هزيمة يونيو/حزيران ودورها في ‘صناعة الشَّرق الأوسط الجديد 2 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
الوَحدة مع سوريا: محاولة غير موفَّقة لبسط سُلطان القوميَّة العربيَّة
يرى أورين أنَّ الطَّرفين، المصري والإسرائيلي، حقَّقا مكاسب من وراء العدوان الثُّلاثي؛ فعبد النَّاصر، بدعم من الآلة الدَّعائيَّة المصريَّة، أصبح قاهر الإمبرياليَّة دون معاونة خارجيَّة ومقلِّب الرأي العام العالمي ضدَّ إسرائيل، التي استفاد، رغم ذلك، بضمان الاستقرار وابتعاد شبح الحربـ على الأقل لمدَّة عقْد من الزَّمن، بدعم أممي. يضيف أورين، نقلًا عمَّا أورده محمود حسين في كتابه الصراع الطبقي في مصر من 1945-إلى 1970 (1971م) وأمين النَّافوري في كتابه توازن القوى بين العرب وإسرائيل: دراسة تحليلية استراتيجية لعدوان حزيران (1968م)، أنَّ شعورًا بهشاشة إسرائيل تفشَّى لدى العرب، بأن رأوها مجرَّد أداة في أيدي الإمبرياليَّة الغربيَّة، ضعيفة أيديولوجيًّا برغم قدراتها العدوانيَّة؛ ممَّا يعني أنَّ الجولة الثَّالثة معها قد تسفر عن انتصار مؤزَّر، بأن كانت الجولة الثَّانية أكثر توفيقًا من الأولى، ولم يبقَ إلَّا أن يتَّخذ عبد النَّاصر، زعيم العروبة الآخذ نجمه في البزوغ في الشَّارع العربي بوصفه الخصم الأكبر للإمبرياليَّة وربيبتها الصُّهيونيَّة، قرار الحرب. غير أنَّ الزَّعيم الشَّاب وقتها آثر توجيه طاقاته إلى تعزيز نظام الحُكم الجديد الذي طبَّقه، ليكون مزيجًا من القوميَّة والاشتراكيَّة، عُرف بـ “النَّاصريَّة”، أراد بتطبيقه إنعاش الاقتصاد المصري. وضمن جهوده لتعزيز وَحدة الأقطار العربيَّة واحتواء حالة عدم الاستقرار في العالم العربي نتيجة سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات التي بلغت ذروتها بثورة أطاحت بالحُكم الملكي الهاشمي في العراق عام 1958 م، شكَّل عبد النَّاصر وَحدة فيدراليَّة مع سوريا بزعامة الرَّئيس شكري القوتلي في 22 فبراير 1958 م، واختير عبد النَّاصر رئيسًا لتلك الدَّولة، التي سُمِّيت الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة، واستمرَّت حتَّى 28 سبتمبر من عام 1961 م، لتسقط إثر انقلاب عسكري في دمشق نظَّمه مجموعة من الضُّباط السُّوريين النَّاقمين على الوَحدة مع نظام اعتبروه استبداديًّا. أُجبر عبد الحكيم عامر، القائد الأعلى للقوَّات المشتركة، على مغادرة سوريا، بعد اشتداد غضب القادة السُّوريين من تجاهُلهم في توزيع السُّلطات، وهيمنة القيادة المصريَّة على الاقتصاد السُّوري، لتنتهي الوَحدة التي لم يبقَ منها إلَّا اسمها الذي احتفظ به عبد النَّاصر حتَّى نهاية عهده في سبتمبر من عام 1970 م. تأثَّرت صحَّة عبد النَّاصر كثيرًا من جرَّاء الانفصال، وأصيب بداء السُّكَّري، ويرى أورين أن مرحلة الانفصال عن سوريا تمثِّل “بداية الانحدار في حياة عبد النَّاصر” (ص14).
عدوان عربي يشعل أزمة جديدة
بدأت الأزمات تواجه الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة عام 1960 م، حينما واجهت سوريا شبح الحرب مع إسرائيل، بعد أن بدأت الأخيرة زراعة المنطقة الحدوديَّة الشماليَّة، ما دفع القوَّات المسلَّحة السُّوريَّة إلى الاعتداء على الجرارات الإسرائيليَّة، لترد القوَّات الإسرائيليَّة بإطلاق النَّار على مرتفعات الجولان، الخاضعة للسِّيادة السُّوريَّة حتَّى ذلك الحين. أخبر الاتحاد السُّوفييتي عبد النَّاصر أنَّ إسرائيل كانت تنوي شنِّ عمليَّة عسكريَّة على سوريا في 22 فبراير، تزامنًا مع العيد الثَّاني للوَحدة مع مصر؛ فأرسل عبد النَّاصر لواءين من الجيش إلى سيناء، طالبًا من القوَّات التَّابعة للأمم المتَّحدة (UNEF) مغادرة سيناء، استعدادًا لمواجهة عسكريَّة محتملة مع إسرائيل (ص14). غير أنَّ المواجهة لم تحدث، وتحلَّت بضبط النَّفس، كما يصف أورين، حتَّى انسحبت القوَّات المصريَّة من سيناء في مارس 1960 دون قتال. يعتبر أورين أنَّ تلك العمليَّة، التي أطلق عليها الإسرائيليُّون “ريتاما”، على اسم النَّبات العطري الصَّحراوي روتيم، سبَّبت جرحًا غائرًا لإسرائيل، وبقيت ذكراها في الأذهان واستُمدَّت منها الدُّروس عام 1967م.
بداية مرحلة جديدة في العلاقات المصريَّة-الأمريكيَّة بوصول كينيدي إلى الحُكم
تقلَّد السياسي الشَّاب جون كينيدي منصب رئيس الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في يناير من عام 1961 م، أي مطلع عام الانفصال عن سوريا، واتَّبع سياسة تفضيل الجزرة على العصا في تحجيم النفوذ السُّوفييتي في الشَّرق الأوسط، باستخدام القمح، “السِّلاح الخفي العظيم”، كما أطلق عليه أحد كبار معاوني كينيدي، في استمالة عبد النَّاصر. دأبت إدارة كينيدي على إرسال شحنات نصف سنويَّة من القمح وبعض السِّلع الأساسيَّة الأخرى، ولاحت في الأفق إمكانيَّة للتقارب مع أمريكا كانت ستُخرج عبد النَّاصر من دائرة تزعُّم القضايا العربيَّة الملحَّة. غير أنَّ تلك الإمكانيَّة تبدَّدت عام 1962 م، بحدوث انقلاب عسكري في اليمن على يد تنظيم الضُّبَّاط الأحرار، بقيادة قائد الحرس الملكي، عبد الله السَّلال. أطاح السَّلال بالإمام محمد البدر بن حميد الدين، آخر حُكَّام المملكة المتوكليَّة اليمنيَّة، في 26 سبتمبر 1962، ليعلن الجمهوريَّة العربيَّة اليمنيَّة في 28 من سبتمبر من العام ذاته، ويطلب الدَّعم المصري، في مواجهة اصطفاف محمد البدر بن حميد الدين مع حُكَّام الخليج العربي، وبخاصَّة آل سعود، الذين لجأ البدر إليهم. تعكَّر صفو العلاقات المصريَّة-الأمريكيَّة النَّاشئة، بعد تقديم عبد النَّاصر الدَّعم العسكري للنِّظام الجمهوري اليمني، في مواجهة القوَّات الموالية للنظام الملكي البائد المدعوم من السَّعوديَّة. وإلى جان تأجُّج الصِّراع بين التقدُّميين والرَّجعيين في العالم العربي حينها، نشبت معركة دامية، كانت الأولى في التَّاريخ ليستخدم فيها جيش عربيٌّ الغاز السَّام، وجرى إعدام الأسرى خلالها وتشويه جثثهم، نقلًا عن أورين. أصرَّ كينيدي على إيقاف حمام الدَّم في اليمن، وأرسله مبعوثًا لعقد اتفاقيَّة توقف السَّعوديَّة بموجبها دعم القوَّات للإمام البدر، على أن ينسحب الجيش المصري من اليمن. التزمت السَّعوديَّة بالاتِّفاقيَّة، بينما استمرَّ الدَّعم العسكري المصري لليمن، على حدِّ وصف أورين.
لم تكن الأزمات الطَّاحنة تصيب اليمن وحدها ذلك الحين، فقد تعرَّض العراق لأزمة مشابهة أدَّت إلى سقوط النِّظام العسكري الحاكم حينها على يد المتشدِّدين من قادة حزب البعث، ليُطاح بالفريق ركن محمَّد نجيب الرَّبيعي، أوَّل رئيس للجمهوريَّة العراقيَّة، التي قامت عام 1958 م، في أعقاب حركة 14 تمُّوز، أو ثورة تمُّوز، التي قُتل على إثرها جميع أفراد العائلة المالكة الهاشميَّة في العراق كما سبق الإشارة، ومنهم الملك فيصل الثاني، وولي العهد عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري سعيد. برغم عدم توطُّد العلاقات المصريَّة بنظام نجيب الرَّبيعي حينها، فقد كان عبد النَّاصر يسعى إلى تشكيل وَحدة ثلاثيَّة، بضمِّ العراق إلى وَحدته مع سوريا؛ لكنَّ الأحداث الدَّمويَّة أجهضت ذلك الحُلم، خاصَّةً بعد طرْد المؤيِّدين لعبد النَّاصر من الجيش العراقي. أثلجت تلك الأحداث صدور الإسرائيليين، ممَّن ابتعد عنهم شبح المواجهة العسكريَّة الثَّالثة مع العرب، المنشغلين بالاضطرابات والصراعات الدَّمويَّة الدَّاخليَّة. ما عظَّم من اطمئنان إسرائيل وثبات موقفها أنَّ الرَّئيس الدِّيموقراطي جون كينيدي، على عكس سابقيه من الجمهوريين، كان يدين بالولاء لليهود، الذين دعَّموه في سباق الرِّئاسة، حتَّى كينيدي صرَّح لوزيرة الخارجيَّة الإسرائيليَّة حينها، غولدا مائير، بوعده “في حال تعرُّض إسرائيل إلى غزو فإنَّ الولايات المتَّحدة ستهرع إلى دعمها”، نقلًا عن أورين (ص51).
تحديات تواجه الدَّولة العبريَّة في مهدها
غير أنَّ إدارة كينيدي لم تختلف عن إدارة أيزنهاور الجمهوري في معارضة سياسة الانتقام الإسرائيليَّة. كما يزعم أورين، لم يغتر بن غوريون بما حقَّقته إسرائيل من إنجازات هائلة منذ عام 1948م، كما لم يعوِّل كثيرًا على تحسُّن علاقتها بأمريكا أو بما أسَّسته من تحالُف مع فرنسا أو روابط مع بلدان أوروبيَّة وآسيويَّة؛ فإسرائيل في نظره لم تتعدَّ كونها “غيتو معزولة ومكشوفة لا ترقى أن تكون قوَّة إقليميَّة” (ص52). كان بن غوريون قلقًا حيال تهديدات عبد النَّاصر المتكرِّرة بإصابة إسرائيل في عمقها، ما عبَّر عنه للرَّئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1961م بقوله “يعتقد عبد النَّاصر أنَّه في غضون سنة أو سنتين يستطيع شنَّ حرب خاطفة يدمِّر فيها مطاراتنا ويقصف مدننا” (ص52). دفع ذلك التهديد بن غوريون إلى الدُّخول في صفقات تسليح مع فرنسا، تزامنًا مع مساعي مصر للوَحدة مع العراق بعد سوريا. لم يتوقَّف التهديد على الغزو المسلَّح، إنَّما امتدَّ إلى فرض حصار بحري، بحظْر مصر الملاحة في مضيق تيران، أو قطْع سوريا الإمداد المائي بسيطرتها على منابع نهر الأردن. استوجبت تلك التهديدات تعزيز إمكانات الجيش الإسرائيلي ودراسة أيِّ مشاركة في نزاع مسلَّح مع الأعداء العرب، ولعلَّ في فرْض التَّجنيد على كافَّة مواطني إسرائيل، رجالًا ونساءً، ما طمأن القيادة الحاكمة؛ فجميع الإسرائيليين “يعدُّون جنودًا دائمين في إجازات مؤقَّتة” (ص54).
