بقلم د. حسان عبدالله
نتناول في هذه المقالة أحد وجوه الاختلالات في العلاقات الحاكمة بين ” الحاكم” والمحكوم” والتي ينبغي كما في التعاقدات الإنسانية أن تكون قائمة على مركزية فكرة “الحقوق والواجبات”، وأن كل حق يقابله واجب بين الطرفين، وأن ممارسة الحق والقيام بالواجب يتطلبان مجال تفكير قائم على المعرفة والحقيقة بين الطرفين (الحاكم والمحكوم)، وفي حالة استبدال المعرفة والحقيقة بأي طرق مناقضة لهما أو تقوم بالتشويش عليهما فإن ذلك يؤدي بالضرورة إلى خلل في تلك العلاقة التعاقدية.
ومن وجوه الاختلال التي سجلها الوحي في تلك العلاقة – بين الحاكم والمحكوم – ما عرف بنظرية “الاستخفاف”، والتي تعد من مظاهر انقلاب مركزية فكرة “الحقوق والواجبات” إلى حالة “الانقياد الأعمى” أو الانقياد “بالتجهيل والمخادعة”، أو الانقياد “بالقهر أو الإغراء”.. كما حاولنا الاقتراب في هذا المقالة مع بعض من نظائرها مما طرحه الفكر البشري في ذات القضية.
نظرية “الاستخفاف” في القرآن
الاستخفاف لغة: طلب خفته، ورآه خفيفًا و-استفزه. و-استخف به: استهان . و-أهانه.[1] واستخف فلان إذا استجهله، فحمله على ابتاعه في غيه..واستخفه عن رأيه، واستفزه عن رأيه إذا حمله على الجهل، وأزاله عما كان عليه من الصواب.[2] ويذكر الراغب في مفرداته حول قوله تعالى ” فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ” أي: حملهم..عندما وجدهم خفافًا في الأبدان والعزائم، وقيل وجدهم طائشين[3].
وقد ورد لفظة الاستخفاف – بالمعنى المقصود الذي يصف أحد أشكال العلاقات بين الحاكم والمحكوم- في سورة الزخرف { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[ 54} وهي المقصودة بتحليل علاقة فرعون ببني إسرائيل حال رأوا آيات الله {تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [ النمل/12] وتهيئوا لقبول دعوة موسى – عليه السلام- ولكن اللحظة التي كاد يحدث فيها هذا القبول ظهر فرعون ليعلن “مالكيته للأرض وما عليها” دون برهان واضح أو دليل حسي أو عقلي.
وتشير التفاسير المختلفة إلى معنى الاستخفاف وأبعاده الذي مارسه أو صنعه فرعون ببني إسرائيل، بأنه استجهل هؤلاء قوم، والاستجهال يكون بإعطائهم معلومات مغلوطة ويصورها لهم – عن طريق القوة أو الخداع أو الترهيب- على أنها الحقيقة {َنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }.. وقيل أفلا تبصرون: أي ألا ترون جبروتي وقوتي.. وهذه ثاني أدوات الاستخفاف: استخدام القوة في إقناع.. استخدام القوة في نقض القناعات العقلية بالسلب، واستبدال الحقائق المقبولة عقليًا وحسيًا بالزيف ..وذلك بقوة البطش والترهيب..
ولهذا رصد القرآن ثلاثة أركان للاستخفاف الحاصل للمحكومين – في قصة فرعون-وهم على الترتيب:
فرعون: ويمثل الحاكم السياسي، صاحب الغرور والتضخم النفسي، والإمكانات الذاتية الضعيفة أو المتواضعة.
هامان: كبير الوزراء القائم على التخطيط لتنفيذ الاستخفاف بكل أبعاده وتوفير الإمكانات الدعائية والإعلامية والنفسية.
الجنود: وهم المنفذون لغرور (فرعون) وخطط (همان) وأول المستخف بهم، لأنهم ربطوا مصيرهم وحياتهم بطاعة/وتنفيذ أوامر لا يدركون مدى صوابيتها، أو ربما تبين لهم الجرم فيها فهم الذين وُكِلَ إليهم قتل الذكور من الأطفال دون رد أو رفض منهم {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص/4].
