الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد(*):
فصلاة النافلة كلها تستحب في البيت وتجوز في المسجد، تستوي في ذلك النوافل الراتبة وغيرها، إلا أن النوافل على ثلاثة أقسام بها الاعتبار(1):
القسم الأول: ما يكون الأولى أداؤها في خفاء وانفراد، ويستحب أداؤها في البيت، وهي أغلب النوافل الراتبة وغير الراتبة.
القسم الثاني: ما لا يتأتى في غير المسجد، كتحية المسجد، ومنه ما يندب كونه في المسجد الحرام، وهو ركعتا الطواف.
والقسم الثالث: ما يعتبر من الشعائر الظاهرة التي يستحب إظهارها وإعلانها وأداؤها في جماعة، وهي: صلاة العيدين، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء.
وعلى هذا: فأين تكون صلاة التراويح من هذه الأقسام الثلاثة؟
ذهب بعض الفقهاء إلى ذم صلاة التراويح مع نوافل القسم الثالث فجعلوها من الشعائر الظاهرة التي يستحب أداؤها في المسجد جماعة، وهو الذي صرّح به النووي رحمه الله، وقال قال: (باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، سواء في هذا الراتبة وغيرها، إلا الشعائر الظاهرة وهي العيد، والكسوف، والاستسقاء، والتراويح..)(2).
وجعلها الشيخ صديق حسن خان من الشعائر الظاهرة على الأصح أي في المذهب الشافعي، وعلى هذا؛ ففي المذهب الشافعي قول آخر صحيح بأنها ليست من الشعائر الظاهرة(3).
ثم اختلف الفقهاء في الأفضل؛ هل صلاتها في البيت على انفرادٍ أم في جماعة بالمسجد؟ على ستة أقوال:
القول الأول: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو أن الأفضل أداؤها في المسجد جماعة، قال بهذا: أبو حنيفة والشافعي وجمهور أصحابه وأحمد وبعض المالكية، فقالوا: “الأفضل صلاتها جماعة في المسجد كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمر عمل المسلمين عليه لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد”(4).
القول الثاني: ما ذهب إليه الإمام مالك والشافعي وأبو يوسف وبعض الشافعية، فقالوا: الأفضل فرادى في البيت.
قال مالك: “قيام رمضان في البيت لمن قوي عليه أحبّ إليّ”(5).
وقال الشافعي رحمه الله: “فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إليّ منه”(6).
وقال أبو يوسف: “من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في رمضان فأحب إليّ أن يصلي في بيته”(7).
وهو المحكيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه(8).
واستدل هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: “صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة”(9)، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: “صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً”(10).
القول الثالث: ما ذهب إليه الحنفية فقالوا: صلاة التراويح جماعة في المسجد سنة على الكفاية، حتى لو أقامها البعض في المسجد بجماعة وباقي أهل البلدة منفرداً في بيته لا يكون تاركاً للسنة، وحجتهم في ذلك ما يروى عن أفراد الصحابة والتابعين تخلفهم عن جماعة التراويح، يروى ذلك عن ابن عمر وعروة وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع فدلّ فعلُ هؤلاء أن الجماعة في المسجد سنة على سبيل الكفاية إذ لا يظن بابن عمر رضي الله عنهما ومن تبعه تَرْك السنة(11)، قالوا: ولو ترك أهل المسجد كلهم إقامتها في المسجد بجماعة فقد أساؤوا وأثموا(12).
القول الرابع: ما ذهب إليه الطحاوي، قال النووي والحافظ ابن حجر: (وبالغ الطحاوي فقال: صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية)(13).
وقريب من هذا يروى عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: (التراويح سنّة لا يجوز تركها).
ووجّه السبكي قول الطحاوي بالوجوب الكفائي فقال: “لأنهم قد أجمعوا على أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان”(14)، وهو توجيه حسن.
القول الخامس: ما ذهب إليه العترة “آل البيت” فقالوا: الجماعة فيها بدعة(15).
القول السادس: التفصيل، حيث يرى أصحاب هذا القول أن صلاتها في البيت أفضل في حالة، وفي المسجد أفضل في حالة، وهذا مذهب المالكية وبعض الشافعية وبعض الحنفية.
قال المالكية: الجماعة مستحبة؛ لاستمرار العمل على الجمع من زمن عمر رضي الله عنه، والانفراد فيها طلباً للسلامة من الرياء أفضل، بثلاثة شروط:
1 – أن لا تُعطّل المساجد، فإن خيف من الانفراد بالتراويح التعطيل فالمساجد أفضل.
2 – أن ينشط لفعلها في بيته، وإلا ففعلها في المسجد أفضل.
3 – أن لا يكون فاعلها آفاقياً(16)، بالمدينة المنورة، فإن كان آفاقياً ففعلها في المسجد أفضل، وإن لم تعطل المساجد.
قال بعض الشافعية: يكون أداؤها في البيت أفضل إذا كان الرجل يحفظ القرآن، ولا يخاف النوم والكسل، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه(17).
فبعض الحنفية: فرّقوا بين الفقيه الذي يقتدى به وبين غيره من عامة المصلين، فقالوا: “تستحب في البيت إلا لفقيه عظيم يقتدى به، فيكون في حضوره ترغيب غيره(18).
وفي الجوهرة النيرة للزبيدي: “من كان يحسن القراءة فالأفضل أن يصليها في بيته عند أبي حنيفة، وعند محمد في المسجد أفضل، وعند أبي يوسف إن قدر أن يصليها في بيته كما يصليها مع الإمام في المسجد فالأفضل أن يصليها في بيته، وأما إذا كان ممن يُقتدى به وتكثر الجماعة بحضوره وتقل عند غيبته؛ فإنه لا ينبغي له ترك الجماعة”(19).
والراجح:
مع جواز أدائها في البيت بحيث مَنْ أدّاها منفرداً أو مجتمِعاً في البيت لا يكون مسيئاً، إلا أنّ أداءها في المسجد جماعة هو الأفضل، وذلك لوجهين:
أولهما: أنه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، حيث اجتمع له الناس فصلى بهم ليلتين أو ثلاث جماعة، وما تركها إلا خشية أن تفرض عليهم، وما خشاه النبي عليه الصلاة والسلام غير وارد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثاني: أنّ أداءها جماعة في المسجد هو سنّة جماعة المسلمين، فهو الذي استحبه الصحابة ووافقوا عليه سيدنا عمر رضي الله عنهم، حتى إن علياً رضي الله عنه صار يدعو لعمر بذلك كما ورد عنه أنه مرّ على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان، فقال: “نور الله على عمر قبره، كما نور علينا مساجدنا”(20)، وهو الذي سار عليه التابعون لهم بإحسان، وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأصحابهم، وهو الذي استمر عليه العمل، أنْ تؤدَّى صلاة التراويح في المساجد.
_____________________________
(*) هذا البحث أصله فتوى مفصلة أجاب فيه الشيخ على سائل كما هو موجود في كتاب سؤالات للصائمين للمؤلف حفظه الله وقد أذن لنا مشكوراً بنشره. وكان السؤال:
أيهما أفضل أن أصلي التراويح في البيت منفرداً أو مع أهلي، أم أن أصليها في المسجد مع الناس؟
(1) راجع: السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج، للشيخ صديق حسن خان القنوجي، نشر الشؤون الدينية قطر ج3 ص40.
(2) السراج الوهاج نفسه.
(3) راجع: السراج الوهاج ج3 ص42-43.
(4) شرح النووي لصحيح مسلم ج3 ص101، نيل الأوطار للشوكاني ج3 ص59، ومشكاة المصابيح ج4 ص628، المغني لابن قدامة ج3 ص390.
(5) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، للشاشي الفقال ج2 ص44.
(6) كتاب الأم للشافعي، ج1 ص142، وانظر: الحاوي الكبير للماوردي ج2 ص290.
(7) المصدر نفسه.
(8) الشرح الكبير للرافعي ج4 ص268.
(9) المصادر السابقة نفسها، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم 731، وبرقم 6113، ومسلم برقم 1861، وأبو داود برقم 1046.
(10) أخرجه مسلم في صحيحه برقم 1857، والترمذي برقم 451.
(11) بدائع الصنائع للكاساني ج2 ص145، المبسوط للسرخسي ج3 ص174.
(12) بدائع الصنائع ج2 ص145.
(13) شرح النووي على صحيح مسلم ج3 ص101، نيل الأوطار ج3 ص59، مشكاة المصابيح ج4 ص628.
(14) فتاوى السبكي، ج1 ص156.
(15) نيل الأوطار ج3 ص59.
(16) الآفاقي: يقصد به من يسكن خارج الحرم المكي أو الحرم المدني، من أهل البادية وغيرهم، وهنا المقصود الحرم المدني.
(17) الشرح الكبير للرافعي، ج4 ص268.
(18) حاشية ابن عابدين، ج2 ص46.
(19) الجوهرة النيرة للزبيدي، ج1 ص384.
(20) راجعه في: المغني لابن قدامة، ج3 ص391.