بقلم محمد نزال
تعود معرفتي بالأخ الصديق “وائل أبو هلال”، إلى ربع قرن ونيّف، ولكنها معرفة بدأت سطحية ومحدودة، وأخذت تكبر، مثلما تكبر “كرة الثلج”، حيث كانت تتراكم مع الزمن، خصوصاً في العقد الأخير، الذي قضينا خلاله مئات الساعات معاً، سواء كانت تلك حوارات ثنائية، أو جماعية، نتناقش ونتحاور في هموم الأمة وقضاياها، وفي المقدمة منها قضية فلسطين.
لقد كان الفقيد يحرص على زيارتي في العِقْدِ الأول من “الألفية الثانية” في منزلي بضاحية “مشروع دمر” في غرب العاصمة السورية (دمشق)، كلّما جاء إلى دمشق، قادماً من الشارقة، حيث كان يقيم.. وبعد أن خرجنا من دمشق، بسبب الأحداث التي عصفت بها بدايات العقد الثاني، أصبحت أزوره في منزله في الدوحة، التي انتقل إليها، كلّما قدمت إلى الدوحة… وفي العام الأخير، وبعد أن تعذّر الذهاب إلى الدوحة، بسبب الحصار الذي أطبق عليها، أصبحنا نلتقي في مدينة “إسطنبول”، حيث لا يكاد يمر شهر دون اللقاء بيننا… لم تكن لقاءاتنا، هذراً، ولا خوضا في سفاسف الأمور، ولا في الغيبة والنميمة، ولا القيل والقال، ولكنها كانت لقاءات حوار ثرية، نتبادل فيها المعلومات والآراء والأفكار، ونسبر أغوارها، ونستطلع المستقبل.. كانت لقاءات عمل، تسودها الجدية والعمق، ولكنّها لم تكن تخلو من “المرح”!
أما اللقاء الأخير الثنائي بيني وبينه، فقد كان في أحد مطاعم ومقاهي “إسطنبول”، حيث اتصل بي، وعبّر عن رغبته للقاء معي، واتفقنا على اللقاء في ساعة متأخرة من مساء يوم الخميس 28 آذار/ مارس 2018م، وكان لقاء ممتعاً وثرياً، امتد نحو ثلاث ساعات على الأقل، ثم ذهبت برفقته مع مساعدي الشخصي لإيصاله إلى منزله، على الرغم من تمنّعه، وإصراره على الذهاب بسيارة “أجرة”، وهو ما رفضته بشدّة لأننا كنا قد اقتربنا من ساعات الفجر الأولى!
أعود إلى اللقاء، فقد بدأه هو متحدّثا، حيث استمعت إليه بإصغاء وإنصات شديدين، إذ ركز في حديثه على ضرورة تعزيز لغة الحوار داخل الحركة الإسلامية الفلسطينية، وأهمية تقبل النقد البناء الموضوعي على كل المستويات.. أثنيت على شجاعته وجرأته في كلمة الحق، وشددت من أزره، مؤكّداً له أنه لا خيار أمام الأحرار إلا طرح آرائهم بصدق وموضوعية، وحكمة، وشجاعة. ثم انتقلت للحديث عن موضوع آخر، طلب منّي إيضاحات حوله، فتحدثت تفصيلاً، وكان مرتاحاً جدّاً للتوضيحات التي ذكرناها له.
بعد أن تناولنا معاً “العشاء الأخير”، الذي كانت “قلّاية البندورة” هي الوجبة الأساسية والوحيدة فيه، ثم تناولت “أكواب” الشاي، وتناول هو “فناجين” القهوة، على امتداد الساعات التي قضيناها معاً، أشفقت عليه، حيث بلغ التعب به مبلغاً، يحتاج فيه إلى النوم والراحة، خصوصاً وأنه كان يستعد للسفر إلى بيروت، وقد تواعدنا أن نلتقي هناك، وهو ما كان، ولكن كان اللقاء معه جماعيّاً بوجود أخوة آخرين، إذ لم تتح لي فرصة اللقاء الثنائي معه، وكان هذا هو آخر لقاء يجمعني به، قبل أن يذهب إلى لندن، وتوافيه المنية هناك.
لقد صدمني نبأ وفاة أخينا أبي يحيى، فقد جاءت وفاته بغتة ودون مقدّمات، حيث لم يتحمّل دماغه هموم الأمة التي طالما ظل يحملها، فانفجر أحد شرايينه، ما أدّى إلى حدوث نزيف، لم يستطع كبار “النّطاسيين” في لندن وقفه، فلفظ أنفاسه الأخيرة، مساء يوم الثلاثاء 24 نيسان/ أبريل 2018م.. وإنني ووفاء لهذا الأخ والصديق، الذي فجعنا برحيله، أقدّم شهادة بحقّه، أتناول فيها “الوجه الإنساني والقيمي” له، وهو الوجه الذي أراه ما يميّز الفقيد، حتى يكون عبراً ودروساً نستخلصها نحن الأحياء، لعلّنا نقتدي بها.
لقد كان أبو يحيى رقيق القلب، يتألم لآلام الناس، ويحزن لأحزانهم، ويقوم على خدمتهم، ويسعى في حوائجهم.. كانت دمعته سريعة، حيث تسقط كلّما سمع قصّة مؤثّرة، إذ كان يتفاعل معها تفاعلاً إنسانياً.. كان كريم النفس، مما عكس ذلك في تسامحه، فهو لا يحقد، ويتجاوز عمّن أساء له، وكانت قابليته للعفو والتغافر عالية جدّاً. وعكس ذلك، في كرمه وجوده، حيث كان منزله عامراً دائماً بالضيوف الكثر، الذين كانوا يُدْعَونَ على موائد الطعام التي كانت تعدّها زوجته الوفيّة، أم يحيى، لهم بنفسها… كان مسكوناً بقيم المروءة والوفاء، لذا كان ينزعج عندما يرى هذه القيم قد تراجعت في مجتمعاتنا الإسلامية، أو في أوساط الحركات الإسلامية.
هناك أربع قضايا كانت مثار تركيزه دائماً، وقد تبدو أنها محض قضايا فكرية، ولكنها كانت عند أبي يحيى قضايا إنسانية وقيمية في المقام الأول.
الأولى: دعوته الدائمة لاحترام دور المرأة في المجتمع عموماً، والحركات الإسلامية خصوصاً، وعدم جعل المرأة ملحقاً بالرجل وتابعاً له. وقد كان له بصمات واضحة في نقل قناعاته من الشعار إلى الواقع.
الثانية: دعوته الدائمة للاهتمام بالشباب، وإفساح المجال أمامهم للتقدّم نحو المواقع القيادية.
الثالثة: الدعوة إلى إشاعة حرية الرأي، وأن يكون سقفها السماء، كما كان يقول دائماً.
الرابعة: دعوته الدائمة إلى الاهتمام والتفاعل والتضامن مع قضايا الشعوب المستضعفة في الأمة، وأن لا تستغرقنا همومنا الخاصة عن همومنا العامة.
لقد مضى “أبو يحيى” إلى ربه، ولا تنفعه شهاداتنا به، ولا إطراؤنا له، لكن سينفعه عمله الصالح، والعلم الذي تركه لنا وهو ما يستلزم من أصدقائه ومحبّيه، جمع ما كتبه في كتاب، حتى تقرأه الأجيال الحالية والقادمة، لتنتفع به، وليكون صدقة جارية له بإذن الله تعالى.
(المصدر: موقع بصائر)