هل تصبح الفتاوىٰ باب واسع للتفريط في الأحكام؟
بقلم أسامة حسين الحامد
عندما يُسألُ عالِمُ الشريعة عن حكمٍ شرعي فإن الأمانة العلمية والمنطق العقلي يقتضيان أن يكون جوابه أوَّلًا عن ذات الحكم الشرعي المسئول عنه، وأن يكون واضحًا في إجابته وضوحَ الحكم نفسه، وربما كان مستحسنًا أن يتكلم بعد ذلك عن تفصيلات هذا الحكم وشروطه وبعض تطبيقاته علىٰ واقع الناس، ولكن من غير المعقول أو المقبول أن يُسألَ عالم عن حكم شرعي فيتجاهل الحديث عن الحكم الذي سُئِلَ عنه -كأنما أراد أن يستر عورة أو يدفع تهمة- ثم يسارع في بيان بعض الفتاوىٰ والتخريجات المتعلقة بهذا الحكم.
نعلم جميعا أن الحكم الشرعي يختلف عن الفتوى، وبيان ذلك أن الفتوىٰ هي تطبيق الحكم الشرعي علىٰ حالة بعينها، ولما كان لكل حالة ظروفها وشروطها وملابساتها وخصائصها التي قد يتقاطع فيها هذا الحكم الشرعي المقصود مع أحكام شرعية أخرىٰ مقدَّمة عليه، فمن الوارد أن يتأثر الحكم الشرعي مراعاة لغيره من الأحكام المتعلقة بالحالة محل الفتوىٰ، فأكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير محرم قطعا، ولكن المضطر إذا أشرف علىٰ الهلاك ولم يجد غيرها جاز له أن يأكل ويُرفَعُ عنه الإثم حينها لأن حفظ النفس مقدم في هذا الموضع الاستثنائي، يقول تعالىٰ في كتابه العزيز:
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَیۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغ وَلَا عَاد فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِیمٌ) [سورة البقرة الآية ١٧٣]، ويقول تعالىٰ: (فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِی مَخۡمَصَةٍ غَیۡرَ مُتَجَانِف لِّإِثۡم فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِیم) [سورة المائدة من الآية ٣]
هذا مع الأخذ في الاعتبار بأن الضرورة تقدر بقدرها كما قرر الفقهاء.
فيجدر بنا والأمر كذلك أن ننتبه وننبه إلىٰ أن الإسراف في الحديث (العام) عن الفتاوىٰ (الخاصة) المتعلقة بالأحكام الشرعية القاطعة – وخصوصا تلك الفتاوى التي يتأثر فيها الحكم الشرعي بمراعاة أحكام أخرىٰ لا وجود لها إلا في الحالة محل الفتوى- دون الحديث عن الحكم ذاته أو الإشارة إليه ودون الدعوة إلىٰ الالتزام به والحفاظ عليه هو سلوك فيه إهدار للعلم الشرعي من جهة، وقصور في التوجيه من جهةٍ أخرىٰ، إلىٰ الحد الذي يمكن أن يعتبر معه الإصرارُ علىٰ تصدير مثل هذه الفتاوىٰ الخاصة إلىٰ عامة الناس ضربا من الترويج لها بحسبانها بديلًا عن الحكم الشرعي الذي يختص بأصل المسألة وباعتبارها تَخَفُّفًا من تبعاته، ولعل هذا الصنيع يكون مساهماً بنصيبٍ في إشاعةِ حالة عامة من التفريط في الأحكام الشرعية، ونشرِ واقعٍ من السيولة الدينية في مواجهة تلك الأحكام القاطعة، ذلك لأن الطبيعة البشرية للغالبية العظمىٰ من الناس تجعلهم في واقع الأمر يتمسكون بما تفضي إليه مثل هذه الفتاوىٰ الخاصة من التخفف من أعباء الحكم الشرعي دون الالتفات إلىٰ شروط الفتوى التي أثَّرت في أصل الحكم.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)