هوى متبع.. أم اجتهاد سائغ؟
بقلم وائل البتيري
يخلط كثيرون بين الممارسات غير الأخلاقية التي يقع فيها بعض الإسلاميين، وبين اجتهاداتهم الخاطئة، فيجعلون سلوكاتهم المنحرفة اجتهادات مأجور صاحبها حتى وإنْ جانبت الصواب، أو يحكمون على اجتهاداتهم الخاطئة بأنها دليل على فساد أخلاقهم، وكلا المسلكين خطأ ظاهر.
ولسائل أن يسأل: كيف نميز بين هذه وتلك؟ ومتى يكون فعل “الإسلامي” اجتهاد سائغ – ولو كان خطأ -؟ ومتى يكون صادراً عن خلق سيئ، أو علامة على هوى متبع؟
علينا أولاً أن ننظر في قول القائل أو فعله؛ هل يمكن بوجه من الوجوه أن يدل النص على مشروعيته -حتى وإنْ كانت هذه الدلالة مرجوحة-، ويجب أن نلحظ في هذا النظر أقوال العلماء المعتبرين من السلف والخلف في فهمهم هذا النص، ثم سياقه وسباقه، ثم دلالات اللغة العربية بالنظر إلى حدود الكلمة عند العرب، مع عدم الخلط بين المعنى العربي الأصيل، وبين اصطلاحات أهل الفنون الحادثة.
وبعد ذلك؛ إن وجدنا أن ما سبق كلّه؛ لا يعين على القول باحتمالية مشروعية قول القائل أو فعله -وإنْ كان هذا القول أو الفعل مرجوحاً – فإنه يصار إلى الحكم عليه بالهدر ولا كرامة، وهو يدل في هذه الحالة على أن صاحبه إما متبعٌ هواه، أو لم يبذل ما ينبغي أن يُبذل من الوسع في النظر وجمع الأدلة، ولا يمكن أن يكون مَن هذا حاله مأجوراً، فدين الله تعالى ليس لعبة حتى يُفتى فيه من غير تبيّن وافٍ، وسبرٍ للتفاصيل، وبذل جهد في البحث والنظر .
إن التماس الأعذار لأهل العلم والفضل، ومنحهم فضيلة الأجر إن أخطأوا في الاجتهاد، والأجرين إنْ أصابوا؛ لا يعني فتح الباب لكل من هب ودب، كي يمارس هواياته، أو يعبر عن أزماته النفسية، من خلال أقوال ينسبها للدين؛ الدين وأهله منها براء، حتى وإنْ تدثر أصحابها بثوب الالتزام والتنسك.
إن التماس الأعذار لأهل العلم والفضل، ومنحهم فضيلة الأجر إن أخطأوا في الاجتهاد، والأجرين إنْ أصابوا؛ لا يعني فتح الباب لكل من هب ودب، كي يمارس هواياته، أو يعبر عن أزماته النفسية، من خلال أقوال ينسبها للدين؛ الدين وأهله منها براء
لا شك أن “الملتزمين” عموماً أقرب إلى الاستقامة من غيرهم، وصحيحٌ أنهم -أو أكثرهم- لا يزنون، ولا يشربون الخمر، ولا يأكلون الربا، ولا يقارفون موبقات الذنوب الظاهرة؛ إلا أن خروقاتٍ “أخلاقية” ربما تخفى على بعض دون بعض، اعتملت ثوبهم الأبيض الجميل، وازدادت مع مرور الزمن شيئاً فشيئاً، حتى بات الثوب الأبيض وسخاً يحتاج إلى يد خشنة تدعكه وتطهره.
قد ترى شيخاً بلغ القمة في الزهد.. يقطن في بيت من طين، ولا يملك سيارة تعينه على التنقل، ولا يحوز أكثر من ثوبين؛ يبدل بينهما كلما اتسخ أحدهما، ويأكل من الطعام ما قل قدْرُه وزهد سعرُه، ثم إذا وقف خطيباً في الناس؛ امتدح الطغاة وأثنى عليهم، مع علمه بظلمهم وجبروتهم، ومحاربته حركات إسلامية تقاوم طغيانه بشكل من الأشكال.. كيف لنا أن نستوعب أن يقوم هذا الشيخ بهذا الفعل هكذا لله -كما يُقال-؟ أي أنه لا يقبض على كلامه ثمناً ينعكس على وضعه المعيشي!
إن النظر إلى التفاعلات النفسية التي اعتملت نفس هذا الشيخ؛ تعيننا على فهم سلوكه، فقد نجد أن التعصب قد أعمى بصيرته إلى درجة أنه يثني على الطاغية لكونه يعادي حركات إسلامية هو يبغضها، وربما يكون السبب الذي دفعه إلى بغضه إياها وجيهاً، كأن تكون قد افترت عليه مرةً، أو أخرجته من صفوفها ظلماً، ولكن هذا لا يسوغ له أن يوالي الطغاة البيّن طغيانهم؛ على حساب إخوانه الذين أخطؤوا في حقه مرة أو حتى عشرة.
ويلعب الحسد أحياناً بـ”المشايخ” لعبته، فتتسلط ألسنة بعضهم على بعض، وتعلو الردود المليئة بالسباب والشتم والتحقير، الخالية من البحث العلمي الرصين، ويتناقل مريدو كل شيخ ردوده الخارجة من مشكاة الغل والحقد والحسد، وكأنها أسفارٌ صادرة عن هدي الكتاب الكريم أو السنة الشريفة.. وهذه إحدى مظاهر الخلط بين الفساد الأخلاقي، والاجتهاد السائغ.
يلعب الحسد أحياناً بـ”المشايخ” لعبته، فتتسلط ألسنة بعضهم على بعض، وتعلو الردود المليئة بالسباب والشتم والتحقير، الخالية من البحث العلمي الرصين، ويتناقل مريدو كل شيخ ردوده الخارجة من مشكاة الغل والحقد والحسد، وكأنها أسفارٌ صادرة عن هدي الكتاب الكريم أو السنة الشريفة
وقد يمارس أحدهم السرقات العلمية، ويتكئ بفعلته على سلوك بعض العلماء السابقين في مصنفاتهم، وهو على يقين أن هؤلاء العلماء ليسوا بمعصومين، وأن أفعالهم ليست حجة شرعية حتى يدَع الأدلة الكثيرة على فساد فعله من أجل سلوكهم الخاطئ.. هنا ينبغي أن يقال بكل صراحة: هذه سرقة وكذب وتدليس وغش للقراء، وصاحبها إنما أغرته الأموال التي يقبضها من دور النشر، أو أغوته الشهرة التي يسعى من خلالها إلى أن يُشار إليه بالبنان.
وهكذا.. يجب التفريق بين ما يدعي العالم أو الداعية مشروعيته، زاعماً أن قوله أو فعله موافق للكتاب والسنة، وبين ما هو صادر عن خلقه السيئ، وهواه الذي يسوقه إلى مهاوي الردى والخسران، وركونه إلى متاعٍ زائل، ودنيا فانية .
ولكن؛ ونحن نتحدث عن هذه الظاهرة عموماً؛ تنبغي الإشارة إلى أننا لسنا بحاجة حتى نحكم على قول أو فعل ما بأنه مهدور، إلى أن نخضع صاحبه – بعينه – للتحليل النفسي، فيكفي ظهور فساده على الحكم بإهداره، إلا إنْ تكرر صدور هذه الأقوال أو الأفعال الفاسدة من هذا الشخص، إلى درجة أنها أصبحت علامة ظاهرة، وقرينة قاطعة، على أنه صاحب هوى؛ لا يملك القدرة على مخالفة هواه، أو فاسد الخلُق؛ لا يملك أن يغيّر طبْعه، أو مريضٌ نفسي؛ يحتاج أن يخضع للعلاج، أو عميل مدسوس ليس له من الإسلام نصيب.. فإننا حينئذ نقول للمخدوعين فيه: احذروا.. إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمّن تأخذون دينكم.
صحيحٌ أن الإسلام راعى النظر إلى النيات، وجعله قاعدة مهمة في الحكم على الأفراد، وقرر أن “الأحكام في الدنيا والآخرة مرتبة على ما كسبه القلب، وعقد عليه، وأراده من معنى كلامه” كما قال ابن القيم في “إعلام الموقعين” (4/246)، ولكن في سياق بيان الأقوال والأفعال المشروعة وغير المشروعة للمسلمين عامة؛ فإن بيان فساد هذه الأقوال والأفعال لا علاقة له بالنية، وإنما بالنص الشرعي وما دل عليه.. أما النيات فمتعلقة بفعل خاص لفرد معين، أو لجماعة من المسلمين تتواطأ كلمتها على قصد معين، لا المسلمين جميعهم. والله تعالى أعلم.
(المصدر: موقع بصائر)