وينقل أورين رأيًا اجتمع عليه كثيرون من مفكِّري إسرائيل يشيع بين المواطنين يفترض أنَّه “لا خيار أمام إسرائيل سوى خوض حرب حياة أو موت مرَّة أخرى، حرب يفوق فيها العدوُّ جيش الدِّفاع الإسرائيلي عددًا، رغم نموَّه بصورة هائلة”، وفق ما جاء في كتاب A History of the Israeli Army, 1874 to the Present-تاريخ الجيش الإسرائيلي، 1874 إلى الآن (1985م) لزئيف شيف (ص115-117)، وكتاب The Albatross of Decisive Victory: War and Policy Between Egypt and Israel in the 1967 and 1973 Arab-Israeli Wars-قطرس النَّصر الحاسم: الحرب والسياسة بين مصر وإسرائيل في حربي 1967 و 1973 العربيَّة الإسرائيليَّة (2000م، ص23-27) لجورج جوريتش، وكتاب From June to October: The Middle East Between 1967 and 1973-من يونيو إلى أكتوبر: الشَّرق الأوسط بين 1967 و1973 (1978م، ص112-113). ترك دافيد بن غوريون رئاسة الحكومة في يونيو من عام 1963م بسبب “الفضيحة الدَّائمة التي أحاطت بعمليَّة التَّخريب في مصر”، وكانت إسرائيل في حالة تسمح لها بالوقوف على قدميها بعد أن يترك “أب البلاد” دفَّة القيادة (ص54). خلف بن غوريون رفيقه في حزب العمل الإسرائيلي (ماباي) ليفي إشكول، الذي يراه مايكل أورين “بلا لون سياسي ولا خبرة…يعرف الكثير عن الزِّراعة والمال ولكنَّه لا يعرف إلَّا القليل في شؤون الدَّولة” (ص55).
توتُّر علاقة مصر بجيرانها العرب وتهديد باندلاع حرب مع إسرائيل
كما سبق الإشارة، نشأت علاقة ودٍّ بين إدارة جون كينيدي والنِّظام النَّاصري، حرص الإدارة الأمريكيَّة بفضلها على دعم مصر بالقمح وبعض السِّلع الغذائيَّة. أثار ذلك حفيظة بعض الزُّعماء العرب حينها، ومن بينهم أمين الحافظ، رئيس سوريا، الذي اتَّهم عبد النَّاصر ببيع فلسطين مقابل أرادب قليلة من القمح، ما ردَّ عليه عبد النَّاصر باتِّهامه الحافظ بالسَّعي إلى جرِّ البلاد إلى حرب قبل تشكيل وَحدة. أمَّا وصفي التَّل، رئيس وزراء الأردن، فندَّد بتقاعُس الرَّئيس المصري عن محاربة إسرائيل واتَّهمه بالاختباء وراء قوَّات الطَّوارئ التَّابعة للأمم المتَّحدة. في حين عارَض حلف الطائف، المكوَّن من المملكتين السَّعوديَّة والأردنيَّة، التدخُّل المصري في اليمن لدعم قوَّات السَّلال في مواجهة قوَّات النِّظام الملكي البائد. وفي مطلع عام 1964م، تصدَّى زعماء العرب لمخطط إسرائيل شق قناة تنقل مياه بحيرة طبريا إلى صحراء النَّقب، متجاهلين الدَّور القيادي المصري في مواجهة الأزمة، التي كانت تهدِّد بإعداد صحراء النَّقب لإيواء 3 ملايين مهاجر يهودي وإحكام السَّيطرة الإسرائيليَّة عليها. دعا عبد النَّاصر لعقْد قمَّة عربيَّة لمناقشة الأزمة، في محاولة لتفادي الحرب، مع اقتراح مشروع يعرقل مخطط إسرائيل لنقل مياه طبريا إلى النَّقب، وهو تحويل مجرى نهر الأردن عند منبعيه، نهري بانياس والحاصباني، ممَّا هدَّد بانخفاض حادٍّ في كميَّة المياه الموجَّهة إلى إسرائيل.
تكوَّنت لحماية ذلك المشروع، الذي رُصدت له ميزانيَّة تبلغ 17.5 مليون دولار، ولردِّ أيِّ عدوان إسرائيلي محتمل قيادة عربيَّة موحَّدة. غير أنَّ استضافة مصر لمؤتمر القمَّة العربيَّة في يناير 1964م لم يجد لها حلًّا للخروج من “مستنقع اليمن” أو لدحض الاتِّهامات السُّوريَّة (ص59). من جديد، وكما يرصد أورين، لم تتعدَّ وعود التكاتف العربي لمواجهة الأزمة كونها حبرًا على ورق؛ فالأردن رفضت نشر جيش التَّحرير الفلسطيني على نهر الأردن، والعراق امتنعت عن تزويد القيادة العربيَّة المشتركة بالطَّائرات، في وقت انشغلت فيه مصر بحربها في اليمن التي استنزفت طاقات جنودها ومعدَّاتها العسكريَّة. ولمَّا عملت سوريا منفردةً على تنفيذ مشروع تحويل مجرى نهر الأردن، دمَّرت إسرائيل أعمال سوريا في هذا الصَّدد. بدورها، سخرت السَّعوديَّة من عبد النَّاصر بقولها إنَّ حربه في اليمن، التي ساندت هي فيها خصم حليف عبد النَّاصر، تسبَّبت في عجزه عن تحرير فلسطين، كما كان يعد في خطاباته الرنَّانة. اشتدَّت الأزمة بين مصر والسَّعوديَّة بعد عدم تنفيذ اتِّفاقيَّة سلام أُبرمت عبر المفاوضات بين الملك فيصل، العاهل السَّعودي (1964-1975م)، والرَّئيس عبد النَّاصر، لدرجة أنَّ الأخير هدَّد بغزو السَّعوديَّة، في وقت ظلَّ فيه ما يقرب من 70 ألف جندي مصري “من خيرة جنود المصريين” عالقين في مستنقع اليمن (ص60). اشتدَّ التوتُّر بين مصر وعدد من الجارات العربيَّات، حيث انضمَّ إلى السَّعوديَّة كلٌّ من ليبيا والمغرب وتونس في رفض مقاطعة ألمانيا لاعترافها بإسرائيل، كما لم تفلح مؤتمرات القمَّة العربيَّة في إيجاد حلٍّ للوجود المصري في اليمن. وعن ذلك يقول أورين (ص60):
سنتان تقريبًا من القمَّة العربيَّة لم تسفرا عن أيَّة فائدة لمصر ولا لأيَّة دولة عربيَّة. إذ لم تنتهِ حرب اليمن، ولم تنتهِ المهاترات العربيَّة-العربيَّة. وبدلًا من نشوء جبهة موحَّدة ضدَّ إسرائيل كانت هناك خطط عدوانيَّة مشتركة تهدف في الغالب إلى إثارة إسرائيل-باختصار برزت كلُّ عيوب الوحدة، ولم يظهر شيء من منافعها. حتَّى الإنجاز الوحيد المهمّ، وهو إنشاء منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، فقد وصفتها ما لا يقلُّ عن سبع منظَّمات فدائيَّة-من بينها فتح-بأنَّها منظَّمة عاجزة.
انتهى عام 1964م بانتهاء فترة التقارب المصري الأمريكي، بعد عام من اغتيال الرَّئيس جون كينيدي وتولِّي نائبه، ليندون جونسون، الحُكم، في نوفمبر من عام 1963م. نشبت أزمة دبلوماسيَّة بعد وقوع أعمال شغب بالقرب من السَّفارة الأمريكيَّة بالقاهرة أسفرت عن حرْق مكتبتها، وبدلًا من أن يصفِّي عبد النَّاصر الأجواء، أدلى بتصريحات ناريَّة فاقمت الأزمة، حيث قال (ص61):
“يقول السَّفير الأمريكي إنَّ سلوكنا غير مقبول، إنَّنا نقول لهم من لم يعجبه سلوكنا فليشرب من البحر…ولسوف نقطع ألسنة الَّذين يسيئون القول فينا…ولن نقبل سلوك قطَّاع الطُّرق رعاة البقر”.
تسبَّب ذلك الموقف من الزَّعيم المصري في قطْع المساعدات الأمريكيَّة، بما فيها شحنات القمح، التي كانت تسدُّ 60 بالمائة من الاحتياج الشَّعبي للخُبز. عوَّض تلك المساعدات الرُّوس بتقديم دعم، تمثَّل في علاج لبعض الأدواء، إلى جانب الدَّعم المالي في ظلِّ ارتفا نسبة الفقر وتردِّي الأوضاع الاجتماعيَّة. يشير أورين إلى أنَّ المجتمع المصري عانى من قبضة “الدَّولة البوليسيَّة” التي عمدت إلى “سحْق المنشقِّين والمعارضين بصورة وحشيَّة، والتَّأميم العشوائي للممتلكات، والبيروقراطيَّة الخانقة” (ص62).
إسرائيل تستشعر أجواء الحرب بسبب أعمال العرب العدائيَّة
يشير مايكل أورين إلى أنَّ إسرائيل بدأت تستشعر نيَّة العرب في الاعتداء على أراضيها وتهديد مصالحها منذ نوفمبر من العام 1964م، بدايةً من السَّعي إلى تحويل منابع نهر الأردن، وإطلاق النَّار من هضبة الجولان على أراضٍ إسرائيليَّة رُسمت حدودها في السَّابق بموجب اتفاقيَّة الهُدنة؛ لمنع الإسرائيليين من زراعة تلك الأراضي، الواقعة على الشَّريط الشَّمالي الشَّرقي لبحيرة طبريا، المفترض أنَّه كان تحت سيادة إسرائيل، هذا إلى جانب إطلاق النَّار على صيَّادي السَّمك من الإسرائيليين. يرسم أورين صورة تثير الشَّفقة ليهود إسرائيل، المسالمين وفق تصويره، والذين تعرَّضوا لتهديد مباشر من مسلَّحين سوريين أرادوا الاعتداء على أراضيهم ومصادر حصولهم على الماء، ممَّا يشكِّل تهديدًا صريحًا للكيان الصُّهيوني؛ إذ كانت “قضيَّتا الأرض والماء متشابكتين في العقل الإسرائيلي”، كما أنَّ ليفي إشكول صرَّح يومًا لأفراد حكومته بقوله “بدون السَّيطرة على مصادر المياه، لا يمكن تحقيق الحُلم الصُّهيوني. فالماء هو أساس الوجود الصُّهيوني في أرض إسرائيل” (ص64). شنَّ إسحق رابين، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حينئذ، ضربة جويَّة قاسية على سوريا، أسقطت ضحايا من الطَّرفين، ولكن كانت خسائر سوريا أكبر، ويُضاف إلى الخسائر الماديَّة اهتزاز الثِّقة العربيَّة واستشعار مدى خطورة الجانب الإسرائيلي، وكان عبد النَّاصر من أشدِّ المتأثِّرين بما حدث، الذي زاد من مشكلاته، في ظلِّ تورُّط جيشه في حرب اليمن، ومعاداة السَّعوديَّة والأردن، اللتين أسستا مع إيران جامعة إسلاميَّة تستهدف الحدَّ من نفوذه، ما اعتبره الزَّعيم المصري “مؤامرة مشتركة بين الولايات المتَّحدة والإخوان المسلمين” (ص66).
استمرَّت الأعمال العدوانيَّة السُّوريَّة، ودخلت الأردن الميدان بهجمات استهدفت خدمة الدِّعاية المناهضة للصُّهيونيَّة؛ فأصبح “طيف هجوم يقوم به العرب كلُّهم…هاجسًا لجيش الدِّفاع الإسرائيلي” منذ عام 1965م، أي قبل عامين من الحرب، ما أغرى جيش الكيان الصُّهيوني بإعداد “خطَّة دفاعيَّة لصدِّ الهجمات على جميع الجبهات” (ص68). من جديد، يُشعر أورين القارئ بمدى التهديد الذي واجهته إسرائيل التي كانت تقف موقف المدافِع وسط العدوان العربي الشَّامل. وتلقَّى الجيش الإسرائيلي صفعةً قاسيةً بكشف المخابرات السُّوريَّة عميل الموساد إيلي كوهين، الذي اخترق المؤسسة العسكريَّة السُّوريَّة تحت الاسم المستعار كمال أمين ثابت، وفقدت إسرائيل بإعدامه “مصدر معلومات لا يُعوَّض حول انتشار القوَّات السُّوريَّة في مرتفعات الجولان” (ص68).
وشهد عام 1966م مزيدًا من التَّدهور الأمني؛ إذ سجَّلت إسرائيل 93 حادثة على حدودها، ما بين أعمال تخريب وزرْع ألغام وإطلاق للنَّار. تزامَن ذلك مع تشكيل حكومة جديدة في سوريا على يد حافظ الأسد، قائد سلاح الطَّيران السُّوري، بمشاركة الجنرال صلاح جديد، رئيس أركان الجيش، وكان أعضاء تلك الحكومة ينتمون إلى حزب البعث، الذي يوصف بأنَّه “أكثر راديكاليَّة من النِّظام السَّابق”، وكان غالبيَّة أعضائه من العلويين، “الطَّائفة الابتداعيَّة المكروهة من الأكثريَّة السُّنيَّة” (ص71). يعلِّق أورين على الخطاب الرَّسمي لحزب البعث وقادته بأنَّه تعمَّد “اصطناع أعداء”، مع تركيزه على “الرَّجعيَّة العربيَّة” و “الإمبرياليَّة الغربيَّة” (ص71). جدير بالذِّكر أنَّ الحكومة البعثيَّة الجديدة آنذاك سمحت بمشاركة التيَّار الشُّيوعي في المعترك السِّياسي، لتنهال إثر ذات المساعدات السُّوفييتيَّة على سوريا، وبلغت عام 1966م وحده 428 مليون دولار، ووصلت درجة تماهي النِّظام السُّوري مع نظيره السُّوفييتي إلى حدِّ تدريس الرُّوسيَّة في المدارس بوصفها لغة ثانية، كما كان هناك تقارُب أيديولوجي بين النِّظامين كفل حدوث تفاهُم تام حول كافَّة القضايا، باستثناء القضيَّة الفلسطينيَّة، برغم إدانة السُّوفييت للصُّهيونيَّة ولإسرائيل (ص73). ومن أكثر ما يثير الاهتمام في هذا الصَّدد مواجهة وزير خارجيَّة الاتحاد السُّوفييتي السَّفير الإسرائيلي في 25 مايو من عام 1966م بمعرفة السُّوفييت بمخطط إسرائيلي لغزو سوريا. وبرغم نفي السَّفير، بل وليفي إشكول ذاته، نشرت وكالة الأنباء السُّوفييتيَّة الرَّسميَّة ذاتها الخبر وعلَّقت بقولها “آن أوان الكشف…كبرهان على تضامُن السُّوفييت مع البلدان العربيَّة في نضالها ضدَّ…القوى الأجنبيَّة والرَّجعيَّة المحليَّة”، نقلًا عن أورين (ص74).
استمرَّت التحرُّشات السُّوريَّة بالأراضي الإسرائيليَّة، كما تواصلت الغارات الفلسطينيَّة التي قادتها جماعات فدائيَّة أطلق على نفسها “شباب الثَّأر” و “أبطال العودة”. ما زاد الطِّين بلَّةً أن صرَّح رئيس الحكومة السُّوريَّة، يوسف زعيِّن، بقوله “لم نأتِ لنكبح الثَّورة الفلسطينيَّة…بل سوف نشعل المنطقة نارًا وأي حركة تقوم بها إسرائيل ستؤدِّي إلى قبرها” (ص76). يشير أورين إلى أنَّ سوريا أرادت جرِّ المنطقة إلى حرب إقليميَّة، ما دفع عبد النَّاصر إلى “تجديد الاتّصالات السِّريَّة بين مصر وإسرائيل” لأوَّل مرَّة منذ أزمة السويس، على حدِّ قوله؛ وكان وسيطا الاتصال مائير أميت، رئيس الموساد الإسرائيلي، وعزم الدِّين محمود خليل، رئيس مشاريع الأسلحة المصريَّة غير التَّقليديَّة (ص76-77). اقترح الطرفان المصري والإسرائيلي لتهدئة الأمور، أن تخفف مصر من دعايتها المندِّدة بالصُّهيونيَّة وتخفيف الحصار على ملاحة سُفن إسرائيل في خليج السُّويس، في مقابل مساعدة مصر في الحصول على مساعدات ماليَّة عالميَّة. اتَّجه عبد النَّاصر حينها إلى سوريا، بعرضه “عقْد معاهدة دفاع مشترك” معها، سعيًا إلى الحدِّ من قدرة سوريا على شنِّ حرب متهوِّرة على إسرائيل (ص77). توجَّه وفد عسكري إلى دمشق في أكتوبر من عام 1966م، وصرَّح رئيسه بقوله “واثقون بأنَّنا نسير خطوات واسعة باتِّجاه تحقيق هدفنا المشترك-ألا وهو الوَحدة العربيَّة الكاملة وإزالة إسرائيل” (ص78). من الملفت أنَّ عبد النَّاصر قال لرئيس الوزراء السُّوري، يوسف زعيِّن، عند زيارة الأخير القاهرة في نوفمبر 1966م، ما يقلل من فرص القضاء على الكيان الصُّهيوني، معيزًا ذلك إلى أنَّ “ما توصَّلت إليه إسرائيل من تقدُّم تكنولوجي، وما تحصل عليه من مساعدات أمريكيَّة يجعلها غير معرَّضة لخطر هجوم عربي” (ص78). على كلِّ حال، وقَّع الطرفان معاهدة دفاع مصريَّة-سوريَّة…والتزم كلُّ طرف بنجدة الآخر في حال نشوب معركة. واشترطت الملاحق السِّريَّة لهذه المعاهدة أن تهبَّ مصرُ لمساعدة سوريَّة في حال قيام إسرائيل بهجوم على الجبهة الشَّماليَّة” (ص78). ويختتم أورين حديثه عن سياق اندلاع حرب الأيَّام الستَّة بعبارة تبرز أطراف الصِّراع وتداعياته (ص80): بيد أنَّ التَّطوُّرات الَّتي حدثت في الشُّهور السّتَّة التَّالية، لا يمكن أن تُنسب إلى شخص بعينه أو حادثة معيَّنة. إذ كانت تنشأ من سياق أو بيئة اكتملت بحلول نهاية العام 1966. فالصّراع بين البلدان العربيَّة والإسرائيليين، وبين البلدان العربيَّة نفسها، وبين الولايات المتَّحدة والاتّحاد السُّوفياتي-يفاقمه التَّوتُّر المحلّي في كلّ بلد-قد خلَق جوًّا شديد القابليَّة للاشتغال. ففي مثل هذا الجو لا يحتاج إطلاق عمليَّة تصعيد خارجة عن السَّيطرة، أو سلسلة تفاعلات من الجرأة والجرأة المضادَّة، أو من المقامرة وسوء الحساب، فكلُّها تؤدّي حتمًا إلى نشوء حرب لا رحمة فيها.
(المصدر: رسالة بوست)