مقالات مختارة

ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر

بقلم د. وصفي عاشور أبوزيد

أول ما يلفت نظر الإنسان في هذا القرآن أنه يُعَرفه بذاته، ويقفه على ماهيته:

1- فهو ذلك الإنسان المكرم: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70].
وللإمام الطاهر ابن عاشور كلام بديع في هذه الآية يحسن إيراده هنا؛ حيث يقول: “وقد جمعت الآية خمس مِنن: التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات.

فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بني سائر المخلوقات الأرضية، والتكريم: جعله كريماً، أي نفيساً غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة، ولا اللباس، ولا ترفيه المضجع والمأكل، ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب، ولا الاستعداد لما ينفعه، ودفع ما يضره، ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها، والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصنائع، وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته. وقد مثل ابن عباس للتكريم بأن الإنسان يأكل بأصابعه، يريد أنه لا ينتهش الطعام بفمه، بل يرفعه إلى فيه بيده، ولا يكرع في الماء بل يرفعه إلى فيه بيده، فإن رفع الطعام بمغرفة والشراب بقدح فذلك من زيادة التكريم وهو تناول باليد.

والحمل: الوضع على المركب من الرواحل، فالراكب محمول على المركوب، وأصله في ركوب البر، وذلك بأن سخر لهم الرواحل وألهمهم استعمالها.

وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة. وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة، قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ [الحاقة:11]. ومعنى حمل الله الناس في البحر: إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف، فجعل تيسير ذلك كالحمل.

وأما الرزق من الطيبات فلأن الله تعالى ألهم الإنسان أن يطعم ما يشاء مما يروق له، وجعل في الطعوم أمارات على النفع، وجعل ما يتناوله الإنسان من الطعومات أكثر جداً مما يتناوله غيره من الحيوان الذي لا يأكل إلا أشياء اعتادها، على أن أقرب الحيوان إلى الإنسية والحضارة أكثرها اتساعا في تناول الطعوم.

وأما التفضيل على كثير من المخلوقات، فالمراد به التفضيل المشاهد لأنه موضع الامتنان، وذلك الذي جماعه تمكين الإنسان من التسلط على جميع المخلوقات الأرضية برأيه وحيلته، وكفى بذلك تفضيلا على البقية”[1]. ا.هـ.

2- وهو الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلفه وشرفه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71-72]. وقال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13].

3- ولقد دعا الله تعالى الإنسان إلى النظر في خلقه وكيفية تكوينه: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5-7]. يقول العلامة عبد الرحمن السعدي: “أي: فليتدبر خلقته ومبدأه، فإنه مخلوق ﴿ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ وهو: المني الذي ﴿ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي ثدياها. ويحتمل أن المراد المني الدافق، وهو مني الرجل، وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه، ولعل هذا أولى، فإنه إنما وصف الله به الماء الدافق، والذي يحس به ويشاهد دفقه، هو مني الرجل، وكذلك لفظ الترائب فإنها تستعمل في الرجل، فإن الترائب للرجل، بمنزلة الثديين للأنثى، فلو أريدت الأنثى لقال: ” من بين الصلب والثديين ” ونحو ذلك، والله أعلم. فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور “[2].

4- كما دعاه إلى النظر في طعامه وهو ألزم شيء له، وألصق شيء به، وأقرب شيء إليه، فقال تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [سورة عبس: 24-32]. قال جمال الدين القاسمي في تفسيره: “أي: فإن لم يشهد خلق ذاته، وعمي عن الآيات في نفسه، وأصر على جحوده توحيدَ ربِّه، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه: ماذا صنعنا في إحدائه وتهيئته لأنْ يكون غذاءً صالحاً”[3].

ومن خلال هذه التوجيهات القرآنية نخرج بعدة دروس وفوائد:

1- أن الإنسان هو سيد هذا الكون، وكل شيء مسخر له، فلا يجوز له أن ينشغل بما سخر له عما هو مخلوق من أجله، وهي عبادة الله تعالى.
2- أن نعم الله تعالى على الإنسان لا تعد ولا تحصى: ظاهرة وباطنة، قديمة وحديثة، صغيرة وكبيرة، وكلها تقتضي الحمد والشكر لله تعالى.
3- أن الإنسان مخلوق عزيز على الله ومكرم عنده، فلا يجوز للإنسان أن يهين أخاه الإنسان، ولا يجوز للمسلم أن يقبل الظلم والضيم، وإذا سيم خطة خسف قال بملء فيه “لا”، فلا يهين نفسه أو يقبل بالإهانة مَن كرمه الله تعالى وشرفه وكلفه وأسجد له ملائكته ونفخ فيه من روحه، وسخر له كل ما خلق، وهو ما يقتضي أن يعيش الإنسان عزيزا كريما شريف متمثلا قول الشاعر هاشم الرفاعي:
أهوى الحياةَ كريمةً لا قيدَ لا
إرهابَ لا استخفاف بالإنسانِ
فإذا سقطتُ سقَطتُ أحمل عزتي
يجري دم الأحرار في شرياني

————————————

[1] التحرير والتنوير: 14 /130-131. مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان الطبعة الأولى، 1420هـ/2000م.
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 919. مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى 1420هـ -2000م.
[3] محاسن التأويل: 17 /6064. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء الكتب العربية/ عيسى البابي الحلبي. القاهرة. الطبعة الأولى. 1376 – 1957م.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى