مقالاتمقالات مختارة

وقفات حول حجية “فهم السلف”

وقفات حول حجية “فهم السلف”

بقلم وائل البتيري

اختلف العلماء والأصوليون في معنى “السلف”، فمنهم من يرى أن السلف هم الصحابة فقط، ومنهم من يرى أنهم الصحابة والتابعون، ومنهم من يرجح أنهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، وفريق رابع يقول إنهم من عاش في الخمسمئة عام الأولى من الهجرة.

ليكن أي هذه الأقوال تعريفاً صحيحاً لـ”السلف”؛ فليس هذا موضع النزاع أساساً، وإنما هو متعلق بمقولة “نتمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة”، ثم بإسقاط أقوال السلف على الواقع الذي نعيشه، وتوظيفها سياسياً، لإلزام الخصم برأي ما؛ إنْ خرجَ عنه فإنه يُعد مخالفاً للسلف الصالح!

لنتناول أظهر دليلين من الكتاب والسنة يستشهد بهما القائلون بحجية “فهم السلف”، ولنناقش الاستدلال بهما كمثال على القول بمرجوحية هذا المذهب:

الأول: قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونُصْلِه جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 115].

وجه الاستدلال بهذه الآية؛ أن الله تعالى أتْبَعَ قوله: “ومن يشاقق الرسول..” بقوله: “ويتبع غير سبيل المؤمنين” في إشارة مهمة إلى أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يقترن به اتباع سبيل المؤمنين، وإلا لاكتفت الآية بالإشارة إلى عدم مشاقة الرسول. والمؤمنون حينما نزلت الآية هم الصحابة رضوان الله عليهم، ما دل على أن اتباع فهمهم أولى من اتباع فهم غيرهم.
ومن يستدل بالآية يرى أنه لو لم يردنا في فهم الكتاب والسنة سوى فهم لصحابي واحد؛ لوجب اتباع فهمه، ولو لم يرد سوى قولين لما ساغ إتيان مَن بعد الصحابة بقول ثالث، فهو لا يكتفي بالاستدلال بالآية على مشروعية الإجماع – كما فعل الإمام الشافعي – وإنما يريد أن يوسع دائرتها لتشمل أقوال آحاد الصحابة.

قلت: الاستدلال على هذا الوجه لا يستقيم، فالآية تتحدث عن المؤمنين والكفار، ولا يصلح إسقاطها على المؤمنين الذين يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتبعون فهم آحاد الصحابة . وقوله: “ومن يشاقق الرسول” أي من يفارقه ويفارق دينه، وينازعه ويعاديه من بعد ما تبين له أن رسالته هي الدين الحق، متبعاً في ذلك سبيل الكفار، لا سبيل الذين آمنوا به، وسبيلهم هو تصديقهم به وبدعوته، وعدم مشاقتهم إياه، وهو السبيل الذي أصبحوا باتباعه مؤمنين.

قال الإمام الطبري في تفسيره: “يقول: ويتبع طريقاً غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجاً غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم”.
ثم إن الصحابة مخاطَبون بهذه الآية وملزَمون باتباع دلالاتها، ولو كان المقصود بها اتباع فهمهم لكان فهمهم لآحاد المسائل واحداً، ولما ساغ لهم أن يختلفوا على آراء متعددة، إذ كيف يكون سبيلهم (فهمهم!) واحداً، وهم مختلفون على آراء متعددة؟!

ولو قلنا إن المقصود اتباع فهم آحادهم؛ لوجب على جميعهم اتباع فهم أول فهمٍ ينطق به صحابيٌّ قبل غيره، فلو فسّر عمر بن الخطاب رضي الله عنه – مثلاً – آية من القرآن قبل أن يفسرها غيره من الصحابة؛ لوجب على بقية الصحابة أن يمسكوا ألسنتهم عن تفسيرها، متبعين تفسير عمر رضي الله عنه.. وهذا من أبطل الباطل.

وعلى هذا؛ يكون القول بأن عبارة “سبيل المؤمنين” تعني فهم الصحابة أو بعض الصحابة، منقوض بأن الصحابة أنفسهم لم يفهموا الآية على هذا النحو، ولو فهموه عليه لكانوا ملزَمين بتطبيقه على النحو الذي فهمه بعض المتأخرين والمعاصرين وهذا من المحال كما بينّا سابقاً.

القول بأن عبارة “سبيل المؤمنين” تعني فهم الصحابة أو بعض الصحابة، منقوض بأن الصحابة أنفسهم لم يفهموا الآية على هذا النحو، ولو فهموه عليه لكانوا ملزَمين بتطبيقه على النحو الذي فهمه بعض المتأخرين والمعاصرين، وهذا من المحال

وأما الاستشهاد بالآية على الإجماع؛ فيُنقض بالسبيل السابق نفسه، وهو أن الصحابة مشمولون بالخطاب القرآني، فالإجماع ملزِم لهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يُنسب إلى الصحابة إجماعٌ والنبي بين أظهرهم، يبين لهم الآيات، ويَفصل بينهم إذا اختلفوا في فهمها. ومِن أبدع ما قيل في الرد على الاستشهاد بهذه الآية؛ قول الإمام الشوكاني في “إرشاد الفحول” (1/201-202): “سلّمنا أن أهل العصر هم كلُّ المؤمنين، لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت، وهذا يقتضي أن يكون إجماعُهم حجّة. لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمهما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأَسْرهم إلى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد؛ لم تدلّ هذه الآية على صحة ذلك الإجماع، ولكن ذلك غير معلوم في شيء من الإجماعات في المسائل، بل المعلوم خلافه؛ لأن كثيراً منهم مات زمان حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فسقط الاستدلال بهذه الآية”.

وقد يقول قائل: إنهم قد يُجمعون على فهم نص مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فأقول إن هذا راجعٌ لطبيعة النص، وأنه قطعي في دلالته بحيث لا يُفهم منه غير هذا الفهم، وهو فهمٌ يذهب إليه كل مسلم يفهم اللغة العربية، وليس خاصاً بالصحابة حتى يُستدل بإجماعهم. والحاجة إلى الإجماع يعوزنا إليها عدم وجود نص في المسألة، فإنْ وُجد النص البيّن فلا حاجة حينئذ إلى إجماع أحد، ولسنا بحاجة إلى الدخول في جدل حول صحة ثبوت إجماعهم في فهم هذا النص من عدمها؛ مع جلاء النص ووضوحه وقطعيته.

أما الدليل الآخر الذي يستشهدون به على حجية فهم السلف؛ فهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوامٌ تسبق شهادةُ أحدهم يمينه، ويمينُه شهادته” (متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه).

ووجه الدلالة؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام أسبغ الخيرية على قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ما يدل على أن اتباع أفهامهم خير من اتباع أفهام من يليهم.

قلت: سياق الحديث يشير إلى الخيرية السلوكية، لا خيرية الفهم العلمي، فهو يتحدث عن الجور في الشهادة، وأنها أقل ما تكون في عصر الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهي إشارة إلى خيرية سلوكاتهم في المجمل.

ولو وافقنا – تنزلاً – على أن هذه الخيرية تشمل خيرية أفهامهم للأدلة الشرعية أيضاً، ما يجعلها حجة شرعية على الأمة؛ لكان ذلك دليلاً على حجية إجماعهم، لا حجية أفهام آحادهم، يقول د. عياض بن نامي السلمي في كتابه “أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه”: “والاستدلال بحديث: (خير الناس قرني) لا يكفي؛ لأن الخيرية لا توجب حجية قول كل واحد إذا انفرد ، بدليل أن التابعين أيضا مشهود لهم بالخيرية في الحديث، ولم يقل أحد إن رأي التابعي حجة يُترك لها القياس الصحيح”.

ثم إن المستشهدين بهذا الحديث كانوا قبل قليل يستشهدون بآية “.. ويتبع غير سبيل المؤمنين” قائلين إن المؤمنين حينما نزلت هذه الآية هم الصحابة؛ فما بالهم يزيدون سبيلين آخرين على سبيل الصحابة، هما سبيلا التابعين وتابعيهم؟!

وإني أتساءل على سبيل الاستهجان: هل هناك دليل على أن أقوال السلف في المسائل الفقهية والعقدية حُفظت ونقلت لنا كلها بالإسناد الصحيح حتى يصحّ أن يُقال إنها حجة على من جاء بعدهم؟ والسلف حينما يختلفون.. لماذا يختلفون؟ أليس لأن النص يحتمل أكثر من معنى .. فإذا نقل عنهم قولان في معنى نص واحد، ولم يُنقل عنهم قولٌ ثالث يحتمله النص؛ هل يعني هذا أن نهدر هذا القول الثالث لمجرد أنه لم يُنقل عنهم؟ وما يدرينا أن أحداً منهم قال بهذا القول الثالث ولم يُنقل هذا القول لنا؟ أم أن الله تعالى تعهد بحفظ نصوص السلف كما تعهد بحفظ القرآن الكريم؟ هذا من أبطل الباطل.

وعليه؛ فقد يكون فهم بعض من جاء بعد السلف، أفضل من الأفهام التي وصلت إلينا عن بعض السلف.. ما الضير في ذلك؟! وأين الدليل على المنع منه؟ ولسنا في ذلك ننتقص من السلف ومن علمهم وفضلهم علينا، فهم المعلمون الأولون لمن جاء بعدهم، وهم المربّون الذين وجهوا تلامذتهم وأتباعهم إلى أن يدَعوا أقوالهم إنْ خالفت ما ترجّح لديهم أنه الصواب الموافق للكتاب والسنة، وهذا هو “السبيل” الذي يجب اتباعه؛ لأنه الحق الذي قررته النصوص الشرعية.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى