هكذا أطاح “سيف القدس” بـ”حارس الأسوار”
بقلم عدنان أبو عامر
وفي ظلّ الاعتقاد السائد لدى قيادة الجيش بأن سلاح الجو، الذي استطاع إخضاع الجيوش العربية في حرب الأيام الستة، سيستطيع الردّ وحده على كل تهديد محتمل، كانت النتيجة كارثية، بسبب النظرة الإسرائيلية بـ”عجرفة” مميزة إلى قدرة المقاومة العسكرية على أنها غير جدية.
لقد تلقى الجيش الإسرائيلي الذي يُعَدّ من أقوى جيوش المنطقة تسليحاً، ويتباهى بفاعلية القبة الحديدية، ويعمل على تسويقها في سوق التسلح العالمية، ضربة موجعة جراء إخفاقها في التصدي لصواريخ المقاومة، التي أدركت نقاط قوتها وضعفها، حتى تأقلمت معها، واكتشفت بعضاً من أسرارها.
لقد افترض قادة الاحتلال: السياسيون والعسكريون، فور اندلاع حرب غزة، أن هذه اللحظة الكبرى لسلاح الجو، ويفترض به أن يضع حدّاً للتهديد الصاروخي القادم من غزة باتجاه العمق الإسرائيلي، بخاصة أنه تضمن معلومات استخبارية باهظة القيمة، جُمعت قطعة قطعة، فضلاً عمَّا ستحققه من أهداف ذات قيمة استراتيجية وتكتيكية للذراع الجوية الطويلة.
لكن أياماً قليلة مرت بعد نهاية حرب غزة كشفت أن سلاح الجو لم يُصَفِّ بضرباته سوى نسبة ضئيلة جداً من منظومة الصواريخ التي تمتلكها حماس، مما دلّ على إخفاق في القدرة العملياتية، وخلل في المعلومات الدقيقة التي جُمعت على مدى زمن طويل.
لم يكن سراً أن جيش الاحتلال أراد لحرب غزة أن تكون “خاطفة وسريعة”، لكن تَبيَّن له أن سلاح الجو لا يستطيع فعل كل شيء من خلال الفضاء، مع أن فشل سلاح الجوّ لم يكن وليد اللحظة، وثار جدل كبير بين قادة الأجهزة الاستخبارية حول قدرة القوات الجوية على حسم تنظيم مسلح، والقضاء على تهديده الصاروخي.
لكن الإشكال الأكبر الذي واجه قيادة الجيش والدولة معاً، أنه ما دامت صواريخ حماس تتساقط من غزة، فلن يكون انتصار، ولن “ننتصر” حتى يتوقف إطلاقها، واعتقدوا خطأً أن سلاح الجو سينهي المسألة خلال دقائق، مما جعل بنيامين نتنياهو يتحدث بعبارات ملؤها “الرهب والغطرسة” بقوله: “إننا سننتصر في هذه المعركة، وسنحظى بإنجازات غير مسبوقة”، لكن اتضح بعد أيام أن هذه عبارة كُتبت على الجليد! ولهذا فإن الإحساس بالعجز الذي أصاب الإسرائيليين أنشأ لديهم خيبة الأمل بعد انتهاء حرب غزة.
وما بات واضحاً أن حالة التخبط تعمقت وازدادت لدى الوسط السياسي الإسرائيلي، مع فشله في تحقيق أيّ من أهداف العدوان على غزّة، فيما تكرست إخفاقات الجيش بسبب قدرة المقاومة على مفاجأته ميدانياً.
لقد أتت الانتكاسة العسكرية الإسرائيلية بسبب التغييرات التي مر بها مقاتلو حماس في الحرب الأخيرة، ويمكن وصفها بـ”المفاجأة غير المحسوبة”، لأن مقاتليها في 2021 ليسوا ذاتهم مَن واجههم الجيش في حرب 2014، فقد باتت تمتلك اليوم جيشاً حربيّاً بكل ما للكلمة من معنى، بتشكيل ألوية عسكرية مماثلة لألوية الجيش، كلواء النخبة الذي يحاكي وحدة الأركان المختارة التي تَغنَّى الجيش ببطولاتها، وهي مُعَدّة لمجابهة الجيش ومفاجأته حال دخوله القطاع.
كما تدرب مقاتلو حماس في كثير من دول المنطقة، ومروا بالعديد من الدورات العسكرية الصعبة، ثم عادوا إلى القطاع ليطبقوها بعد أن تدربوا على إطلاق الصواريخ المضادة للدروع والمضادة للطائرات، وقد جاءت استهانة جيش الاحتلال بحماس لأنه لم يدرك بعد معنى حرب العصابات، وربما لأنه ليس مطّلعاً على عمق التغيير الذي مرت به الحركة، حين أثبت مقاتلوها قدرة عالية على الصمود والتحدي والجرأة بشكل غير مسبوق.
لقد اعترف قادة عسكريون إسرائيليون بخطأ تقديرات الجيش الاستخباراتية عندما اعتقد أن حماس لن تدافع عن المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جراح، لأنها منغمسة في مشكلات غزة الاقتصادية والمعيشية، مما دلّ عن معلومات استخبارية منقوصة، وأضرّ بشعور الإسرائيليين بالأمن بشكل كبير.
حتى بعد أن تم إعلان وقف إطلاق النار بعد أحد عشر يوماً من العدوان، خرجت مواقف إسرائيلية رافضة، بزعم أن “التهدئة مع حماس تعني أنها نجحت في تركيع دولة بأكملها على ركبتيها، وأنها باتت رهينة بيدها، فهي تطلق النار وتوقفه وقتما تشاء، ويضحكون علينا وفي وجوهنا، ويبدو أننا نفكر بالهدوء أكثر من تفكيرنا بالنتائج، حماس آخذة بالتعاظم من مواجهة إلى أخرى، والجيش لم ينجح بتصفية قياداتها في القطاع، فلماذا نخاف منها، ونظهر للمرة العاشرة كأننا خائفون من المواجهة معها”؟
لكن مجريات الحرب أظهرت أن المستويين السياسي والعسكري في تل أبيب وقعا في ورطة لا تخطئها العين، مما دفع بعدد من كبار الضباط إلى الاعتراف بالقول إن “حماس تم استهدافها بقوة خلال الحرب من الناحية العسكريّة، لكنّ الجيش لم يتمكّن من حسم المعركة، ولا يُمكِن لأي قوة في العالم نزع إرادتها بمواصلة محاربتها عسكريّاً”.
الانتكاسة العسكرية الحقيقية تمثلت حين بدأ المستوطنون، ليس فقط في المستوطنات المحيطة بما يعرف باسم “غلاف غزة”، وإنما في قلب إسرائيل، بخاصة تل أبيب وغوش دان والقدس، النزوح عن منازلهم هرباً من صواريخ المقاومة التي كثفت قصفها لهم، وخاطبوا رئيس الوزراء نتنياهو بأنهم “ليسوا مستعدين أكثر لأن تبقى حياتهم مهدَّدة ورهينة بيد حماس، ولذلك أخلَوْا منازلهم، بعد أن تخلت عنهم الحكومة أمام ضربات الصواريخ، وقرروا النزوح عن بيوتهم خوفاً على حياتهم”.
مؤشّر جديد للإخفاق القتالي للجيش الإسرائيلي تَمثَّل في الحديث المتكرر عن القدرات العسكرية لحماس في غزة، لأنها طورت إمكانياتها كثيراً، ولا يمكن وصف ما حقّقه الجيش بالانتصار، لأنه بمثابة خداع للنفس، فالصواريخ الفلسطينية واصلت السقوط على المدن الإسرائيلية حتى اللحظة الأخيرة من الحرب، ولم يتم تدمير كل الأنفاق في غزة.
كما عبّر الإسرائيليون عن عدم ثقتهم بما حقّقه الجيش في حرب غزة، لأن حجم المخاوف بعدها ازداد على ما كان قبلها، ولا يشعرون اليوم بحال أفضل من ناحية الأمن الشخصي، وأكثر شيء يريدونه العودة إلى حياة طبيعية، لكنهم يخافون خوفا مميتاً، وحتى اليوم لم يتلقوا إجابة عن السؤال: “هل أزال الجيش خطر سلاح حماس؟” لأنه لم يأتِ أحد ليقول لهم: يمكنكم العودة للنوم بهدوء!
كما شنَّ العديد من الخبراء والمحلّلين العسكريين الإسرائيليين هجوماً شديداً على قادة الجيش والحكومة، واتّهموهم بأنّهم أهدَوا حماس نصراً بسبب فشلهم في إدارة ملف الحرب، لعدم تمكُّنهم من وقف الصواريخ التي طالت العديد من المدن، وإخفاقهم بتدمير الأنفاق في غزة.
فضلاً عما تقدم من شواهد الإخفاق العسكري الإسرائيلي، فإن الجواب النهائي عن سؤال “ما الذي ربحته وخسرته تل أبيب في الحرب على غزة؟” يكمن في قدرة الجيش على ضرب حماس ضربة قاسية نسبياً، والتسبب بأضرار عظيمة بالبنى التحتية المدنية في غزة، وإحداث أزمة إنسانية واسعة، ومع ذلك فإن أمر الحرب لم ينتهِ بعد، لأن “حماس لم تُهزَم، وستبقى تحكم القطاع، والشريكة المركزية في كل تسوية مستقبلية، ولو بصورة غير مباشرة، وإذا أفضت الهدنة إلى خرق الحصار على القطاع، فقد يُعتبر الثمن الباهظ الذي دفعته حماس تضحية سائغة من وجهة نظرها”.
لم يكن سراً أن حرب غزة كشفت أن الجيش النظامي الإسرائيلي لا يتلقى تدريباً كافياً، ومناوراته غير موجهة بقدر كاف للتحديات الجديدة، وهي محاربة العصابات المسلحة في منطقة مكتظة، مع استعمال العدو لما تحت الأرض، مقابل المعارك بين الفرق المدرعة في الماضي، وقال ضباط كبار إن صورة استعمال القوات في القطاع لم تشمل المراوغة، والجيش امتنع عن إرسال وحدات مختارة لعمليات خاصة.
الاستخلاص الأخطر بنظر الإسرائيليين أن المشكلة التي واجهتها تل أبيب منذ بدء حرب غزة تكمن في أنها انجرّت وراء حماس، والأخيرة أملت حجم المواجهة ومدتها، فيما لم تجد القوات الإسرائيلية الخطوة أو المبادرة أو الاختراع الذي يكسر هذا الإملاء، والنتيجة أن معركة “سيف القدس” الفلسطينية، أطاحت بعملية “حارس الأسوار” الإسرائيلية.
(المصدر: تي آر تي TRT عربي)