وجاء عام هجري جديد
بقلم أ. محمد الأمين مقراوي الوغليسي
ها نحن نودع عاما آخر من حياتنا، انقضت فيه شهور وأيام، وانمحت مع رحيله فرص وأحلام، وارتفع فيه ذكر بعضهم عند ربّ الأنام، وخاب مسعى بعضهم بعدما ارتضوا أن يكون سعيهم فيه كسعي الأنعام.. سنة صار فيها بعضهم من المقربين الأشراف، ونال بعضهم السخط فصار من المبعدين الأجلاف، سنة رحل فيها ملايين البشر، وغادرونا بلا رجعة، وعام استقبل فيه الكثير من المواليد قدرهم، نجح فيه البعض، ورسب فيه البعض.
وإذا كان الحال كذلك، وإذا كنا نقول الآن: “وجاء عام جديد” فلأذكرك ببعض الحقائق؛ خاصّة أنّ عامك قد كان حافلا بالأحداث، بعضها غيّرك، وبعضها غيّر حياتك، وبعضها غيّر حياة من حولك، عام فقدت فيه أشياء، واكتسبت فيه أخرى، وتلك سنة الأعوام، التي لا تبدلها السنين والأيام.
وجاء عامٌ جديد، فدعني أخبرك عن أهم حدث فيه، إنه أنت، لأنك المحور الذي تدور حوله أحداث كل سنة تمر في حياتك، ومادام الأمر كذلك، فإنه من نافلة القول أن نقول بأنّ ما يعقده الغالبية من البشر من مقارنات ثنائية بين شخصياتهم وشخصيات غيرهم، هي مقارنة غير مؤثرة في حياتنا بالشكل الذي نريده، كما أنّها مقارنة عاطفية، وفيها ما فيها من مخاتلة نفسية، سرعان ما ننساها ونتجاوزها.
تقول: نعم، وجاء عام جديد، فدعني أسألك هنا: إذن مع من أعقد المقارنة؟ الإجابة ليست بعيدة ولا صعبة كما تتوقع، اعقدها مع نفسك، فلتقارن بين شخصيتك خلال هذا العام، والعام الماضي، ولتعقد مقارنة بين شخصيتك الحالية وبين شخصيتك قبل خمس سنوات من الآن.
لعلك قبل سنوات كنت شخصا إيجابيا، وصرت الآن عكس ذلك تماما، ، فقد كنت سابقا تعمل بكل نشاط وحيوية، وممن ينهي أشغاله بلا كلل ولا ملل، ثم صرت اليوم ممن يؤجلها ولا يبالي بعواقب الأيام، وما تحمله من مفاجآت، فتراكمت أعمالك، وتزاحمت عليك ضرائبها وديونها، فلم تعد تعلم من أين تبدأ وكيف تتخلص من جبال من التراكمات، كان سببها الأول تمكن مرض التسويف والتأجيل من نفسيتك.
وجاء عام هجري جديد.. وقد كنت قبل سنوات ممن كان يقرأ كتابا أو كتابين أو ثلاث في الشهر، وتنشر ملخصا عنها، وتحدث بما استفدته، وتنتقد وتثمّن.. ثم وصلت مطالعتك اليوم إلى صفر كتاب.
ولو التفت قليلا إلى الشهور الماضية، لوجدت أنك كنت ممن يحافظ على مواعيده، حتّى مضت الأشهر والأشهر وأصبحت ممن لا يبالي بضياع مواعيدك وفوات أشغالك وأشغالهم.
وجاء عام جديد، فيذكرك بحقيقة مخيفة، وهي أنك كنت قبل سنوات صاحب ابتسامة ساحرة، وقامة مشيقة رشيقة، وتسريحة مريحة، فلم تنقض ثلاث سنوات، حتى مكنّت العبث من صحتك ومظهرك وجمالك، فتشوّهت ابتسامتك، وحلّت البطنة محل الرشاقة، وظهرت عليك علامات الإهمال، فصرت خجولا بنفسك، منكمشا في بيتك، تشعر بالأفول تارة، وبالضمور تارة أخرى.
وجاء عام جديد، .. تقول فيه وأنت تتذكر نفسك قبل سنوات، لقد كنت أفضل موظف في الشركة، آتي في الموعد المحدد، وأنصرف في ساعة الانصراف، وكنت ممن يتقنون عملهم، وأحرص على أن يسود الاحترام بيني وبين زملائي، دون أن أنسى أنني كنت عنصرا هاما في سير العمل سيرا حسنا، وفي مساعدة الناس على قضاء مصالحهم كما يجب، لكنني اليوم أتهاون في الالتزام بمواعيد الدوام، تارة أذهب متأخرا، وتارة أتغيّب، فضيّعت سمعتي وسمعة الشركة، وتسببت في شقاء المراجعين والمداومين.
وجاء عام جديد.. قد كنت قبل أربع سنوات، ممن يأكل بانتظام في بيته، ويحرص على أن يأكل مع أسرته، وبين أعز الناس إليه، فصرت اليوم لا تجتمع بهم على مائدة، ولا يقر لك قرار إلا بين خلانك في المطاعم، وقد تعترف وتقول: وقد كنت ممن ينام مبكرا، ويستيقظ مبكرا، فتغيرت أيامي وأحوالي، وصرت ممن يسهر الليل وينام النّهار، فاصفرّ وجهي، وغاب الدفء عن وجنتيّ، وصار جسمي شاحبا باهتا.
وجاء عام جديد، لعلك تستذكر أصدقاء العمر الذين جمعتك بهم عشرة طويلة، امتدت سنوات أو عقود، فتغيّرت وغيّرتهم، وتبدلّت واستبدلتهم، كنت صادقا ووفيا لمعاني الصداقة، تبحث عن الصدق والنزاهة، حتّى تسلل إلى حياتك سحرة السوء، وشياطين الضلال، فأوحوا إليك ألا صداقة في زماننا، وأقنعوك بالبحث عن مصالحك وفقط، فقمت تكنس عشرتك مع أحبابك كنسا، كأنما تتخلص من فتات أو غبار علق بحياتك.. ومؤكد أنك تستذكر أن علاقتك بالأصدقاء الذين دعموك وساندوك في أحلك فترات حياتك، إلا أنك تنكرت لهم، فلم تعد ترد على رسائلهم، ولا تهتم بغيابهم؛ حتى أحزنتهم وخوّفتهم من الحياة.
وجاء عام جديد.. وقد كنت قبل أعوام تحافظ على عادات علّمها إياك أبوك، أو أمك العزيزة، وكنت حريصا على تنفيذ وصاياهم الطيبة، حتى إذا رحلوا وضعفت ذكراهم في حياتك، ضعف حضور تلك العادات الجميلة، لم تعد تسأل عن إخوتك، ولا تمد عينيك إلى حاجاتهم، فتطولها بالدعم والمساندة.
وجاء عام جديد.. قد كنت قبل سنوات ممن يحافظ على صلاتك، فتقيمها حتى تجد راحتك وطمأنينتك، كنت تتصدق بجزء من مالك على الضعفاء والفقراء، فيبارك الله في مالك، ويبعد عنك المتاعب ويزيح عن طريقك المصاعب، وكنت ممن يصل رحمه، فتجد بركة في الرزق، وينسأ ويزاد في عمرك، ولعلك كنت تحفظ لسانك من اغتياب الناس، وأذيّتهم بلسانك، فتغيرت وصرت تستلذ الطعن فيهم وإلحاق الضرر بسمعتهم وحياتهم، لعلك كنت تفتخر بإرضاء خالقك، ثم مضت الأيام فصرت تخجل بدينك، وتتنازل عنه رويدا رويدا، فتغير مظهرك ومخبرك، وتهت وفقدت نفسك.
وجاء عام جديد، ولو عقدنا مقارنة صادقة لأنفسنا بين الأمس واليوم، بين العام الذي مضى والأعوام الماضية، فإننا سنجد تغيرات كثيرة قد حدثت في حياتنا، فمن وجد إنجازات ومكتسبات يفتخر بها فليحمد الله، وليستمر في طريق الخير والعمل، ومن وجد انتكاسات في مشورا حياته، فليراجع نفسه، وليعتبر بما مضى، وما سميت العبرة عبرة إلا لأنها جسر للعبور من الماضي إلى المستقبل.
وها أنا في ختام هاته المقالة، أتمنى أن يكون عامك هذا خيرا مما مضى، وأن يكون ما تستقبله من أيام وأعوام أجمل وأفضل، وأن تحقق أقصى ما تسعى إليه، وتذكّر أن بداية التغيير تبدأ بإدراك حقيقة شخصيتك ونفسك، والبحث عن أسباب فشلك، وتجاوزها نحو أسباب النجاح، وتذكر أنك المحور الذي تدور عليه أيامك وأعوامك، فلا تهمل دنياك وآخرتك، ووزان بينهما، وقل {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار}.