وثيقة المدينة المنورة (دستور الدولة الإسلامية)
بقلم د. علي الصلابي
نظَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التَّاريخية، واستهدف هذا الكتاب، أو الصَّحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق، والواجبات، وقد سُمِّيت في المصادر القديمة بالكتاب، والصَّحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة (الدُّستور).
ولقد تعرَّض الدُّكتور أكرم ضياء العمري في كتابه «السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة» لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: «ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصَّحيحة»، وبيَّن: أنَّ أسلوب الوثيقة ينمُّ عن أصالتها؛ «فنصوصها مكوَّنةٌ من كلماتٍ وتعابير كانت مألوفةً في عصر الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ثم قَلَّ استعمالها فيما بعد، حتَّى أصبحت مغلقةً على غير المتعمِّقين في دراسة تلك الفترة. وليس في هذه الوثيقة نصوصٌ تمدح، أو تقدح فرداً، أو جماعةً، أو تخصُّ أحداً بالإطراء، أو الذَّمِّ؛ لذلك يمكن القول بأنَّها وثيقةٌ أصليةٌ، وغير مزوَّرةٍ»، ثمَّ إنَّ التَّشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة، وأساليب كُتُبِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يعطيها توثيقاً آخر.
أولاً: كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود:
نصُّ الوثيقة:
1 – هذا كتابٌ من محمَّد النَّبيِّ «رسول الله» بين المؤمنين، والمسلمين من قريشٍ، «وأهل يثرب»، وَمَنْ تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.
2 – إنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ من دون النَّاس.
3 – المهاجرون من قريشٍ على رِبْعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4 – وبنو عَوْف على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهمالأولى، وكلُّ طائفةٍ تَفْدي عانِيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5 – وبنو الحارث «بنو الخزرج» على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تَفْدي عانِيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6 – وبنو ساعدة على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
7 – وبنو جُشَم على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8 – وبنو النَّجار على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9 – وبنو عمرو بن عوف على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
10 – وبنو النَّبيت على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
11 – وبنو الأوس على رِبْعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
12 – وإنَّ المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً بينهم أن يُعْطوه بالمعروف؛ من فِداءٍ، أو عَقْل، وألا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمنٍ دونَه.
13 – وإنَّ المؤمنين المتَّقين «أيديهم» على «كلِّ» مَنْ بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعةَ ظُلْمٍ، أو إثماً، أو عدواناً، أو فساداً بين المؤمنين، وإنَّ أيديهم عليه جميعاً، ولو كان وَلَدَ أحدهِم.
14 – ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمناً في كافرٍ، ولا يَنْصُر كافراً على مؤمنٍ.
15 – وإنَّ ذمة الله واحدةٌ، يُجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون النَّاس.
16 – وإنَّـه مَنْ تبعنا من يهود، فإنَّ لـه النَّصرَ، والأُسوة غير مظلوميـن، ولا متناصرٍ عليهم.
17 – وإنَّ سِلْمَ المؤمنين واحدةٌ، لا يسالم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواءٍ، وعدلٍ بينهم.
18 – وإنَّ كلَّ غازيةٍ غزت معنا يُعْقب بعضها بعضاً.
19 – وإنَّ المؤمنين يُبِئ بعضهم على بعضٍ بما نال دماءهم في سبيل الله.
20 – وإنَّ المؤمنين المتَّقين على أحسن هدىً، وأقومه، وإنَّه لا يجير مشركٌ مالاً لقريشٍ، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمنٍ.
21 – وإنَّه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيِّنةٍ؛ فإنَّه قَوَدٌبه، إلا أن يرضى وليُّ المقتول بـ (العَقْل)، وإنَّ المؤمنين عليه كافَّةً، ولا يحلُّ لهم إلا قيامٌ عليه.
22 – وإنَّه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بِما في هذه الصَّحيفة، وامن بالله واليوم الآخر، أن ينصر مُحْدِثاً، أو يُؤْوِيه، وإنَّ مَنْ نصره، أو اواه، فإنَّ عليه لعنةَ الله، وغضبه يوم القيامة، ولا يُؤْخذ منه صرفٌ، ولا عدلٌ.
23 – وإنَّه مهما اختلفتم فيه من شيءٍ، فإنَّ مردَّه إلى الله، وإلى محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .
24 – وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
25 – وإن يهود بني عوف أمَّةٌ مع المؤمنين؛ لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا ظلم نفسه، وأَثِمَ، فإنَّـه لا يُوتِغُ إلا نفسَه، وأهلَ بيته.
26 -وإنَّ ليهود بني النَّجار مثل ما ليهود بني عوفٍ.
27 – وإنَّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوفٍ.
28 – وإنَّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوفٍ.
29 – وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوفٍ.
30 – وإنَّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوفٍ.
31 – وإنَّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوفٍ، إلا من ظَلَمَ، وأَثِمَ، فإنَّه لا يُوتِغُ إلا نفسَه، وأهلَ بيته.
32 – وإنَّ جَفْنَةَ بطنٍ مِن ثعلبة كأنفسهم.
33 – وإنَّ لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإنَّ البر دون الإثم.
34 – وإنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم.
35 – وإنَّ بطانة يهود كأنفسهم. (بطانة الرَّجل: أي: خاصَّته، وأهل بيته).
36 – وإنَّه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمَّد صلى الله عليه وسلم .
37 – وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النَّصرَ على من حارب أهل هذه الصَّحيفة، وإنَّ بينهم النُّصح، والنَّصيحة، والبرُّ دون الإثم.
38 – وإنَّه لا يأثم امرؤٌ بحليفه، وإنَّ النَّصر للمظلوم.
39 – وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
40 – وإنَّ يثرب حرامٌ جَوْفُها لأهل هذه الصَّحيفة.
41 – وإنَّ الجار كالنَّفس غير مُضارٍّ، ولا اثم.
42 – وإنَّه لا تُجار حُرمةٌ إلا بإذن أهلها.
43 – وإنَّه ما كان بين أهل هذه الصَّحيفة من حدثٍ، أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنَّ مَرَدَّهُ إلى الله – عزَّ و جلَّ – وإلى محمَّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنَّ الله على أتقى ما في هذه الصَّحيفة وأبرِّه (أي: إنَّ الله، وحزبه المؤمنين على الرِّضا به).
44 – وإنَّه لا تُجارُ قريشٌ، ولا مَنْ نصرها، وإنَّ بينهم النَّصرَ على من دَهَمَ يثربَ.
45 – وإذا دُعوا إلى صلحٍ يصالحونه، ويَلْبَسونه؛ فإنَّهم يصالحونه، ويلبسونه، وإنَّهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك؛ فإنَّه لهم على المؤمنين، إلا مَنْ حارب في الدِّين. وعلى كلِّ أناسٍ حِصَّتُهم من جانبهم الَّذي قِبَلَهم.
46 – وإنَّ يهود الأوس – مواليهم، وأنفسهم – على مثل ما لأهل هذه الصَّحيفة، مع البرِّ المحض من أهل هذه الصَّحيفة، وإنَّ البرَّ دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإنَّ الله على أصدق ما في هذه الصَّحيفة وأبرِّه.
47 – وإنَّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ، أو اثمٍ، وإنَّه مَنْ خرج امنٌ، ومن قعد امنٌ بالمدينة، إلا من ظَلم، وَأَثِمَ، وإنَّ الله جارٌ لمن برَّ، واتقى، ومحمَّدٌ رسولُ الله صلى اله عليه وسلم.
ثانياً: دروسٌ، وعبرٌ، وفوائد من الوثيقة:
1 – تحديد مفهوم الأمَّة:
تضمَّنت الصَّحيفة مبادئ عامَّةً، درجت دساتير الدُّول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ، تحديد مفهوم الأمَّة؛ فالأمَّة في الصَّحيفة تضمُّ المسلمين جميعهم، مهاجريهم، وأنصارهم، وَمَنْ تبعهم ممَّن لحق بهم، وجاهد معهم، أمَّةٌ واحدةٌ من دون النَّاس، وهذا شيءٌ جديدٌ كلَّ الجدَّة في تاريخ الحياة السِّياسيَّة في جزيرة العرب؛ إذ نقل الرَّسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبليَّة، والتَّبعيَّة لها، إلى شعار الأمَّة، الَّتي تضمُّ كلَّ من اعتنق الدِّين الجديد، فلقد قالت الصَّحيفة عنهم: «إنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ» (الفقرة: 1، 2). وقد جاء به القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وبيَّن سبحانه وتعالى وسطية هذه الأمَّة في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، ووضَّح – سبحانه وتعالى -: أنَّها أمَّةٌ إيجابيَّة؛ فهي لا تقف موقف المتفرِّج من قضايا عصرها؛ بل تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الفضائل، وتحذِّر من الرَّذائل. قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110] .
وبهذا الاسم الَّذي أُطلق على جماعةٍ من المسلمين، والمؤمنين، ومَنْ تبعهم من أهل يثرب اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة؛ الَّتي ترتبط فيما بينها برابطة الإسلام؛ فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظَّالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبَّة، والجوار. لقد انصهرت طائفتا الأوس، والخزرج في جماعة الأنصار، ثمَّ انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمَّةً واحدةً، تربط أفرادها رابطةُ العقيدة، وليس الدَّم، فيتَّحد شعورهم، وتتَّحد أفكارهم، وتتَّحد قبلتهم، ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشَّرع وليس للعُرْف، وهم يتمايزون بذلك كلِّه على بقيَّة النَّاس «من دون النَّاس»، فهذه الرَّوابط تقتصر على المسلمين، ولا تشمل غيرهم من اليهود، والحلفاء، ولا شكَّ: أنَّ تمييز الجماعة الدِّينية كان أمراً مقصوداً، يستهدف زيادة تماسكها، واعتزازها بذاتها، ويتَّضح ذلك في تمييزها بالقبلة، واتجاهها إلى الكعبة، بعد أن اتَّجهت ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس.
وقد مضى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يميِّز أتباعه عمَّن سواهم في أمورٍ كثيرةٍ، ويوضِّح لهم: أنَّه يقصد بذلك مخالفة اليهود، ومن ذلك: أنَّ اليهود لا يُصلُّون بالخِفاف، فأذن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلُّوا بالخُفِّ، واليهود لا تصبغ الشَّيب، فصبغ المسلمون شيب رؤوسهم بالحنَّاء، والكَتَم، واليهود تصوم عاشوراء، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً، ثمَّ اعتزم في أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه؛ مخالفةً لهم. ثمَّ إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم، والتميُّز عليهم، فقال: «مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم» [أحمد (2/50 و92) وأبو داود (4031) وعبد بن حميد (848)]، وقال أيضاً: «لا تشبَّهوا باليهود» [أحمد (1/165) والنسائي (8/137) وأبو يعلى (681)] . والأحاديث في ذلك كثيرةٌ، وهي تفيد معنى تميُّز المسلمين، واستعلائهم على غيرهم، ولا شك: أنَّ التشبُّه، والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذَّات، والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التَّميُّز، والاستعلاء، لا يشكِّل حاجزاً بين المسلمين، وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلاميَّة مفتوح، وقابلٌ للتوسُّع، ويستطيع الانضمامَ إليه مَنْ يؤمن بعقيدته.
واعتبرت الصَّحيفة اليهود جزءاً من مواطني الدَّولة الإسلاميَّة، وعنصراً من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصَّحيفة: «وإنَّه من تبعنا من يهود، فإنَّ له النَّصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرٌ عليهم» (الفقرة 16)، ثمَّ زاد هذا الحكم إيضاحاً، في الفقرة (25) وما يليها؛ حيث نصَّ فيها صراحةً بقوله: «وإنَّ يهود بني عوف أمَّةٌ مع المؤمنين…» وبهذا ترى: أنَّ الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب؛ الَّذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنَّهم أمَّةٌ مع المؤمنين ، ما داموا قائمين بالواجبات المترتِّبة عليهم؛ فاختلاف الدِّين ليس بمقتضى أحكام الصَّحيفة سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة.
2 – المرجعيَّة العليا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
جعلت الصَّحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصَّت على مرجع فضِّ الخلاف في الفقرة (23)، وقد جاء فيها: «وإنَّه مهما اختلفتم فيه من شيءٍ، فإنَّ مردَّه إلى الله، وإلى محمَّد صلى الله عليه وسلم » والمغزى من ذلك واضحٌ، وهو تأكيدُ سلطةٍ عليا دينيَّةٍ، تُهيمن على المدينة، وتفصل في الخلافات؛ منعاً لقيام اضطراباتٍ في الدَّاخل من جرَّاء تعدُّد السُّلطات، وفي الوقت نفسه تأكيدٌ ضمنيٌّ برئاسة الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الدَّولة، فقد حدَّدت الصَّحيفة مصدر السُّلطات الثلاثة: التَّشريعية، والقضائية، والتَّنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حريصاً على تنفيذ أوامر الله، من خلال دولته الجديدة؛ لأنَّ تحقيق الحاكمية لله على الأمَّة هو محض العبوديَّة لله تعالى؛ لأنَّه بذلك يتحقَّق التَّوحيد، ويقوم الدِّين. قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]. يعني: «ما الحكم الحـقُّ في الرُّبوبيـة، والعقائـد، والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشرٍ أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله، لا تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة».
لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبوديَّة، والحاكميَّة لله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 2 – 3] .
وقـال تعالـى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105] فكما أنَّ تحقيق العبودية غايةٌ من إنزال الكتاب؛ فكذلك تطبيق الحاكميَّة غايةٌ من إنزاله، وكما أنَّ العبادة لا تكون إلا عن وحي مُنَزَّل؛ فكذلك لا ينبغي أن يُحكم إلا بشرع منزَّلٍ، أو بما له أصلٌ في شرعٍ مُنزَّلٍ. إنَّ تحقيق الحاكميَّة تمكينٌ للعبوديَّة، وقيامٌ بالغاية الَّتي من أجلها خُلق الإنسان، والجان، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56] .
وقد اعترف اليهود في هذه الصَّحيفة بوجود سلطة قضائيَّة عليا، يرجع إليها سكَّان المدينة – بما فيهم اليهود – بموجب بند رقم (43)، لكنَّ اليهود لم يُلزَموا بالرُّجوع إلى القضاء الإسلاميِّ دائماً؛ بل فقط عندما يكون الحدث، أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أمَّا في قضاياهم الخاصَّة، وأحوالهم الشَّخصيَّة، فهم يحتكمون إلى التَّوراة، ويقضي بينهم أحبارها، ولكن إذا شاؤوا؛ فبوسعهم الاحتكام إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد خيَّر القرآن الكريم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم، أو ردِّهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42] .
ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرَّسول صلى الله عليه وسلم فيها اختلافُ بني النَّضير، وبني قريظة في دِيَة القتلى بينهما، فقد كانت بنو النَّضير أعزَّ من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دِيَةً مضاعفةً لقتلاها، فلـمَّا ظهر الإسلام في المدينة؛ امتنعت بنو قريظة عن دفع الضِّعف، وطالبت بالمساواة في الدِّيَة، فنزلت الآية: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالآنفَ بِالآنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45] .
وبهذه الصَّحيفة – الَّتي أقرَّت المادة (43): على «أنَّه ما كان بين أهل هذه الصَّحيفة من حدثٍ، أو اشتجارٍ يُخاف فساده. فإنَّ مردَّه إلى الله، وإلى محمَّدٍ رسوله صلى الله عليه وسلم » أصبح للرَّسول صلى الله عليه وسلم سلطةٌ قضائيَّةٌ مركزيَّةٌ عليا، يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ولها قوَّةٌ تنفيذيَّةٌ؛ لأنَّ أوامر الله واجبة الطَّاعة، وملزمة التَّنفيذ، كما أنَّ أوامر الرَّسول صلى الله عليه وسلم هي من الله، وطاعتها واجبةٌ.
وبذلك أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيسَ الدَّولة، وفي الوقت نفسه رئيس السُّلطة القضائيَّة، والتَّنفيذيَّة، والتَّشريعية؛ فقد تولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم السُّلطات الثلاث، بصفته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المكلَّف بتبليغ شرع الله، والمفسِّر لكلام الله، والسُّلطة التَّنفيذيَّة بصفته الرَّسول الحاكم، ورئيس الدَّولة، فقد تولَّى رئاسة الدَّولة وَفْقَ نصوص الصَّحيفة، وباتفاق الطَّوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممَّن شملتهم نصوص الصَّحيفة في المادة (36)، الَّتي تقرِّر: أنَّه: «لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم » ولهذا تأثيرٌ كبيرٌ في عدم السَّماح لهم بمحالفة قريش، أو غيرها من القبائل المعادية. وهناك المادَّة (44) الَّتي ذهبت إلى ما هو أبعد، وأصرح من ذلك؛ إذ قرَّرت: أنَّه: «لا تُجارُ قريشٌ، ولا مَنْ نَصَرَها»، ولم يَرِدْ في الصَّحيفة اسمٌ لأيِّ شخصٍ ما عدا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .
3 – إقليم الدَّولة:
جاء في الصَّحيفة: «إنَّ يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصَّحيفة» مادة (40)، وأصل التَّحريم ألا يقطع شجرها، ولا يقتل طيرها، فإذا كان هذا هو الحكم في الشَّجر والطَّير، فما بالك في الأموال، والأنفس؟! فهذه الصَّحيفة حدَّدت معالم الدَّولة: أمَّةٌ واحدةٌ، وإقليمٌ هو المدينة، وسلطةٌ حاكمةٌ يُرْجَع إليها، وتَحْكُم بما أنزل الله.
كانت المدينة بداية إقليم الدَّولة الإسلاميَّة، ونقطة الآنطلاق، ومركز الدَّائرة؛ الَّتي كان الإقليم يتَّسع منها حتَّى يضع حدَّاً للقلاقل والاضطرابات ويسوده السلم والأمن العام. وقد أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه ليثبِّتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات وحدود المدينة بين لابَتَيْها شرقاً وغرباً وبين جبل ثَوْر في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب. ثمَّ اتسع «الإقليم» باتِّساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام، حتَّى عمَّ مساحةً واسعةً في الأرض، والبحر، وما يعلوهما من فضاء، فمن المحيط الأطلسي غرباً، ومناطق واسعةٍ من غرب أوربة، وجنوبها، ومناطق فسيحةٍ من غرب اسية وجنوبها، إلى أكثر أهل الصِّين وروسية شرقاً، وكلِّ شمال إفريقية وأواسطها. إنَّ إقليم الدَّولة مفتوحٌ وغير محدودٍ بحدود جغرافيَّةٍ، أو سياسيَّةٍ؛ فهو يبدأ من عاصمة الدَّولة «المدينة»، ويتَّسع حتَّى يشمل الكرة الأرضيَّة بأسرها.
قال تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128] كما أنَّ مفهوم الأمَّة مفتوحٌ وغير منغلقٍ على فئةٍ دون فئةٍ؛ بل هي ممتدَّةٌ لتشمل الإنسانيَّة كلَّها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى؛ الذي ارتضاه لخلقه، ولبني ادم أينما كانوا، فالدَّولة الإسلاميَّة دولةُ الرِّسالة العالمية، لكلِّ فردٍ من أبناء المعمورة نصيبٌ فيها، وهي تتوسَّع بوسيلة الجهاد.
4 – الحرِّيَّات وحقوق الإنسان:
إنَّ الصَّحيفة تدلُّ بوضوحٍ، وجلاءٍ على عبقرية الرَّسول صلى الله عليه وسلم في صياغة موادِّها، وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعضٍ؛ فقد كانت موادُّها مترابطةً، وشاملةً، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقِّق العدالة المطلقة، والمساواة التَّامَّة بين البشر، وأن يتمتَّع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأديانهم، بالحقوق والحرِّيَّات بأنواعها. يقول الأستاذ محمد سليم العوَّا: «ولا تزال المبادئ التي تضمَّنها الدستور – في جملتها – معمولاً بها، والأغلب أنَّها ستظل كذلك في مختلف نُظُم الحكم المعروفة إلى اليوم… وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها، في أوَّل وثيقة سياسيَّة دوَّنها الرَّسول صلى الله عليه وسلم ».
فقد أعلنت الصَّحيفة: أنَّ الحرِّيات مصونةٌ؛ كحرية العقيدة، والعبادة، وحقِّ الأمن… إلخ، فحرية الدِّين مكفولةٌ: «للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم». قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرآه فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256] وقد أنذرت الصَّحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ، أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصَّت الوثيقة على تحقيق العدالة بين النَّاس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة.
إنَّ الدَّولة الإسلاميَّة واجبٌ عليها أن تقيم العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسِّر السُّبل أمام كلِّ إنسانٍ – يطلب حقَّه – أن يصل إلى حقِّه بأيسر السُّبل، وأسرعها، دون أن يكلِّفه ذلك جهداً، أو مالاً، وعليها أن تمنع أيَّ وسيلةٍ من الوسائل، التي من شأنها أن تعوق صاحب الحقِّ من الوصول إلى حقِّه.
لقد أوجب الإسلام على الحكَّام أن يقيموا العدلَ بين النَّاس دون النّظر إلى لغاتهم، أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعيَّة، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحقِّ، ولا يهمُّه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء، أو أعداء، أغنياء، أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8] والمعنى: لا يحملنَّكم بُغض قومٍ على ظلمهم، ومقتضى هذا أنَّه لا يحملنَّكم حبُّ قوم على محاباتهم، والميل إليهم.
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي – رحمه الله – معقِّباً على قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15] ما نصُّه: «يعني أنَّني مأمور بالآنصاف دون عداوةٍ، فليس من شأني أن أتعصَّب لأحدٍ، أو ضدَّ أحدٍ، وعلاقتي بالنَّاس كلِّهم سواءٌ، وهي علاقة العدل، والآنصاف، فأنا نصيرُ مَنْ كان الحقُّ في جانبه، وخصيم من كان الحق ضدَّه، وليس في ديني أيُّ امتيازات لأيِّ فردٍ كائناً مَنْ كان، وليس لأقاربي حقوقٌ، وللغرباء حقوقٌ أخرى، ولا للأكابر عندي مميِّزاتٌ لا يحصل عليها الأصاغر، والشُّرفاء والوضعاء عندي سواءٌ، فالحقُّ حقٌّ للجميع، والذَّنب والجُرْم ذنبٌ للجميع، والحرام حرامٌ على الكلِّ، والحلال حلالٌ للكُلِّ، والفرض فرض على الكلِّ، حتَّى أنا نفسي لست مستثنىً من سلطة القانون الإلهيِّ.
إنَّ تربية المجتمع المسلم وإعداده لقيادة الإنسانيَّة بخصائصه؛ التي احتواها منهجه التربويُّ حفيَّةٌ أشدَّ الحفاوة بِشِرْعَةِ العدل، وإقامته بين الأفراد، والجماعات، والأمم، والشُّعوب؛ لأنَّ العدل في شمول مواطنه هو دعامةُ القيادة الموفَّقة.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135] .
وهذا نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ في تكليف المجتمع القياديِّ المسلم بتحقيق العدل على أتمِّ صوره، وأكمل أحواله، فالعدل على النفس، وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس، وأبعد البُعَدَاء، وفي قوله تعالى: ﴿كُونُوا﴾، أمرٌ للمجتمع المسلم، في جميع أفراده، وجماعاته، أينما حلُّوا من أرض الله، وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة، أو المتباعدة، وهو أمر كينونة يُشْعر بمادَّته بالإلزام، والالتزام، والتَّهيُّؤ والآنبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة، وفي قوله تعالى: بصيغة ﴿قَوَّامِينَ﴾، إيماءٌ إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من النهوض بإقامة معالم العدل بكلِّ ما أوتي من قوة مادِّية، ورُوحية، مشمِّراً علىساق العزم في بذل الجهد، والتحفُّز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل الاجتماعيِّ.
إنَّ القرآن الكريم – وهو دستور المجتمع المسلم – لا يقف في أسلوبه الَّذي يحضُّ به على الاستمساك بالعدل عند سفح الحياة، ولكنَّه يَلِجُ إلى مداخل الضَّمير الإنسانيِّ، ويأبى عليه أن يخضع في إقامة العدل لعاطفة تتملَّق الغنيَّ لغناه، وسعة ثروته من المال، أو يتملَّق عاطفة الرَّحمة، فيرحم الفقير لفقره، فيلوي عنه عنق العدل حتى لا يرى ما يقع منه من ظلمٍ، وحَيْفٍ على الحق.
والقرآن بذلك لا يرضى للمجتمع المسلم، أن يحمله تعزُّز الغني بثرائه، وغناه على ألا يقام معه العدل، ويظلم له الفقير، ولا يرضى لهذا المجتمع المسلم أن تحمله الرَّحمة للفقير، فيُحابي بظلم الغنيِّ لأجله.
ولا يرضى القرآن الحكيم لمجتمعه المسلم، أن يميل مع الهوى، ويخضع للعواطف، فيحيد عن العدل ليّاً بالحق، وإعراضاً عنه.
وقد جاءت أخت هذه الآية، في نسق أسلوبها، وألفاظها؛ لتكمِّل صورة إقامة العدل على أتمِّ وجوهه، ولتقرِّر: أنَّ موازين العدل يجب أن يتساوى فيها المحبُّ والمُبْغض، والقريب والبعيد، والصَّديق والعدوُّ، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8] .
فصورة الخطاب الكينوني هنا ﴿كُونُوا﴾ الَّذي يجعل من العدل طبيعة خلائق المجتمع المسلم؛ الَّذي نيطَ به قيادة الإنسانيَّة – هي صورته هناك؛ لأنَّ العدل أمانة هذا المجتمع المسلم العظمى الَّتي حملوها؛ ليؤدُّوها إلى النَّاس في حياتهم؛ بيد أنَّ الأمر قد اختلف في الايتين اختلافاً جَمَعَ مُتَفَرِّقَ مواطنِ العدل باعتباره أصلاً من أصول الرِّسالة الخالدة الخاتمة؛ الَّذي يعمُّ الحياة من جميع جوانبها؛ ففي الآية الأولى وجَّه الأمر للمجتمع المسلم بأشرف أوصافه – قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا﴾ – إلى أن يكون قوَّاماً بالعدل، ولو كان في ذلك مراغمةُ منازع الحبِّ، والودِّ، والقربى، وفي هذه الآية الثانية وجَّه الأمر للمجتمع بعنوانه المشرِّف، إلى أن يكون قوَّاماً بالعدل، ولو كان في ذلك مراغمةُ جميع عواطف البغض، والعداوة.
وملتقى الآيتين الكريمتين في توجيه المجتمع المسلم توجيهاً صارماً لا هوادة فيه إلى أن يكون نهَّاضاً بالعدل، قائماً به بين النَّاس، له قيادته للإنسانيَّة، وليخلص له التوجُّه إلى الله تعالى في إخلاص العبوديَّة له وحده، لا تحمله محبَّةٌ مهما عظمت، أو بغضٌ مهما اشتدَّ على الإعراض عن إقامـة العدل؛ إحقاقـاً للحقِّ، وإنصافاً للمظلوم، ونصراً للضَّعيف.
أمَّا مبدأ المساواة؛ فقد جاءت نصوصٌ صريحةٌ في الصَّحيفة حولها، منها: «أن ذمَّة الله واحدة»، وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم»، وأنَّ «المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون النَّاس»، ومعنى الفقرة الأخيرة: أنَّهم يتناصرون في السَّراء والضَّرَّاء (الفقرة 15). وتضمَّنت الفقرة (19): أنَّ «المؤمنين يُبيء بعضهم على بعضٍ، بما نال دماءهم في سبيل الله»، قال السُّهيلي – شارح السيرة – في كتابه (الرَّوض الآنف): «ومعنى قوله يبيء: هو من البَوَاء، أي: المساواة».
ويعدُّ مبدأ المساواة أحد المبادئ العامَّة الَّتي أقرَّها الإسلام، وهو من المبادئ الَّتي تساهم في بناء المجتمع المسلم، ولقد أقرَّ هذا المبدأ، وسبق به تشريعات، وقوانين العصر الحديث، وممَّا ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها النَّاس! ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتَّقوى. أَبَلَّغْتُ؟» [أحمد (5/411)] .
إنَّ هـذا المبدأ كان من أهم المبادئ الَّتي جذبت الكثيـر من الشُّعـوب قديماً نحو الإسلام، فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوَّة للمسلمين الأوَّلين.
وليس المقصود بالمساواة هنا، (المساواة العامَّة) بين النَّاس جميعاً في أمور الحياة كافَّةً، كما ينادي بعض المخدوعين، ويرون ذلك عدلاً؛ فالاختلاف في المواهب، والقدرات، والتَّفاوت في الدَّرجات غايةٌ من غايات الخلق؛ ولكنَّ المقصود المساواةُ؛ الَّتي دعت إليها الشَّريعة الإسلاميَّة، مساواةٌ مقيَّدةٌ بأحوالٍ فيها التَّساوي، وليست مطلقةً في جميع الأحوال، فالمساواة تأتي في معاملة النَّاس أمام الشَّرع، والقضاء، والأحكام الإسلاميَّة كافَّةً، والحقوق العامَّة دون تفريق بسبب الأصل أو الجنس، أو اللَّون، أو الثروة، أو الجاه، أو غير ذلك.
إنَّ النَّاس جميعاً في نظر الإسلام سواسيةٌ، الحاكم، والمحكوم، الرِّجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين النَّاس بسبب الجنس، واللون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكَّام والمحكومون كلُّهم في نظر الشَّرع سواء؛ ولذلك كانت الدَّولة الإسلاميَّة الأولى، تعمل على تطبيق هذا المبدأ بين النَّاس وكانت تراعي الاتي:
- إنَّ مبدأ المساواة أمرٌ تعبُّديٌّ، تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى.
- إسقاط الاعتبارات الطَّبقية، والعُرْفية، والقبليَّة، والعنصريَّة، والقوميَّة، والوطنية، والإقليمية، وغير ذلك من الشِّعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانيَّة، وإحلال المعيار الإلهيِّ بدلاً عنها للتَّفاضل، ألا وهو التَّقوى.
- ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، ولا يُراعى أحدٌ لجاهه، أو سلطانه، أو حسبه ونسبه؛ وإنَّما الفرص للجميع، وكلٌّ على حسب قدراته وكفاءاته، ومواهبه، وطاقته، وإنتاجه.
- إنَّ تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدَّولة الإسلاميَّة، يقوِّي صفَّها، ويوحِّد كلمتها، وينتج عنه مجتمعٌ متماسكٌ متراحمٌ يعيش لعقيدةٍ، ومنهجٍ، ومبدأ.
كانت الوثيقة قد اشتملت على أتمِّ ما قد تحتاجه الدَّولة، من مقوِّماتها الدُّستوريَّة، والإداريَّة، وعلاقة الأفراد بالدَّولة، وظَلَّ القرآن يتنزَّل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السِّياسة، وشؤون المجتمع، وأحكام الحرام والحلال، وأسس التَّقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدَّولة المسلمة في الدَّاخل، والخارج، والسُّنَّة الشريفة تدعم هذا، وتشيده، وتفصِّلـه في تنوير وتبصرةٍ، فالوثيقة خطَّت خطوطاً عريضة في التَّرتيبات الدُّستورية، وتُعَدُّ في قمَّة المعاهدات الَّتي تحدِّد صلة المسلمين بالأجانب الكفَّار المقيمين معهم، في شيءٍ كثيرٍ من التَّسامح، والعدل، والمساواة، وعلى التَّخصيص إذا لُوحِظَ أنَّها أوَّل وثيقةٍ إسلاميَّة، تُسَجَّل، وتنفَّذ في أقوامٍ كانوا – منذ قريب – وقبل الإسلام – أسرى العصبية القَبَلِيَّة، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلُّط، وبالتَّخوض في حقوق الآخرين، وأشيائهم. وكانت هذه الوثيقة، فيها من المعاني الحضاريَّة الشيء الكثير، وما توافق النَّاس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان، وأنَّه لا بدَّ على الجانبين المتعاقدين أن يلتزموا ببنودها، فهل حدث هذا الالتزام.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)