مقالاتمقالات مختارة

هل الدين والتديُّن ضد التنوير؟

هل الدين والتديُّن ضد التنوير؟

بقلم أحمد التلاوي

من بين الحقائق المهمة التي ينبغي الاعتراف بها، أن حالة السيولة التي بات العالم يعرفها في مجال الإعلام والمعلومات -منذ ظهور الوسيط الرقمي- قد أدت إلى واقع من حرية تداول المعلومة والرأي والصورة والخبر، بشكل بات من المستحيل منعه.

ففي أعتى البلدان التي تحكمها أنظمة شمولية مستبدة، باتت الرسالة الاحتجاجية نفسها تصل، وما مظاهرات روسيا الأخيرة واستجابة الحكومة الصينية الجزئية في ملف معسكرات مسلمي الأويجور -ولو كانت استجابة صورية– إلا أبلغ دليل على ذلك.

ومن بين أهم المجالات التي طالتها هذه الحالة من السيولة التي رافقتها حالة من التفكيكية طالت كل فكرة ونصٍّ، الدين -سواء الفكرة الدينية بشكل عام، أو النصوص المقدسة، والثوابت الدينية، على مستوى كل الأديان- مثلما طالت كافة النظريات والأيديولوجيات.

إلا أنه كان للإسلام النصيب الأكبر من هذا الجدل، وزاد من مساحة تلك النقاشات بشأن الإسلام، الأزمات التي تعصف بالمنطقة منذ عقود طويلة، وبالتحديد منذ الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، واندلاع الثورة الإيرانية التي أعلنت عن دولتها على أساس ديني بشكل رسمي ودستوري، ثم حرب الخليح الأولى.

ثم جاءت موجة الأزمات التي تعصف بالعالم العربي منذ العام 2011م -لكي توسِّع من نطاق النقاش– الأولى/ صعود جماعات ما يُعرَف بالإسلام السياسي إلى منصات الحكم والتأثير في بلدانها، في تجربة فريدة من نوعها؛ لتمكين أحزاب وجماعات تتبنى المشروع الإسلامي أجندة عمل لها، فكان الاهتمام الكبير بما سوف يفعلونه وهم في منصَّات الحكم، وبالذات في القضايا الكبرى التي تشغل بال الغرب، المسيطر حضاريّاً في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية، مثل أوضاع المرأة والحريات.

ومن ذلك، ظهور جماعات ما يُعرف بالسلفية الجهادية، أو جماعات العنف المسلح التي ترفع الهوية الإسلامية شعاراً لها، وخصوصاً التي أسست لنفسها كيانات أقرب إلى الدولة أو الإمارات، وكان لها فيها فسحة لتطبيق مشروعها ورؤاها، والتي حُسِبَت على الإسلام والمشروع الإسلامي.

الظاهرة الثانية هنا/ هي موجات اللجوء والهجرة القانونية وغير القانونية، والتي أدت إلى اختلاط ملايين من العرب والمسلمين، من مختلف المستويات التعليمية والاقتصادية والثقافية، ومن مختلف ألوان الانتماءات الفكرية والسياسية، كعينة تمثيلية ممتازة للمجتمعات العربية والإسلامية، مع المجتمعات الغربية التي صارت أكثر قرباً بشكل لصيق للغاية، مع الثقافة الإسلامية وما هو محسوب عليها من عادات وتقاليد.

ومن بين أبرز مجالات السجال الذي اندلع بين المسلمين بشكل عام، ونخبتهم المثقفة والمُفكِّرة، وبين تيارات شتى -أبرزها العلمانيون والليبراليون العرب بجانب النخب الإعلامية والأكاديمية والسياسية في بلدان اللجوء والمهاجر- قضية علاقة الإسلام وتعاليم الشريعة بالتنوير وما تدرجه هذه المدارس ضمن قائمة مفاهيم المدينية والتحضُّر.

ويشمل ذلك منظومة من القضايا والسلوكيات، منها –كما أشرنا سابقاً– حقوق الإنسان وقضايا المرأة، بالإضافة إلى منظومة السلوكيات المتعلقة بحياة المدينة (أو المدينية) والتي تُعدّ أرقى صور العمران والاجتماع الإنساني.

وكموقف مبدئيّ -نعلم أنه أحد أركان المُكَوِّن الفكري والاعتقادي لدى المجتمعات الغربية، ولدى التيارات الليبرالية والعلمانية في عالمنا العربي- فإن الدين عندهم هو ضد التنوير، مستندين في ذلك إلى موروث فكري موجَّه، وإن استفاد في ذلك من خطايا تاريخية مزجت فيها ممارسات سياسية واجتماعية -لا تمت للإسلام بِصَلة- بالدين والشريعة، بما في ذلك منظومة من العادات والتقاليد التي ينكرها الإسلام، وممارسات حُكَّام المُلْك الجبري والمُلْك العضود.

من أحد أركان المُكَوِّن الفكري والاعتقادي لدى المجتمعات الغربية، ولدى التيارات الليبرالية والعلمانية في عالمنا العربي أن الدين عندهم هو ضد التنوير، مستندين في ذلك إلى موروث فكري موجَّه، وإن استفاد في ذلك من خطايا تاريخية مزجت فيها ممارسات سياسية واجتماعية -لا تمت للإسلام بِصَلة- بالدين والشريعة

وربما يكون ذلك أمراً طبيعيّاً بناءً على أنه نابع من موقف مبدئي لدى هذه المجموعات من الناس، ولكن الغريب والمدهش في الموضوع أن كثيراً من المسلمين -ومنهم مخلصون لدينهم- انساقوا –بحُجَجٍ شتَّى– إلى الصورة الذهنية التي تعلن تعارُض الدين وقيم التديُّن مع التنوير وقيم وسلوكيات التحضُّر والمدينية.

ومبرر هؤلاء أنهم تحت وطأة الحماسة، والرغبة في نقل صورة أكثر تحضُّراً عن مجتمعاتهم الأم، بالذات وأن صورة هذه المجتمعات قد دُمِّرت تماماً بفعل ما يسودها من صراعات وحروب أهلية، ومظاهر تخلف موضوعي واضحة، نقول إنه تحت وطأة ذلك تبرأ بعض هؤلاء من قيم دينهم، وتبنوا المكوِّن الغربي الليبرالي لمفاهيم التدين والتنوير.

وهنا وقع الجميع في أخطاء تنميط قاتلة: أولها/ الربط الخاطئ المعتاد بين الدين والشريعة الإسلامية، وبين ممارسات المسلمين.

فعلى سبيل المثال: فإن البحوث الأكاديمية الرصينة، أثبتت أن العادات والتقاليد – وليس الدين – هي المُكوِّن والمؤثِّر الأساسي على أفكار ومعتقدات، وعلى سلوكيات المواطنين في منطقة الخليج العربي ومنها المملكة العربية السعودية (أرض الحرمَيْن) وهي التي ترسم صورة وهوية هذه المجتمعات، وبالتالي فإننا لا ينبغي أن نقرن سلوكيات هذه المجتمعات وطرائق تعاملها مع قضايا التنوير الحقيقية، بالدين والشريعة الإسلامية.

البحوث الأكاديمية الرصينة، أثبتت أن العادات والتقاليد -وليس الدين- هي المُكوِّن والمؤثِّر الأساسي على أفكار ومعتقدات، وعلى سلوكيات المواطنين في منطقة الخليج العربي ومنها المملكة العربية السعودية (أرض الحرمَيْن) وهي التي ترسم صورة وهوية هذه المجتمعات، وبالتالي فإننا لا ينبغي أن نقرن سلوكيات هذه المجتمعات وطرائق تعاملها مع قضايا التنوير الحقيقية، بالدين والشريعة الإسلامية

ثانيها/ اعتمادية هذه الفئات جميعاً على الجِذْر أو المُكوِّن الغربي لهذه المفاهيم. التنوير/ التحضُّر/ المدينية، وما اتصل بها.

ومبدئيّاً، لا بد من أن نشير إلى عامل تأثير موضوعي يجب وضعه في الاعتبار عن تقييم موقف المسلمين الذين نَحَوْ نَحْوَ هؤلاء، وهو أن المرحلة الحالية من التاريخ الإنساني تشهد أن الغرب هو صاحب السطوة والتقدُّم في المجال الحضاري، وبالتالي فإن السيادة -ووفق قواعد العمران- له ولمكوِّنه الفكري والأيديولوجي، ولذلك نجد أن الليبرالية هي الأيديولوجية الأهم والأثر تأثيراً الآن في العالم.

والمراكز الحضارية الكبرى الأخرى في العالم أيضاً، إما أنها تدور في الفلك الغربي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، أو أنها صنيعة الحضارة الأوروبية من الأصل، مثل أستراليا قبل اكتشاف العالم الجديد وظهور أمريكا الشمالية كمركز حضاري توسَّعت فيه أوروبا في القرن السادس عشر وما تلاه.

ونرى بالطبع الآن محاولات لأمم تحاول أن تنهض وتفرض ذاتها الحضارية -بكل مفردات ذلك بما فيها المُكوِّن الثقافي واللغة والمُنْجز العلمي والعملة… وغيرها- على المنظومة السائدة، كما تحاول الصين والهند وروسيا والبرازيل، بدرجات نجاح متفاوتة.

ويعكس ذلك سُنَّة مهمة تكلم عنها القرآن الكريم، وهي سُنَّة التدافُع، والتي هي من أهم ضمانات تحقيق التوازن، ومن ثم استمرار الحياة على الأرض وفق ما أرادته الحكمة والمشيئة.

ولكن في النهاية، فإن سطوة الغرب في المجال العلمي والاقتصادي والعسكري، مكنته من فرض نموذجه الفكري والثقافي ومنظومته القيمية والأخلاقية والسلوكية  . أو ما يُعرَف في الاجتماع الإنساني بـ “نمط الحياة” أو “Lifestyle” بالمعنى الواسع للكلمة.

وبالرغم من أن هذه حقيقة عمرانية ينبغي لنا الاعتراف بها ولكن بمنطق التعامل على أساسها والانطلاق منها لتصحيح الأخطاء القائمة، إلا أن الخطأ هو أننا ننساق إلى أن نجعل هذه المنظومة هي معيار التحضُّر أو التخلُّف (ما اتفق معها فهو متحضِّر، وما اختلف عنها فهو متخلِّف)!

الأصوب -وهو دور الإعلام والمراكز الثقافية والبحثية الإسلامية، ودور الدعاة والتربويين والعاملين في حقول العمل الإسلامي الميداني- هو العمل على نقل المكوِّن الإسلامي لمفاهيم التنوير والتحضُّر والسلوك المديني، وإبراز النماذج التي تقول بأن الإسلام قادر على إنشاء مراكز مدنية وحضارية متكاملة، وقادرة على فرض كلمتها وسيادة الأمة.

وفي مجال المكوِّن الفكري، لدينا في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، الآلاف من الآيات والعبارات والممارسات باعتبار أن السُّنَّة تشمل فِعْل النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم– التي تشكِّل صورة متكاملة للمكوِّن الحضاري والتنويري الذي ينهض بالمجتمعات التي تطبقه  .

وعلى مستوى التطبيق ذاته فإن التاريخ الإسلامي يحفل بنماذج مشرِّفة لمراكز مدينية نهضت على أساسها حضارات سادت لقرون طويلة، ولم تكن لتسود لولا كفاءة ما نهضت عليه من أسس، وأهمها الشريعة التي منحتها المُكوِّن الفكري والقيمي الذي تنهض عليه الجوانب المادية للحضارات.

والغرب نفسه يعترف بذلك؛ فهناك تصنيف موضوع للحواضر التي سادت العالم وأثَّرت فيه طيلة الألفيات الأربع الماضية، فكانت الإسكندرية ثم روما هي الحواضر الأهم في العالم خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، ثم أصبحت بغداد في الألفية الميلادية الأولى وقت الدولة العباسية الأولى، ثم لندن ونيويورك في عصورنا الحديثة.

إذاً، فالحضارة الإسلامية لها ممثل قوي في هذا السباق، وتقدم لنا نماذج مثل ماليزيا الآن، كيف يمكن المواءمة بين قيم الإسلام وبين اعتبارات التقدم العلمي والسلوك المديني، وأنهما لا يتعارضان، فنجد في مساجد ماليزيا الصنابير الموفِّرة للمياه، ونجد هناك ضوابط لذبح الأضاحي تتوافق مع أرقى أنماط الضوابط الصحية والمدنية المعمول بها في مدن الغرب.

إننا يجب أن نقول إن الإسلام لا يزكِّي إطلاقاً، فمثلاً ما نراه من أمور لا تقبلها الفطرة الإنسانية السليمة في مواسم عيد الأضحى في بعض المجتمعات العربية والمسلمة، يجب أن نقول إن الإسلام الحقيقي يبني حضارة تقوم على أساس النظافة المادية والمعنوية، الإسلام يمكنه أن يبني لندن ونيويورك مسلمتَيْن، تماماً مثلما بنى بغداد والقاهرة والقيروان في الماضي  .

والأهم أننا يجب أن نصل إلى هذه المجموعات من الناس بقناعة شديدة الأهمية، وهي أن الشريعة الإسلامية جامعة ولكنها غير مانعة، أي أنها تقبل أي مُبتكَر مادي أو معنوي للإنسانية فيه صلاح وفائدة.

إن الصورة السائدة عن الشريعة من أنها تتضمن أحكاماً لكل شيء، وبالتالي فهي شريعة جامدة لا تقبل أي شيء من خارجها –حاشا لله تعالى– هذه صورة خاطئة؛ فالتحريم محدد في الشريعة الإسلامية، وهناك قاعدة كُلِّيَّة مهمة للغاية هنا، تقول بأنه “لا تحريم إلا بنَصٍّ”

إن الصورة السائدة عن الشريعة من أنها تتضمن أحكاماً لكل شيء، وبالتالي فهي شريعة جامدة لا تقبل أي شيء من خارجها –حاشا لله تعالى– هذه صورة خاطئة؛ فالتحريم محدد في الشريعة الإسلامية، وهناك قاعدة كُلِّيَّة مهمة للغاية هنا، تقول بأنه “لا تحريم إلا بنَصٍّ”، وبالتالي فالشريعة الإسلامية هي ثوب فضفاض كبير، يمكنه استيعاب كل جماليات المُنجَر البشري المفيد، ولا يمنعه.

وفي الأخير، فإن الشريعة الإسلامية إنما أتت لتأكيد الفطرة، ولم تخالِف بشعرةٍ -في السماح والحِلِّ، أو التحريم والمنع- قواعد الفطرة السليمة إطلاقاً؛ لأن الخالق صاحب الفطرة، والشارع أو المشرِّع الذي أنزل إليها الشريعة واحد، هو الله سبحانه وتعالى  ، الذي لأنه أعلم بمَن خلق وهو اللطيف الخبير أراد بحكمته البالغة وضع القبول لقواعد الشريعة بين الناس، فطابقها على الفطرة.

وبالتالي فإن الإسلام بهذا المنطق، دينٌ يقبل التنوير الآتي من خارجه، ويقبل قيم التحضُّر والمدينية والتقدُّم القادمة من المجتمعات الأخرى، شريطة ألا تتعارض مع مُحرَّم واضح بنصٍّ، أو تأتي بمفسدة.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى