مقالات

هجرة الوطن بين المصالح والمفاسد

د. صلاح الدين محمد قاسم النعيمي – باحث في السياسة الشرعية

تصدر موضوع الهجرة الجماعية الى دول الغرب نشرات الأخبار في جميع القنوات الفضائية، وامتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك والتوتير ونحوهما بالتعليقات الإيجابية والسلبية، والكل يدلو بدلوه، بين مؤيد ومشجع لها، وبين رافض ومحذر من عواقبها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هناك اختلافا شاسعا في مسألة الهجرة لديار الغرب.

وللوقوف على هذا المسألة أقول:

لم يتعرض فقهاء الإسلام إلى بحث هذه المسألة بتفاصيلها ـ إلا ابن حزم في كتابه المحلى ـ ولعل السبب في ذلك أن المسلمين في ذلك الزمان ما كانوا يتصورون أن يأتي عليهم زمان يهاجرون من بلادهم، بعد ما عاشوا تحت ظل الدولة الإسلامية أعزاء أقوياء مكرمين، وفضلا عن ذلك فإن سلطان الدولة كان واسعا وكبيرا، وكانوا إذا حصل لهم خوف أو ضيق أو تهديد في مدينة ما هجروها إلى مدينة أخرى داخل سلطان الدولة الإسلامية, ولم يكونوا يفكروا بالهجرة الى بلاد الغرب.

تعريف اللجوء الإنساني أو الهجرة: هو تغيير محل إقامة أفراد أو مجموعات من الأشخاص مهما كانت الأسباب والوجهة.

أسباب هجرة الوطن:

لا يخفى على أحد أن أسباب هجرة المواطنين من بلادهم الى ديار الغرب كثيرة، ويمكننا أن نجملها في سببين، هما:

1ـ عوامل جاذبة: مثل مستقبل اقتصادي أفضل في مكان الهجرة (أسباب مادية)، أو لتحصيل العلم النافع، أو الدعوة لدين الله، أو للتمتع بحقوق الإنسان حسب اعتقاد المهاجر، أو محبة لأجواء وطقس غير الموجود في بلادهم، أو فقدان الأمل في العيش الرغيد…الخ

2 ـ عوامل دافعة: كالهروب من اضطهاد سياسي أو اجتماعي أو ديني أو عرقي، أو لكثرة الكوارث الطبيعية أو الحروب القذرة التي لا تفرق بين مدني وعسكري، أو أسباب خاصة متنوعة كالعلاج من الامراض المستعصية ( التطبب من داء عضال) ونحو ذلك.

هجرة الوطن بين المصالح المستجلبة والمفاسد المستدرأة

من المعلوم لكل مسلم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان لطلب الدنيا والاشتغال بها، أو بالتعبير القرآني لم يخلقنا عبثاً، بدليل قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ } (سورة المؤمنون 115)، بل خلقنا لنعبده وحده ولنقيم شرعه كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } سورة الذاريات: الآية 56.

وعليه فالمسلم مطالب على وجه الفرض بعبادة ربه، وهذا يتطلب منه إيجاد بيئة يستطيع فيها أن يقيم شعائر الله بأمن من غير خوف على حياته أو حريته, فإن فقد من ذلك شيئاً وجب عليه أن يهاجر إلى موضع آمن يتمكن فيه من الحفاظ على حياته وحريته وعبادة ربه بحرية وأمان, يقول رسول الله (اتق الله حيثما كنت.. ) أحمد برقم (21392) من أجل ذلك فلا بد للمسلم من الهجرة إلى بلد آمن مستقر من البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية.

أما في الوقت الحاضر فقد أصبحت هذه القضية من القضايا المعاصرة المهمة التي لا بد من بحثها وبيان حكمها في الشريعة الإسلامية, و لاسيما أننا نعيش مآسيها من غرق ونهب وقتل ونصب واحتيال على المهاجرين يوميا.

ومعلوم أن للإسلام حكمه في كل حدث, ولا غرابة أن يكون له حكمه في الهجرة إلى البلاد غير الإسلامية.

ويدور موضوع الهجرة من الوطن بين المصالح والمفاسد, إلا أن هذه المصلحة كما انها إيجابية (منفعة مستجلبة) يجب أن تجلب، فإنها قد تكون سلبية (مفسدة مستدرأة) يجب أن تدرأ, ولذا فإني أتناولها من الجانبين:

أولاً: المصالح المستجلبة

من خلال ما سأذكره من أدلة على جواز الهجرة الى بلاد الغرب سيتبين لنا المصالح الايجابية:

1ـ مفهوم الأرض في الإسلام هو أن كل أرض لله, وليست لأحد, وأينما وجد المسلم أرضاً يمكنه أن يعبد الله فيها بحرية فهي أرضه:

وعليه نفهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً} (سورة النساء 97).

ودلالة الآية: إن المسلم إذا وجد أذىً وظلماً فعليه أن يهاجر إلى دولة أخرى ليظهر دينه, فإن أرض الله واسعة لا تحدها الحدود السياسية ولا الجغرافية, فالأرض في الإسلام هي التي يستطيع المسلم أن يعبد الله فيها بحرية واطمئنان. وهذا متوفر في أغلب دول الغرب ولكن بنسب متفاوتة.

2ــ هجرة الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ الى الحبشة مرتين:

((فعنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَتْ: (لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وَفُتِنُوا , وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، ” وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي مَنَعَةٍ (حماية) مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ مِمَّا يَنَالُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ , فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ)) السيرة لابن هشام.

فعاش المسلمون في كنف ملك الحبشة النجاشي وتحت حكمه وسلطانه وهو نصراني – قبل أن يسلم – ولم يضرهم ذلك. وهذا يدل على جواز الهجرة في الوقت الحاضر إلى البلاد غير الإسلامية لا سيما أن بعض هذه البلاد فيها من الحرية الدينية التي يستطيع المسلم أن يمارس شعائره بأمان ما ليس في بلاده.

3- دخول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في جوار المطعم رغم كفره:

وخلاصة ذلك: قام المطعم على راحلته فنادى: يا معشر قريش: إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم, وانتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته, ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته, وقال بعض رجال قريش لمطعم: قد أجرنا من أجرت.

وهذا يعني أنه يجوز الهجرة إلى البلاد غير الإسلامية إذا وجد المسلم فيها أماناً ومنعةً من الظلم والفتنة وتمكن من المحافظة على نفسه ودينه.

4ـ تكريم الإنسان:

من القواعد الكلية في الإسلام احترام إنسانية الإنسان وكرامته مهما كان جنسه أو لونه, فلم يقبل الإسلام للإنسان أن يعيش ضعيفاً ذليلاً مظلوماً مهما كانت توجهات ذلك الإنسان واعتقاداته.

قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} سورة الإسراء: الآية 70.

والغرب معروف بذلك، فهم يحترمون إنسانية الإنسان، ومن سافر لبلادهم يؤيد ذلك على عمومه.

ثانيا: المفاسد المستدرأة وبالمقابل فان المهجرين قد يتعرضون في بلاد الغرب الى مفاسد كثيرة, وهذه المفاسد يجب الحذر منها وتحصين المهاجرين من الوقوع فيها، ومنها:

1- احتمال تعرض المهجرين للتنصير:

مخاطر تعرض المهجّرين للتنصير متوقعة، فالجيل الأول قد يثبت على دينه، أما الجيل الثاني فسيذوب بما لا يقل عن 70% في الغالب، ثم الجيلُ الثالث فسيذوب ويضيع من غير دعوة لتنصيره، وبهذه الطريقة تنصر مئات الأطفال العرب والمسلمين وخصوصاً أولئك الذين لا يتمتع آباؤهم بوعي ديني وسياسي كافيين يقيهم السقوط في هذه المحاولات التنصيرية.

2- هجرة العقول:

ويشير هذا المفهوم إلى انتقال أصحاب الكفاءات والمهارات العالية من الاطباء والمهندسين والطيارين ونحوهم إلى بلد آخر, وبذلك يخسر البلد المنْشِئُ لهم من خدماتهم وخبراتهم.

3 ــ فقد الأرواح والأموال:

ومن يتابع نشرات الأخبار سيرى ذلك واضحا في ارتفاع عدد القتلى من المهاجرين في البحر، وكذلك في البر، وقد يتعرض بعضهم للسرقة والنصب والاحتيال وقد حدث الكثير من ذلك.

4 ــ فقدان التوعية الدينية:

قد تستمر الهجرة لسنوات خصوصا بعد التسهيلات الغربية لهم، وهذا سيؤدي الى ارتفاع اعدادهم، سيبلغون مئات الآف ان لم يكونوا أكثر، وسيفقدون التوعية الدينية التي كانوا ينهلون منها في بيوتاتهم ومدارسهم ومساجدهم وحتى من أصدقائهم فمن سيعلمهم الحجاب الشرعي والطعام الحلال والحرام وأن لحم الخنزير حرام وكذا الوضوء والصلاة وباقي تعاليم الإسلام ؟..

5 ـ اعتياد المنكرات:

فالذي يعيش في الغرب فانه بمرور الزمن سيألف المنكرات رضي أم أبى وسيصبح له شرب الخمر أو الزنا أو الشذوذ من الحريات الشخصية، وهذا بدوره سيؤثر سلبا على أولاده ان لم يرجع الى بلاده.

الضوابط الشرعية للهجرة:

فمع ما تقدم من المفاسد وغيرها فان الهجرة قد بدأت، ولا اظن انها ستنتهي قريبا لذا لابد لنا من أن نكون واقعيين وننبه المهجّرين الى أن يلزموا الضوابط الشرعية للهجرة الى بلاد الغرب، وأهمها الآتي:

1- أن يكون ظرفه قاهرا، وأن يتيقن من وقوع الظلم عليه في دار الإسلام, ولا مدينة آمنة داخل بلده، فإن لم يجد فبلد عربي أو اسلامي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن عجز عن ذلك فلا باس أن ينوي الهجر ة الى الدول الغربية شريطة أن يكون فيها آمناً هو وأهله وأمواله..

2- أن لا يعين الكفار على المسلمين بأي أسلوب من أساليب الإعانة, كأن يُفشي لهم أسرار المسلمين, أو أن يقاتل معهم ضد المسلمين, لأن هذا يُعَدُّ خيانة كبرى في الإسلام.

3- أن ينوي الرجوع إلى بلده فوراً بعد أن تزول الأسباب التي من أجلها تركه.4- أن يكون سفيراً للإسلام في تلك البلاد بخلقه وعمله وإخلاصه, وليحرص على أن يكون مع مجموعة من المسلمين الملتزمين، يذكّرونه إن نسيَ أو غفل.

بعد هذا العرض لهذه المسألة, فإنه يمكننا القول أن طلب الهجرة إلى البلاد غير الإسلامية لإنقاذ حياة أشخاص أو حرياتهم جائز شرعاً, إذا توافرت فيه شروطه, والله تعالى أعلم بالصواب.

المصدر: مجلة رؤية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى