مقالاتمقالات مختارة

ورطة “الجامية” وأشباههم

ورطة “الجامية” وأشباههم

بقلم ياسر الزعاترة

هي ورطة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لا سيما أنها تأتي بعد فترة ازدهار غير مسبوقة خلال العقدين الماضيين، تصدّر خلالها الخطاب السلفي التقليدي المشهد الديني، أكان بطبعته “الجامية” التي تحشر مسألة “الطاعة لولاة الأمر” في كل مفردات خطابها، أم السلفية التقليدية التي تلتقي مع “الجامية” في ذلك، وإن عبر نظرية “من السياسة ترك السياسة”، والتي تترك السياسة المعارضة، وتبقي على المؤيدة!!

حدث ذلك حين كانت الأنظمة في مرحلة استيعاب لتيار صحوة دينية لم يُعرف منذ عقود طويلة، تصاعد خلال الألفية الجديدة إثر جملة من العوامل؛ بدءا من انتفاضة الأقصى في فلسطين، ومرورا بهجمات سبتمبر وحرب بوش “الصليبية”، وبعد ذلك غزو العراق، وهي عوامل أعلت من شأن التيار قوى “الإسلام السياسي” و”السلفية الجهادية”، وعموم ظاهرة التديّن، فكان رد الأنظمة على ذلك يتمثل في منح أفضلية لتيار السلفية التقليدية والجامية الذي يمنح الطاعة لولاة الأمر، ولا يسمح بانتقادهم، مقابل حصار التيارين الآخرين؛ إن كان بالقمع أم بالحرمان من منابر التأثير.

 

هناك عملية إعادة تشكيل للوعي الجمعي في المجال العربي، لا سيما في تلك الدول التي منحت التيار المذكور حق النطق باسم الدين، مقابل منح السياسة وشؤونها للحاكم

في الأثناء، وتبعا لاتساع غير مسبوق لظاهرة التديّن؛ حصد التيار المذكور (السلفي التقليدي) مجالا واسعا من الانتشار، وصار دعاته يتصدرون الفضائيات ومواقع التواصل، بجانب هيمنته على المساجد؛ بسطوة السلطة التي وجدت أنه الأفضل لها في مواجهة التيار “السلفي الجهادي” وقوى “الإسلام السياسي”.

استمر ذلك حتى مرحلة “الربيع العربي”، والصعود المفاجئ لـ”تنظيم الدولة”، ورأينا كيف حصد هذا التيار (السلفي التقليدي) نسبة كبيرة من الأصوات (بعد الإخوان) في مصر على سبيل المثال، في الانتخابات التي تلت ثورة يناير.

جاءت مرحلة “الثورة المضادة” لتشكل انقلابا؛ ليس على التيار السلفي وحسب، بل على ظاهرة التدين برمتها، والتي رأت فيها الأنظمة أو بعضها في أقل تقدير، حاضنة لما يسمى الإسلام السياسي. وتزامن ذلك بالطبع، مع الهزيمة التي مني بها “تنظيم الدولة”.

في البداية لم يُستهدف التيار السلفي التقليدي، بل بقي على حاله، لا سيما أنه كان مطلوبا كي يمنح الشرعية لمرحلة الثورة المضادة، وهو ما كان بالفعل، حيث رأينا رموزه ينخرطون في المعركة. وأتذكر أن أحدهم ممن كانوا يركّزون في دروسهم وخطبهم دائما على حرمة انتقاد ولاة الأمر في العلن، ولم يسبق له أن استهدف حاكما؛ لم يشمل بذلك الرئيس المصري السابق محمد مرسي، حيث أشبعه هجاءً على المنبر!!

ما إن بدا أن “الثورة المضادة” قد حققت جزءا مما تريد، حتى بدأت نظرية محاربة التدين بوصفه حاضنة لـ”الإسلام السياسي”؛ تطل برأسها، وبدأت لعبة الحصار للسلفية التقليدية التي لم تعد تحظى بمجال واسع للحركة كما كان حالها من قبل.

 

التيار الإسلامي الوسطي سيبقى موجودا، ولن تتمكن سياسات الأنظمة من شطبه، ولكنه تيار يحتاج إلى إعادة بناء منظومته الدعوية

اليوم، هناك عملية إعادة تشكيل للوعي الجمعي في المجال العربي، لا سيما في تلك الدول التي منحت التيار المذكور حق النطق باسم الدين، مقابل منح السياسة وشؤونها للحاكم، إذ إن كل القضايا التي كان يركز عليها التيار المذكور، بخاصة تلك المتعلقة بالفضاء الاجتماعي، لم يعد نقدها مسموحا. وتأكد ذلك بإطلاق شعار الترفيه، وقوانين حرية المرأة، مع إطلاق العنان لجحافل من مثقفي الأنظمة ممن يُنسبون لـ”الليبرالية” كي يستهدفوا الكثير من ثوابت الدين.

هكذا يتبدى حصاد الهشيم لهذا التيار الذي وضع نفسه في خدمة الظلم، مقابل منحه حق النطق باسم الدين، ولم يلتفت إلى ما كنا نقوله ويقوله كثيرون؛ من أن ذلك مجرد مرحلة عابرة لاستهداف خصوم أهم، وأن النهاية هي الانقلاب عليه.

اللافت اليوم هو ما يتعلق بجزء من هذا التيار “المدخلية”، والذين لا يزالون يُستخدمون في بعض المناطق، كما في ليبيا واليمن، والذين يكررون ذات التجربة، ولا يدركون أن الانقلاب عليهم قادم لا محالة.

ولكن ما هو البديل؟

البديل الذي تفكر به الأنظمة أو بعضها (وقد بدأ بعضها عمليا) هو البديل الصوفي في طبعته التي تغيّب الناس عن دائرة الفعل، وتحشرهم في طقوس شكلية، وهو تيار يلتقي مع السلفية التقليدية في نظرية الطاعة المطلقة، لكنه لا يتدخل في خيارات السلطة في أي مجال، بما في ذلك الاجتماعي.

ماذا بعد؟ سؤال مهم، لعل إجابته أن التيار الإسلامي الوسطي سيبقى موجودا، ولن تتمكن سياسات الأنظمة من شطبه، ولكنه تيار يحتاج إلى إعادة بناء منظومته الدعوية على نحو يستوعب متطلبات العصر، ومتطلبات المواجهة مع منظومة الظلم في آن.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى