وقفات مع صناع الشبهات
بقلم أحمد محمد كنعان
لقد كثر في أيامنا أدعياء تجديد الدين، الذين بدل أن يشتغلوا حقاً بالتجديد جعلوا شغلهم الشاغل إثارة الشبهات حول الإسلام، ومن المعلوم أن إثارة الشبهات حول الإسلام ليست وليدة اليوم، وإنما بدأت في عصر النبوة، غير أن شبهات هذه الأيام اختلفت بأمور خطيرة عن شبهات الأمس، كما نبين فيما يأتي :
1- في العهد النبوي كان الهدف من الشبهات صد الناس عن الدخول في الإسلام .. أما اليوم فقد صار الهدف تشكيك المسلمين بإسلامهم وإخراجهم منه !
2- وكان الذين يثيرون الشبهات من المشركين والكفار .. فصار الذين يثيرونها اليوم من المتأسلمين المحسوبين على الإسلام !
3- وكانت الشبهات في الماضي تلقى دعماً شخصياً من أفراد مثل “أبي جهل” و “أبي لهب” و “أمية بن خلف” .. فصارت اليوم مدعومة من أنظمة ترفع شعار الإسلام !
4- وكانت الشبهات تلقى دعماً معنوياً بدائياً .. فصارت اليوم مدعومة بالمال والإعلام من قبل أنظمة غنية راحت تغدق الأموال بلا حساب، على المشككين بالإسلام !
وقد أدرك هؤلاء المشككون أن التشكيك بفروع الشريعة طريق طويل، فاختصروه وتوجهوا إلى مصادر الشريعة مباشرة، فراحوا يثيرون الشبهات أولاً حول السنة النبوية، وظلوا لفترة يتهيبون النيل من القرآن الكريم لما للقرآن من مكانة وقدسية في نفوس المسلمين، فلما رأوا أنهم قد حققوا من التشككيك بالسنة بعض أغراضهم، التفتوا إلى القرآن تشويهاً وتشكيكاً، ودفع الحقد على الإسلام بعضهم فانبرى للتشكيك بالتراث الإسلامي جملة، والنيل من علماء الإسلام من أمثال الشافعي وابن تيمية والبخاري ومسلم وغيرهم من الأئمة الكبار، لما لهؤلاء العلماء من مكانة وأثر في ثقافتنا الإسلامية !
وسوف نتناول هذه الشبهات التي يثيرها هؤلاء بصورة عامة دون الدخول في التفاصيل، لأن كل شبهة تحتاج مقالة مستقلة لعرضها وتفنيدها، وقبل البدء في بيان هذه الشُبُهات، يجدر بنا التذكير بضرورة توافر القاعدة العلمية الكافية لدى من يرغب في الرد على هذه الشبهات؛ لكي يكون الرد علمياً مفحماً للخصوم، وقد أشار إلى هذه الضرورة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) رحمه الله تعالى، فقال : (لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلمٍ وعدلٍ، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيات، وجهلٍ وظلمٍ في الكليات؛ فيتولَّد فساد عظيم) مجموع الفتاوى؛ دار الوفاء؛ ط3؛ ج19/ص203 .
1 – الشبهات حول السنة النبوية :
لقد درج أدعياء التجديد على التشكيك بالسنة النبوية، متابعين بهذا التشكيك أعمال من سبقوهم من الزنادقة والملحدين في القرن الثالث الهجري، من أمثال إبراهيم بن سيار النظَّام (221 هـ/836م) ورفيق دربه ابن الراوندي (827 – 911م) ومن أبرز شُبُهات هؤلاء المشككين بالسنة النبوية قديماً وحديثاً :
1- إسقاط الحاجة إلى السنة النبوية بدعوى أن القرآن يكفينا، وهي التي يروج لها اليوم “القرآنيون” كما نذكر بعد قليل .
2- حصر السُّنَّة التي يُعتدُّ بها وتصلح للاستدلال – في نظر هؤلاء – هي السُّنَّة المتواترة فقط . وهذا يعني عملياً استبعاد السنة، وإمعاناً من هؤلاء يزعم بعضهم أن المتواتر من السنة قليل نادر، لا يزيد على (17 حديثاً) ويبالغ آخرون منهم فيزعمون أن المتواتر منها حديث واحد، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : “من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” أما ما عداه من أحاديث فهي في نظرهم أحاديث آحاد لا يعتد بها !!
3- الطعن ببعض الصحابة ناقلي السنة من العلماء والرواة وبخاصة منهم الصحابي الجليل أبو هريرة (ت 59 هـ/678م) وأم المؤمنين عائشة (ت 58 هـ/678م) رضي الله عنهما .
4- ادِّعاؤهم تأخر تدوين السنة النبوية، بهدف التشكيك بصحتها .
5- التشكيك في منهجية المحدِّثين في قبول الحديث وردِّه .
6- ردُّ بعضِ الأحاديث النّبويَة بحجة معارضتها للعقل .
7- التشكيك في مدونات ومخطوطات السنة النبوية .
ومن عجيب أمر هؤلاء المشككين تجاهلهم المتعمد أنَّ الله عز وجل قد أمرنا بطاعة النبيِّ في آيات كثيرة، منها قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة آل عمران 132 ، ونحوها كثير من الآيات التي تأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أقسم سبحانه بنفسه أن من لا يرضى بحكم النبي لن يذوق طعمَ الإيمان؛ فقال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ سورة النساء 65، ويتجاهل هؤلاء الأدعياء عن عمد أن قول النبي وحي بنص القرآن الكريم : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } سورة النجم 3، 4 ، فانظر كيف يعمي الحقد وطلب الشهرة هؤلاء عن رؤية الحق بالرغم من ظهوره وجلائه !!؟
2 – الشبهات حول القرآن الكريم :
لعل من أقدم الشبهات التي أثيرت حول القرآن الكريم، زعم مشركي مكة أن القرآن من اختلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رد الله تعالى على هؤلاء في أكثر من آية، منها قوله تعالى : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ سورة الفرقان 4 – 6 . وقد زاد على هذه الشبهة آبقون معاصرون راحوا يفسرون كتاب الله تفسيرات معتسفة لا تستند إلى قواعد ولا أصول، اللهم إلا الهوى وحب الشهرة والظهور، كما فعل مثلاً الآبق السوري محمد شحرور في كتابه “الكتاب والقرآن” والمصري نصر حامد أبوزيد في كتابه “الاتجاه العقلي في التفسير” وغيره من المؤلفين والكتب !
ومن جهة أخرى .. نجد بعض هؤلاء المشككين من جعلوا همهم التشكيك بما في القرآن الكريم من إعجاز، ولاسيما منه “الإعجاز العلمي” الذي شهد بإعجازه علماء كبار غير مسلمين، وكان هذا الضرب من الإعجاز سبباً لدخول عدد غير قليل من هؤلاء العلماء في الإسلام .. ومن ثم يبدو جلياً أن هذا التشكيك بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم يستهدف صد العلماء عن الدخول في دين الله !؟
ولعل أخطر الشبهات التي تثار اليوم حول القرآن الكريم هي الشبهة التي يروج لها الذين يسمون أنفسهم “أهل القرآن” أو “القرآنيون” الذين يزعمون أن القرآن وحده هو المصدر الأوحد للإسلام، وهو وحده يكفينا، ومؤدى هذه الشبهة رفض كل ما هو تراث إسلامي؛ بدءاً بالفقه والتفسير، وصولاً إلى رفض السنة النبوية وانتهاء برفض القرآن نفسه في آخر هذه المسيرة المغرضة !؟
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)