذي سبَّ (الرسول ﷺ)، فدافع عنه بكل ممكن..؛ فطلع الشيخان زين الدين الفارقي (شيخ الشافعية ت 703هـ/1303م) وتقي الدين ابن تيمية -في جمع كبير من الصلحاء والعامة- إلى النائب عز الدين أيبك الحموي (نائب السلطان ت 703هـ/1303م) وكلّماه في أمر الملعون، فأجابـــ[ـهم] إلى إحضاره”. ويضيف الذهبي أن هذه الواقعة كانت “في رجب سنة ثلاث وتسعين (693هـ/1294م)، وحينئذ صنَّف شيخنا ابن تيمية كتاب ’الصارم المسلول على شاتم الرسول’”.

يوميات نجم
إن القارئ بتمعن لمسارات حياة ابن تيمية ويومياته يخيَّل إليه أنه يتابع أخبار زعيم إصلاحي معاصر، لا عالِـم من وسط حنبلي في القرن الثامن الهجري/الـ14 الميلادي؛ فبفضل وفرة المؤرخين من طلابه ومعاصريه فإن حياته رُصدت بالتفاصيل، كما رُصدت حياة الأئمة الأربعة، وكما تُرصد حياة نجوم الشخصيات الجماهيرية في عصرنا، وقد شمل ذلك الرصدُ من يلوذ به من ذوي قرابة وتلمذة أو صداقة وخصومة.

يرسم الذهبي -في ’الدرة اليتيمية في السيرة التيمية’- بدقة صورة شيخه الخارجية؛ فيقول إن “شعره مقصوص، وعليه مهابةٌ، وشيبُه يسير، ولحيته مستديرة، ولونه أبيض حِنْطي اللون، وهو رَبْعُ القامة، بعيد ما بين المَنْكِبين، كأنَّ عينيه لسانان ناطقان”!

ويحدثنا عن كرمه وعلاقته بالمال وعن هيئات لباسه؛ فيقول: “وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة وقيام مع أصحابه، وسعيٌ في مصالحهم، وهو فقير لا مال له، وملبوسه كأحد الفقهاء: فَرَجِيّة (= ثوب طويل الأكمام) ودَلَق (= جُبَّة يلبسها العلماء والقضاة) وعمامة، يكون [لباسه] قيمة ثلاثين درهمًا (= اليوم 37 دولارا أميركيا تقريبا)، ومَدَاس (= نعل) ضعيف الثمن”.

ويضيف الذهبي واصفا نمط شيخه في “الإتيكيت” الاجتماعي: “وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، والكلُّ عنده سواء؛ فإنه فارغٌ من هذه الرسوم، ولم ينحَنِ لأحدٍ قَطُّ، وإنما يُسلِّم ويُصافح ويبتسم، وقد يُعظِّم جليسَه مرة، ويهينه في المحاورة مرات”.

وهذه “الإهانة” للمحاوِرين هي التي أخذها الذهبي -فيما نقله عنه ابن حجر في ‘الدرر الكامنة‘- على شيخه، وعلّل بها ما تعرض له من خصومات وملاحقات؛ فقال: “وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان.. بَشَراً من البَشَر تعتريه حِدَّة في البحث وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك لكان كلمة إجماع”!

دفاع وتبرير
ولئن كان ابن تيمية يعترف ضمنيا بتلك الحدة فإنه لا يعدم تبريرا لها في محاوراته؛ فها هو يرد على أحدهم قائلا: “وما ذكرتم من [فضْل] لِين الكلام والمخاطبة بالتي هي أحسن؛ فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالا لهذا..، وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم -لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة- فنحن مأمورون بمقابلته [بالإغلاظ]، لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن”.

وقد اجتهد تلامذته ومترجموه كذلك في وصف عبادته وصلاته، وذكروا أن من عاداته المعروفة ترك الكلام بعد صلاة الفجر وإطالة التفكير والتأمل، وفي ذلك يقول وفقا البزّار: “كان قد عُرفت عادته [أنه] لا يكلمه أحد -بغير ضرورة- بعد صلاة الفجر، فلا يزال في الذكر..، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء، هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس”. ويكمل البزار رصده لتفاصيل برنامج شيخه اليومي فيقول: “إنه كان يركع [بعد شروق الشمس]، فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره”.

ويصف تعامل الجماهير معه أثناء مروره في الطرقات وتعامله هو مع ما في الشوارع من “المنكرات”؛ فيقول إنه “قلَّ أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكبَّ على يديه يقبلهما، حتى إنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به، وهو مع هذا يعطي كلا منهم نصيبا وافرا من السلام وغيره، وإذا رأى منكرا في طريقه أزاله، أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها”. كما كان مواظبا على عيادة “المرضى خصوصا الذين بالبمارستان (= المستشفى)”.

وبعد هذه الجولة الصباحية اليومية -التي تشمل طلب العلم والاهتمام بالشأن العام ومواساة بالناس- يعود الشيخ “إلى مسجده فلا يزال تارة في إفتاء الناس، وتارة في قضاء حوائجهم، حتى يصلي الظهر مع الجماعة، ثم كذلك بقية يومه”. ويصف لنا البزار مجلس ابن تيمية الذي تتحقق فيه المساواة بأبعادها المختلفة فيقول: “وكان مجلسه عاما للكبير والصغير..، والذكر والأنثى، قد وسع على كل من يرد عليه من الناس، يرى كلٌّ منهم في نفسه كأن لم يُكْرِم أحدا بقدْر” إكرامه له.

ويضيف البزّار أنه في المساء حين يقبل الليل “يصلي [الشيخ] المغرب، ثم يتطوع بما يسره الله ثم أقرأ عليه من مؤلفاته أو [يقرأ] غيري، فيفيدنا بالطرائف ويمدنا باللطائف حتى يصلي العشاء، ثم بعدها [نرجع] كما كنا..، وكان رضي الله عنه كثيرا ما يرفع طرفه إلى السماء لا يكاد يفتر من ذلك كأنه يرى شيئا يُثْبته (= يتأمّله) بنظره؛ فكان هذا دأبه مدة إقامتي بحضرته” في دمشق.

تنبؤ صادق
سبق لنا إيراد ما أدركه المؤرخ ابن الوردي حين لاحظ -ببصيرة ثاقبة- أسبقية رؤى شيخه ابن تيمية لعصره، فأخذ عليه أنه يثير “مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زماننا ولا علومهم”. والواقع أن ابن الوردي لم يكن متفردا بملاحظته تلك؛ فقد تنبأ تلميذ آخر لابن تيمية بأن لأفكاره ومبادئه مستقبلا كبيرا في العالم الإسلامي حين تولد أجيال ورجال تقدرها حق قدرها.

ففي ’الرسالة’ التي كتبها الشيخ أحمد بن محمد بن مري التميمي الحنبلي (ت بعد 728هـ/1328م) إلى زملائه من تلاميذ ابن تيمية وردت معطياتٌ في غاية الدقة والأهمية عن تراث ابن تيمية ومصيره بعد وفاته، واستنهاضٌ لهمم تلاميذه لجمع ذلك التراث الوافر، ثم إنه طمأنهم بما ينتظر كتب شيخهم من عناية وتقدير واستفادة منقطعة النظير.

يخاطب ابن مري أصحاب الشيخ فيقول: “لا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه -ولله الحمد- مقبول طوعاً وكرهاً، وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته! ووالله -إن شاء الله- ليقيمنَّ اللهُ سبحانه -لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه- رجالا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده”.

كان تنـبـُّـــؤ ابن مري صادقا بأقصى ربما مما توقعه هو نفسه؛ فرغم أن تأثير ابن تيمية ظل مرتبطا غالبا بالمذهب السلفي العقدي ذي الصبغة الحنبلية، فإنه وُجدت له -حتى في حياته- امتدادات معتبرة في بقية المذاهب الفقهية كما سبقت الإشارة، فنشأت حول أفكاره طبقة من العلماء الذين عُرفوا بأنهم شافعية أو مالكية في الفروع الفقهية لكنهم كانوا “حنابلة/تيميين” في الأصول العقدية، وهو ما ساهم حينها في التخفيف من التعصب المذهبي الذي كان ينخر في جسد الأوساط العلمية، وكان تجليا لـظاهرة تيار الاندماج العلمي.

وتدل رسائله البلدانية -التي سبق الإلماع لبعض عناوينها الدالّة- والعرائض المقدمة إلى السلطة للمطالبة بالإفراج عنه والمرسلة من العراق وغيره، على تنوع في مذاهب المؤيدين لأفكاره والمزكّين لها؛ بل جاء في مقدمة أحد تلامذته لرسالته العَقَدية ‘المراكشية‘ أنه كتبها في مصر سنة 712هـ/1312م ليفض “التنازع بين طائفة من المغاربة المالكيين الذين سلموها واستصحبوها إلى بلاد المغرب”.

ويضيف الكاتب ما يفيدنا بتطلع أهل الغرب الإسلامي حينها للتعرف على كل ما يصدر عن ابن تيمية؛ فمؤلفاته “التي انتقلت من ديار مصر إلى بلاد المغرب على أيدي طلبة العلم والدين لا يحضرني عددها لكثرتها، وقد رأيتُ واحدا من أعيانهم وقد استصحب أربعة عشر مصنَّفا، وآخر أكبر منه استصحب أكثر من ذلك وأجلَّ فنشره ببلادهم، ثم عاد ليأخذ قطعة أخرى”.

ومن العجيب أن تأثير مدرسة ابن تيمية كان له حضوره البارز والمبكر نسبيا في مقررات الدرس العلمي بالدولة العثمانية؛ فانتشرت آراؤه على أيدي ثلة من العلماء بقيادة محمد أفندي البِرْكِويّ (ت 981هـ/1573م)، فكان ظهور هذه المدرسة التيمية العثمانية “ردا على مدرسة الفخر الرازي التي كانت تمثل الإسلام الرسمي عند العثمانيين”؛ حسب ما يقول الباحث التركي البروفيسور أحمد يشار أوجاق في دراسة له عن “الحياة الفكرية” في الدولة العثمانية منشورة ضمن الكتاب الجماعي الصادر بعنوان: ‘الدولة العثمانية.. تاريخ وحضارة‘.

وفي بواكير النهضة الدينية الإسلامية في العصر الحديث؛ أخرج الله من الأصلاب -إذا استخدمنا تعبير ابن مري- رجالا مصلحين كان ابن تيمية نقطة التقاء بينهم على تعدد مشاربهم الفقهية والطائفية، كان في طليعتهم الإمام الشوكاني (ت 1255هـ/1834م) الذي نشأ وتعلم في بيئة يسودها المذهب الفقهي الشيعي الزيدي، ثم تأثر بمنهج ابن تيمية حتى قال عنه في كتابه ‘البدر الطالع‘: “وأقول أنا: لا أعلم بعد ابن حزم (الأندلسي ت 456هـ/1065م) مثله، وما أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما”!! وكذلك تأثر به علامة الهند الأمير صدّيق حسن خان (ت 1307هـ/1890م) ذو التكوين الفقهي الحنفي في بداية حياته.

أما التيارات الإصلاحية والإحيائية السُّنية في العصر الحديث؛ فقد شمل التأثيرُ التيمي أغلبيتَها بدءا من الحركة الوهابية الأثرية، ومرورا بتيار الإصلاحية العربية العقلانية، وانتهاء بالحركات والتنظيمات الإسلامية الراهنة؛ هذا مع اختلاف هذه التيارات مفاهيميا وتباينها -إلى حد التناقض أحيانا- في التعاطي مع تراثه تأويلا وتنزيلا!!

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى