مقالاتمقالات المنتدى

نماذج علمائيّة ملهمة (31) | سفيان الثوري رحمه الله

نماذج علمائيّة ملهمة (31)

سفيان الثوري رحمه الله

بقلم د. علي محمد الصلابي (الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) (خاص بالمنتدى)

هو إمام الحفاظ المتقنين والفقهاء في الدين، وهو علمٌ يُرجع إليه في الأمصار، وقدوةٌ يُقتدى بها في الأقطار، سيد العلماء العاملين في زمانه، المجتهد المطلق، العابد الزاهد، الأمار بالمعروف والناهي عن المنكر، الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري (رحمه الله).

أولاً: اسمه ونسبه:

هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن وهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر ابن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. (جمهرة أنساب العرب، ابن حزم، ص201)

يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيإلياس بن مضر، وكنيتهأبو عبد الله”.

ثانياً: نشأته ورحلته في طلب العلم:

ولد سفيان (رحمه الله) بالكوفة، سنة سبع وتسعين للهجرة، في خلافة سليمان بن عبد الملك، (سير أعلام النبلاء، ج7 ص230- 242)، ونشأ فيها في وسط علمي، إذ كانت الكوفة في ذلك العصر مركزاً من مراكز العلم والسنة، وكانت تزخر في القرون الأولى بعشرات الأعلام من المحدثين والفقهاء والقضاة واللغويين وغيرهم، فكان ذلك سبباً عاماً لتوجه الإمام الثوري (رحمه الله) لطلب العلم.

وكانوالدهسعيدبنمسروقالثوريالكوفي (رحمه الله)، من محدثي الكوفة وثقاتهم، وعدّ في صغار التابعين، روى له أصحاب الصحيحين والسنن والمسانيد، مات سنة (126 هـ). وأما والدته: فقد كانت سيدة فاضلة، كانت تقول لولدها: “يا بنيَّ اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي”. وكانت (رحمها الله) تتابعه على هذا السبيل وتنصحه، قال وكيع: ” قالت أمُّ سفيان الثوري لسفيان: يا بنيَّ إذا كتبتَ عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى نفسك زيادةً في خشيتك وحِلْمك ووقارك، فإن لم ترَ ذلك، فاعلم: أنها تضرك ولا تنفعك “.

وقد خصَّه الله تعالى بالذكاء والحفظ، فكان ينوّه بذكره من صغره من أجل ذلك، وانتشر خبره وهو شاب، فقد حدَّث أبو المثنى، قال: سمعتهم بمرو، يقولون: قد جاء الثوري. فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه (خرج شعره). وقال عبد الرحمن بن مهدي، رأى أبو إسحاق السَّبيعيُّ سفيان الثوريَّ مقبلاً، فقال: {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. وقد أخبر سفيان (رحمه الله) عن توقّد حافظته بقوله: إني لأمرُّ بالحائك، فأسدُّ أذني مخافة أن أحفظ ما يقول. ولهذا كان يقول: ما استودعتُ قلبي شيئاً فخانني (سير أعلام النبلاء، مصدر سابق، ج7 ص229-289).

ثالثاً: علمــــــــــــــه:

يشمل علم سفيان الثوري (رحمه الله) كل ما أحاط به من علم الحديث والفقه والكلام وغير ذلك مع شهادة كبار العلماء بعلمه وأنه حجة، ومن دأب العلماء العارفين والأئمة الربانيين؛ أن يكونوا عاملين بما يعلمون، وأن لا تخالف أقوالهم أفعالهم، وأنهم أكثر الناس حرصاً على مطابقة القول العمل، ومن ذلك ما روي عن هذا الإمام العالم الزاهد سفيان الثوري (رحمه الله) يقول عبد الرحمن بن مهدي: “سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة. وكان لسفيان (رحمه الله) عناية بالغة بالحديث حفظاً وسماعاً ومذاكرة، حتى قيل له: إلى متى تطلب الحديث؟ فقال: “وأيّ خيرٍ أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه، إن الحديث خير علوم الدنيا“. ولما كان العالم كلما كان أعلم بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) حفظاً وعنايةً ودرايةً، كان أعظم فقهاً في دين الله تعالى، لهذا كان سفيان (رحمه الله)، كما يقول عباس الُّدوري: رأيتُ يحيى بن معين لا يقدِّم على سفيان أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد، وكلِّ شيءٍ. (الباعث الحثيث، أحمد محمد شاكر، ص34)

وكان (رحمه الله) عالماً بالقرآن له فيه دراية وعلم وفهم، قال وكيع: كان سفيان لا يعجبه هؤلاء الذين يفسرون السورة من أولها إلى آخرها، مثل الكلبي، لأن تفسير الواضح من القرآنخصوصاً بالعبارات الركيكة من بعض المفسرينيُضعف الأثر البلاغي في القرآن وحسبنا من تأويل الآيات الظاهرة قراءتها. وكان سفيان الثوري يقول: سلوني عن علم القرآن، والمناسك، فإني عالم بهما.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان سفيان يأخذ المصحف فلا يكاد يمر بآية إلا فسرها، فربما مر بالآية فيقول: أي شيء عندك في هذه؟ فأقول: ما عندي فيها شيء؛ فيقول: تضيع مثل هذه، لا يكون عندك فيها شيء. (الجرح والتعديل، ابن حاتم، ج1 ص79-116-117)

كان الإمام الثوري فقيهاً مجتهداً، يعد من كبار الأئمة المجتهدين البارزين، واجتهاده خاص به لم ينتزعه من أحد من أئمة عصره، وكان فقهه أقرب إلى الفقه الكوفي، وهذا الفقه مستمد أكثره من الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قد أرسل عبد الله بن مسعود لأهل الكوفة ليعلم الناس ويفقههم ويقضي بينهم، ويبحث عن أحوالهم. قال علي بن المديني: أصحاب عبد الله بن مسعود ستة الذين يقرؤون ويفتون، ومن بعدهم أربعة، ومن بعد هؤلاء سفيان الثوري، كان يذهب مذهبهم، ويفتي بفتواهم. (الإمام سفيان الثوري، عبد الغني الدقر، 81)

وقد اعتمد الثوري في مذهبه الفقهي على ما صحّ عنده من الأحاديث، كما اعتمد الثوري أيضًا في مذهبه على مناهج أخرى مساعدة في بعض المسائل، مثل الأخذ بإجماع العلماء كرأيه في مسألة استئناف المرأة عدتها إذا طلقها زوجها ثم راجعها ثم طلقها قبل الدخول بها، والاجتهاد كرأيه في جواز المسح على الخُفّ وإن كان مقطوعًا قطعًا كبيرًا، والقياس كرأيه في صحة الظهار بغير الأم من المحارم ولو من الرضاع. (مناهج التشريع الإسلامي، محمد بلتاجي، ص361)

رابعاً: صفاته وشمائله:

ـــــــــــ عبادته وخشيته من الله (عز وجل):

وكان عجيباً في قيامه لليل، فكان يقوم الليل حتى الصبح في أيام كثيرة، وكان يرفع رجليه على الجدار بعد قيام الليل حتى يعود الدم إلى رأسه، وقال ابن وهب: “رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء، ومرة قدم على عبد الرزاق فقال عبد الرزاق: “طبخت له قدر سكباجلحم مع خلفأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق، اعلف الحمار ثم كده، وقام يصلي حتى الصباح“.

وعن مؤمل بن إسماعيل قال: “أقام سفيان بمكة سنة، فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب، كان يجلس مع أصحاب الحديث، وذلك عبادة، وقال ابن مهدي: “كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوباً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، وقال يوسف بن أسباط: “كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم من طول حزنه وفكرته“. (تهذيب الكمال للمزي ج11 ص167)

ــــــــــ  زهده وورعه وتواضعه (رحمه الله):

كان سفيان (رحمه الله) إماماً في الزهد والخوف، غير أن له مذهباً متميزاً في ذلك، فقد كان كثير من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشف الشديد، وترك التكسب، فأورث بعضهم أمراضاً وأوجاعاً، وحاجة إلى الناس، أما سفيان فقد كان متيقظاً لعاقبة ذلك، خاصة: وقد فسد الزمان، واشتد الأمر، فكان يقول: “كان المال فيما مضى يكره، أما اليوم فهو ترس المؤمن، ونظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال: “يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير، قال: اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك، وكان سفيان لا يخاف في الله لومة لائم من أئمة الدين، فعن سفيان قال: “الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول ذلك زهدك في نفسك“.

وكان زاهداً، أقبلت عليه الدنيا فتركها وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس، ولا يمد يده، وكان له وصايا في الزهد فكان يقول: “ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل وارتقاب الموت، وكانرحمه اللهيقول: “لا تصحب من يكرم عليك، فإن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك“. (سير أعلام النبلاء، مصدر سابق، ج13 ص278 – 309)

خامساً: ثناء الأعلام على الإمام سفيان:

قال ابن المبارك: كنت إذا شئت رأيت سفيان مصلياً، وإذا شئت رأيته محدثاً، وإن شئت رأيته في غامض الفقه. (تاريخ البخاري، ج4 ص92)

يقول الإمام الذهبي: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد.

عن شعيب بن حرب قال: إني لأحسب أنه يجاء غداً بسفيان حجة من الله على خلقه يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد رأيتم سفيان. (سير أعلام النبلاء، ج7 ص239-269).

سادساً: وفاته:

قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: مرض سفيان بالبَطَن، فتوضأ تلك الليلة ستين مرة، حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه، فوضع خدّه بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن! ما أشدَّ الموت، ولما مات غمضه، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا. وكانت وفاته (رحمه الله) في أول سنة إحدى وستين ومائة، وله ثلاث وستون سنة، وفي تاريخ بغداد: مات وهو ابن ست وستين، وقبره في مقبرة بني كليب. (تاريخ بغداد، ج7 ص279).

مراجــــــــــــــــع:

  • الإمام سفيان الثوريأمير المؤمنين في الحديث، عبد الغني الدقر، دار القلمدمشق، ط1، 1415هـ – 1994م.
  • جمهرة أنساب العرب، ابن حزم الأندلسي، تحقيق وتعليق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار المعارفمصر.
  • مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، محمد بلتاجي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الثانية، 1428 هـ/2007 م.
  • سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
  • الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، بو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري، المحقق: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروتلبنان، ط1.
  • الجرح والتعديل، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم التميمي الحنظلي الرازي، ط1،  ١٢٧١ هـ١٩٥٢ م
  • تهذيب الكمال في أسماء الرجال، جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي، مؤسسة الرسالةبيروت.
  • حلية الاولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني.
  • تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى