مقالاتمقالات مختارة

ورحل صاحب الهمة العالية الأستاذ فؤاد الهجرسي

إذا جلست إليه شعرت أنك بين يدي أحد سلفنا الصالح الذين تؤثر فينا مطالعة سيرتهم وترجمتهم، حيث الهدوء، والصوت الخاشع، واليقين، ونور الوجه، وسكينة النفس، وجمال الروح، والتواضع الجم، وسلامة اللغة، وسلاسة التعبير، وروعة الأداء، وعظيم المعاني، وبساطة المباني، واعتزازه باللغة العربية الفصيحة العذبة، حديثه يأخذ بلبك، ومنطقه يأسر قلبك.

إنه المربي الفاضل الأستاذ فؤاد الهجرسي.

شاءت لي الأقدار أن أجلس بين يديه مرات عديدة، وسعدت بصحبته إحدى المرات، وشرفت باستضافته في بيتي المتواضع تبركاً بالصالحين، وتلمساً لغفران ذنوب أهل البيت مع خروج الضيفان كما ورد فى بعض الآثار.

وإننا اليوم إذ نبكيه ونرثيه وننعيه، ويصلي بعضنا عليه صلاة الجنازة، والبعض الآخر صلاة الغائب، ونترحم عليه، ونطلب له الشفاعة، لنقول له في مرقده:

جزاك الله خيراً عن أجيال تربت على يديك، ورثتهم صفاء الدعوة ونقاءها، وصفات الدعاة وسيرتهم التي يجب أن يكونوا عليها، وأخلاق المربين التي لا تنفك

عنهم. وهم صحائف بيضاء فى ميزان حسناتك حين تعرض الصحف على الله غداً بإذن الله، نحسبك كذلك، والله حسيبك، ولا نزكي على الله أحداً (وما شهدنا إلا بما علمنا) وستلاحقك دعواتهم الصالحة في قبرك، وسيرافقك ذكرهم لمحاسن فعالك في مضجعك، وسيلازمك أثرك الطيب في نومتك. وأذكر هنا بعض المواقف التي وقفت عليها فى سيرة الأستاذ فؤاد الهجرسي لننتفع بها على النحو الذي نرتضيه لأنفسنا.

التضحية بالمال الخاص دفعاً لضرر الغير:

لعل الكثيرين يتذكرون بكثير من الإكبار والإعجاب والإجلال والانبهار قصته القريبة المشهورة مع البنك الأهلي في المنصورة، حين رد 5 آلاف جنيه كان قد سحبها من حسابه الخاص، فلما عاد إلى البيت وعلم أنه ممن طالهم التحفظ على الأموال، عاد مرة أخرى للبنك وسلم المبلغ للموظف حتى لا يخصم من راتبه؛ وهو الأمر الذى أصاب موظفي البنك بالذهول.. لقد ضحى بماله الخاص حتى لا يتضرر الموظف .

لعل الكثيرين يتملكهم الانبهار من هذه الحادثة؛ ولكنها الأخلاق التي تربى – ويتربى عليها الإخوان.

عندما يغيب العائل الأصغر يتولاهم العائل الأكبر:

حكى – رحمه الله – أنه عندما كان في السجن أيام حكم عبد الناصر، كان معهم أحد الإخوان يطلب منهم الدعاء لابنه في الثانوية العامة فيدعون له، ثم في عام آخر يطلب منهم الدعاء لابنته لأنها تختبر امتحانات الثانوية العامة فيدعون لها، وكذلك في عام ثالث يطلب الدعاء لابن ثالث، ثم شاءت الأقدار أن يخرج الإخوان من السجن، وتمر الأيام ويذهب الأستاذ فؤاد للمراقبة في اختبارات الثانوية العامة، في إحدى محافظات الصعيد؛ فيلتقي بصديقه هذا ورفيقه في السجن والمحنة، فيطمئن على أحواله، ويسأله عن أبنائه الذين كانوا يدعون لهم وهم فى السجن ؛ فيبشره بأنهم بخير ونعمة، وكلهم قد تخرج من كليتي الطب والهندسة، وتبوؤوا مراكز اجتماعية مرموقة، ثم يقول: كانت أياماً مباركة رباهم الله لنا في غيابنا، ولكنه يأسف ويقول:

رزقت بعد السجن بابن تربى في وجودي وحضوري لكن للأسف (مش نافع)، فكان يحكي هذه الواقعة مثالاً على الثقة بالله، واليقين فى حكمته، والتسليم لحكمه، وأن من ضحى لله عوضه الله خيراً مما ضحى به، ثم يعقب علي ذلك بقوله: عندما يغيب العائل الأصغر يتولاهم العائل الأكبر.. وهي حالة يمر بها كثير من أصحاب الدعوات، خاصة في زماننا هذا.

بصمة المربي:

ذكر يوماً أنه كان يساعد إحدى التلميذات من ذوات الاحتياجات الخاصة (تمشي على عكازين) فى المذاكرة ، وأهداها يوماً هدية بسيطة على تميزها في حل أحد التدريبات، كانت هذه الهدية ممحاة (أستيكة)، ثم دارت الأيام، والتقى بها بعد سنين، فسلم عليها واطمأن على أحوالها ، فأخبرته أنها بخير حال، وأنها تخرجت من كلية الصيدلة، ثم فاجأته بأنها لا زالت تحتفظ بالممحاة التي أهداها لها قبل سنين، وتعلقها بدبوس فى دولاب ملابسها. وهذا ما يجب أن يحرص عليه كل داعية، أن يترك بصمة إيجابية فيمن حوله.

الهمة العالية:

دُعِي يوماً إلى محاضرة بعنوان “الهمة العالية” في إحدى المحافظات، وفي الوقت المحدد اتصل مرافقه بمنظم المحاضرة بأنهما قد وصلا، فخرج لاستقبالهما، ثم يفاجى بعد عدة محادثات هاتفية بأن الأستاذ ذهب إلى محافظة أخرى غير المحافظة المقصودة ، فشكر المستضيف للأستاذ جهده، واعتذر له على اللبس الذي حدث، مع عبارات من نحو “وقع الأجر وجزاكم الله خيراً” “أجرتم بالنية”; وانتهت المكالمة عند هذا الأمر، وكان الوقت متأخراً وأوشك المغرب أن يُرفع أذانه. وعاد منظم المحاضرة إلى الحضور وكان معظمهم من الشباب، وأوضح لهم اللبس الذي حدث، وغير مسار المحاضرة إلى فقرة أخرى، وعندما أوشكت الفقرة البديلة على الانتهاء، بعد ما يقارب الساعة والنصف، إذا بالمضيف يستقبل مكالمة من مرافق الأستاذ فؤاد بأننا وصلنا، في مفاجأة أذهلته؛ فخرج لاستقبالهما، وكان الوقت قد تأخر ودخل وقت العشاء، بعد ما يقارب ثلاث ساعات من السفر أمضاها الأستاذ فؤاد، وقد تجاوز السبعين من عمره حينها، ثم كانت المفاجأة للحضور حين رأوا الأستاذ فؤاد في قاعة المحاضرة، ويقدمه منظم المحاضرة؛ ليحاضر الجمهور عن “الهمة العالية”، فكان درساً عملياً لا ينسى في الهمة العالية، وأغنى موقفه عن كثير من الكلام، وصدق من قال: عمل رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل في رجل.

رحم الله الأستاذ فؤاد الهجرسي، وغفر له، وتقبل جهده وعمله فى سبيل الدعوة، وتقبله فى الصالحين، وجمعنا به في مستقر الرحمة ودار الكرامة، (في مقعد صدق عند مليك مقتدر).

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى