بقلم وائل البتيري
من السهل جداً أن يقول أحدنا “هذا قول غير معتبر” لمجرد أن يسمع قولاً يخالف متبنياته التي نشأ عليها، أو خلصَ إلى أنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! وينسى صاحبنا في غمره اعتداده بقوله؛ أن مخالفه يَعدّ قوله غير معتبر أيضاً؛ فكان ماذا؟
بالنسبة لي؛ لا أعلم نصاً في الكتاب والسنة يذكر مصطلح “القول غير المعتبر” ويعرّف به . غاية ما هنالك نصوصٌ تدعو المسلمين إلى طاعة الله ورسوله، وعدم العدول عن دلالة النص إلى غيره، لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيَرةُ من أمرهم} [الأحزاب:36]، فلا قول ينهض أمام دلالة النص الصريحة التي لا تحتمل التأويل، وإذا احتمل النص قولين فقط؛ فلا يجوز أن نعتدّ بقول ثالث البتة، طالما أن النص لا يحتمله.
ومن البدهي أن النصوص الشرعية تنقسم من حيث دلالتها إلى قسمين، قطعي الدلالة وظني الدلالة، فما كان قطعياً في دلالته فلا يجوز القول بخلافه، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “القول غير المعتبر”، وما كان ظنياً في دلالته فيجوز القول بأحد وجوه دلالته، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “القول المعتبر”.
ما كان قطعياً في دلالته من النصوص الشرعية فلا يجوز القول بخلافه، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “القول غير المعتبر”، وما كان ظنياً في دلالته فيجوز القول بأحد وجوه دلالته، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “القول المعتبر”
أضف إلى ذلك؛ الاختلاف في تحقيق المناط، فما كان منه قطعياً كان القول بخلافه غير معتبر، وما كان منه ظنياً كان القول بأحد وجوهه معتبراً.
بيد أن المختلفين جميعاً في مسألة ما، سواء كانت ظنية أو قطعية؛ يرى كل واحد منهم أن قوله هو المعتبر، وأن قول غيره غير معتبر، ولو على سبيل الظن الراجح.
وإذا تتبعت كلام الفقهاء حول معنى القول المعتبر؛ لرأيتهم يوقعون هذا الوصف -بتفاوت من عالم لآخر- على أحد الأقوال الآتية:
1- القول المصادم للنص الصريح.
2- القول المخالف للإجماع الثابت.
3- القول المعارض للقياس الجلي.
4- القول القائم على حديث موضوع أو ظاهر الضعف.
5- القول النابع من الاجتهاد المحض، مع وجود حديث صحيح لم يصل ذاك المجتهد.
6- القول المعتمد على تضعيف حديث صحيح، بغير دليل قائم.
7- القول المتكئ على حكم منسوخ.
هذه الأمور التي وقفت عليها من خلال تتبعي لكتب الفقهاء، وقد يكون هناك ما يمكن إضافته عليها من خلال طول بحث وتنقيب.
وحتى لا نكون ممن يكثر التنظير من غير فائدة عملية على أرض الواقع؛ يجب علينا أن نتساءل: ماذا يترتب على وصفنا لقول ما بأنه غير معتبر؟ وهل يلزم من ذلك إهدار هذا القول بالكلية؟ وهل نُتْبع إهداره بإهدار قائله وإسقاطه من زمرة أهل العلم؟
وكيف نُحسن التعامل مع القائلين بقول نراه غير معتبر، سواء خالف هذا القول النص القطعي أو غير القطعي؟
ولماذا يبقى كل واحد من المختلفين متشبثاً بقوله، معتداً باجتهاده، يهدر أقوال الآخرين، ويُخرجهم من دائرة العلم وأهله؛ لمجرد قولهم بخلاف قوله؟
إن وصف الفقهاء لقولٍ يتبنّاه مجتهدٌ مشهود له بالعلم والعدالة؛ بأنه غير معتبر؛ لا يترتب عليه سوى إهدار هذا القول عندهم، وعدم الأخذ به، وعدم حكايته إلا على سبيل المعرفة فحسب.
إن وصف الفقهاء لقولٍ يتبنّاه مجتهدٌ مشهود له بالعلم والعدالة؛ بأنه غير معتبر؛ لا يترتب عليه سوى إهدار هذا القول عندهم، وعدم الأخذ به، وعدم حكايته إلا على سبيل المعرفة فحسب
ولا ينبغي أن نسحب وصفنا للقول لنوقعه على القائل نفسه بحيث نقول في حقه إنه عالم غير معتبر . فالقول برضاع الكبير -مثلاً- قولٌ غير معتبر عند عامة أهل العلم، ولكن الثابت في الروايات الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تعتد بهذا القول وتنافح عنه، فقول القائل إنه قول غير معتبر؛ لا يبيح له أن يقول: إن عائشة رضي الله عنها غير معتبرة في العلم، ويجب هدرُ كلِّ أقوالها، وعدم الاعتداد بها وبعلمها. مع التنبيه إلى أنه قول معتبَر في نظرها، ولولا ذلك لما قالت به!
وإن مما ينبغي التنبيه إليه؛ أننا ربما نصف قولاً بأنه غير معتبر، ويكون في الحقيقة معتبراً، وما إطلاقنا عليه ذاك الوصف إلا لقصور في اطلاعنا على أدلة المخالف، أو قلة الآخذين بهذا القول في زمان دون آخر ، فلو قال قائل مثلاً: إن صيام الستة أيام من شوال ليس مستحباً، بل ربما يكون بدعة. فهل يكون هذا قولاً غير معتبر؟
قد تسارع إلى وصفه بذلك، بيد أنك لو تأملت أدلة القائلين بهذا القول؛ لتأنّيتَ قبل أن تحكم، فإن الإمام مالكاً رحمه الله قال في الموطأ: “وصوم ستة أيام من شوال لم أرَ أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم كانوا يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان أهلُ الجفاء والجهالة ما ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك”.
فكيف يوصَف القول بعدم استحباب صيام الستة أيام من شوال بأنه “قول غير معتبر” والقائل به يوافق ما كان عليه السلف الذين لم يبلغ الإمام مالكاً أنهم كانوا يصومونها، في الوقت الذي يبلغنا نحن أن أكثر مسلمي زماننا يصومونها؟!
حنانيك؛ فلا تقل إن كلام الإمام مالك معارض للنص الصريح في ذلك، وكل قول يعارض النص الصريح فهو غير معتبَر! فإن عدم اشتهار هذا الحديث وانتشاره في الأمصار أيام الإمام مالك رغم عظم الفضيلة التي نص عليها “كصيام الدهر”؛ يجعلنا نتوقف في القول بصحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال إن الحديث لم يبلغ الإمام مالكاً؛ لأن مَخْرج الحديث مدني، فكيف لم يقف عليه إمام المدينة مالك؟
قال ابن رشد في بداية المجتهد: “كره مالك ذلك؛ إما مخافة أن يُلحق الناسُ برمضان ما ليس من رمضان، وإما لأنه لم يبلغه الحديث، أو لم يصح عنده، وهو الأظهر”.
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: “ما أظن مالكاً جهل الحديث والله أعلم؛ لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت، وقد قيل: إنه روى عنه مالك، ولولا علمه به ما أنكره”.
وقد اختُلف في صحة هذا الحديث؛ فقال ابن رجب رحمه الله: “اختُلف في هذا الحديث وفي العمل به: فمنهم من صححه، ومنهم من قال: هو موقوف، قاله ابن عيينة وغيره، وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلم في إسناده”، إلا أنه نسب إلى أكثر أهل العلم العمل به!
وقال الحميدي: ثنا سفيان بن عيينة… فذكر الحديث موقوفاً على أبي أيوب الأنصاري، فقلت لسفيان: إنهم يرفعونه. قال: اسكت، قد عرفتُ ذلك.
بعد الذي سبق؛ سينصبّ النقاش بين المتخاصمين على إسناد الحديث ومدى وثاقة رجاله واحتمال تفردهم من عدمه، وغير ذلك مما يتعلق بعلل الإسناد أو المتن.
أقول: ليس هدفي مما سبق أن أنصر هذا القول أو ذاك، وإنما المطلوب هو التنبيه إلى أنه ليس كل قول يوصف بأنه غير معتبر؛ هو كذلك.
وللحديث بقية..
(المصدر: موقع بصائر)