نظرية الاستخفاف كما يسجلها القرآن: تقوم على استخدام القوة القاهرة أو ما نسميه “الاستبداد” في فرض الاستخفاف، أو بالتجهيل المعلوماتي تحت فرض القوة أو التلويح باستخدامها، من خلال ثلاثية “فرعون، وهامان والجند” فكل هؤلاء يرتبط وهجودهم ومنصبهم وجاههم بهذه الحالة التي عليها “الناس” وهي غياب الوعي أو تغييبه أو الاستجابة لعناصر القوة والتهديد..
وهذه الحالة –أيضًا- كما يقررها القرآن، تنقل الناس من احتمالية قبول الحق الناتج عن الأدلة والبراهين الحسية والعقلية- كما تهيئ بني إسرائيل لقبول دعوة موسى من بعد ما رأوا الآيات- إلى قبول إيمان مزيف ناتج عن خداع وكذب فج خال من منطق التفكير واليقين {أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52].
عبد الرحمن بن خلدون ( 732هـ – 1332م)
(آلة لغيره)
يطرح ابن خلدون نظريته حول الإنسان (الآلة لغيره) والذي يظهر في نهاية مراحل سقوط الدولة أو الحضارة، والتي تمر بحسب تصنيفه بخمسة أطوار: طور الظفر والغلبة، والثاني طور الاستبداد، والثالث طور الفراغ والدِّعة، والرابع: طور القنوع والمسالمة، والخامس: طور الهرم والمرض والفناء..
وفي هذا الطور الأخيرة تظهر كل أمراض الإنسان ، والتي يذكرها ابن خلدون في الفصل الرابع والعشرين في مقدمته تحت عنوان (في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء)[4] يتحول الإنسان إلى آلة لسواه.. والسبب كما يذكر ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا مُلك أمرها عليها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم..” فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال، فأصبحوا مُتغلَّبين لكل متغلب طعمه لكل آكل”.
وفي ذلك ينسى الإنسان رسالته الكونية الإلهية وهي الاستخلاف، التي تبعث في الإنسانية مسؤولياته أمام الله وأمام التاريخ وتحفزه للفعل والعمل وتخلق فيه الوعي، ويذكر ابن خلدون في ذلك ” أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له. والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن عزه، تكاسل حتى عن شبع بطنه، وري كبده”. إن فكرة التخلي عن الوظيفة الإلهية والرسالة المدونة للإنسان في الوحي هي جوهر فكرة تراجع الإنسان وجعله “آلة لغيره” يتحكم فيه كيفما شاء، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع المطالبة ولا السعي لتلبية احتياجاته الضرورية، والذي ينقلب معه حال العزة إلى المذلة أو بلفظ بن خلدون (إذا غلب على أمره صار آلة لغيره).
إتين دي لابويسيه (1530- 1563م)
العبودية المختارة
قامت العصور الوسطى في أوروبا على مقدمات أدت إلى توثيق العلاقة إلى التوحد بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية للكنيسة، وتم الهيمنة على العقل الأوروبي لعقود طويلة وعلى نظامه المعرفي الذي انتقل من الريادة المنطقية والفلسفية إلى عصور سميت في التاريخ البشري بعصور الظلمات الأوروبية، نظرًا لما اعترى العقل الأوروبي من التخلف بصورة لم يسبق لها في تاريخه، وتراجع العقل، واتهم العلم بالكفر والزندقة والإلحاد، وانتشرت محاكم التفتيش التي تصدر أحكام الإعدام على كل من يخالف النظام المعرفي ويتجاوزه في مجال التفكير أو الاعتقاد الذي ينعكس بدوره على المجال السياسي.
ويكتب إتين دي لابويسيه- الكاتب والقاضي الفرنسي- مقالته “العبودية المختارة”[5] انطلاقًا من فكرة مركزية هي قضية الاستغلال الإنساني –الأوروبي بالطبع- بكل أشكاله الدينية والاقتصادية والتي تقع في النهاية في قبضة الملك الذي يحكم باسم الله، باعتباره “خليفة الله على الأرض”..
ويوضح لابويسيه حالة الإنسان المُـستغل من قبل تلك السلطة التي أمسكت بأهداب حياته وآخرته أيضًا (صكوك الغفران) ويقول محللًا وواصفًا ومستنكرًا وباعثًا ” كيف أمكن أن نرى الملاييين من البشر يحتملون أحيانًا طاغية واحدًا دون أن تحملهم على ذلك قوة أكبر، بل هم فيما يبدو قد سحرهم، وأخذ بألبابهم مجرد الاسم الذي انفرد به البعض… لماذا يحتمل الناس السلب والنهب وضروب القسوة لا من عسكر أجنبي ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من سيد! لا هو بهرقل ولا شمشون بل خنث، هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثًا”.
ويصف لابويسيه حالة الانصياع والخضوع التي عليها الناس هنا بالرذيلة بل بأسوأ رذيلة يمكن أن تلصق بشعب أو جماعة.. بل يذهب لأكثر من هذا بأن هؤلاء الذين خضعوا لكل هذا الانقياد رغم قوة عددهم في مقابل ضعف المستغل لهم والمستبد بهم ..بأنهم “مسخ من مسوخ الرذيلة ولا يستحقون حتى اسم الجبن”..
إن الاستعباد والانقياد بهذه الطواعية المختارة مناقض للحرية كطبيعة فطرية، إلا أن الناس وبسبب تنشئتهم على العبودية أصبحت خيارًا لهم وللأجيال التالية.. غير مدركين لخطورة فقدها وآثار هذا الفقد عليهم وهو اختصارًا “البؤس والمذلة”.
ويرى بأن الطغاة يعملون على تثبيت دعائم الاستبداد، وتمكين قيم العبودية المختارة بطرق عدة سواء كانوا استولوا على الحكم بالانتخاب من الشعب – عبر ممثليه- وهذا النوع يعاملونا لشعب على أنه ثور يجب تذليله، أما من يمتلكون الحكم بالوراثة فيعاملونه كأنهم ملكوه امتلاكًا طبيعيًا.
ويصف لابويسيه مناهج الطغاة في التغرير بشعوبهم، ومنها: طريق الألعاب والولائم والأعياد والمواكب، ثم إلى نسبة معجزات لهم كالشفاء أو العبقرية الفذة التي تعلو إمكانات البشر العاديين لينظروا إليهم نظرة علية في مقابل النظرة الدونية إلى الذات، ثم طريق التجلي.. تجلي المباين أو التأله –على طريقة فرعون-، أو عن طريق التغرير باسم الدين.
عبدالرحمن الكواكبي (1271 هـ / 1855م)
انطلق الكواكبي من مركزية حالة الاستبداد في تصوره “للاستخفاف” كمرتكز رئيس لهذه الحالة في تمددها والمحافظة على وجودها، فالمستبد لا يمكنه المحافظة على وجوده في السلطة والحكم والهيمنة، إلا من خلال وجود “العوام” الذين يتصفون بصفات نفسية وعقلية أبعد ما تكون عن التفكير في مواجهته، بل إن الاستبداد هو الذي يصرعهم وهم أحياء، يصرعهم في معاشهم وحاضرهم ومستقبلهم، فيعيش هؤلاء العوام كالمسخ بلا غاية تذكر.
ويصور الكواكبي هذه الحالة بين الحاكم والمحكومين في ظل الاستبداد من خلال تحديده لهذه الحالة بقوله: “الاستبداد هو: تَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، وقد تَطرأ مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة (استبداد) كلمات: استعباد، واعتساف، وتسلُّط، وتحكُّم. وفي مقابلتها كلمات: مساواة، وحسّ مشترك، وتكافؤ، وسلطة عامة. ويستعملون في مقام صفة (مستبدّ) كلمات: جبّار، وطاغية، وحاكم بأمره، وحاكم مطلق. وفي مقابلة (حكومة مستبدّة) كلمات: عادلة، ومسؤولة، ومقيّدة، ودستورية. ويستعملون في مقام وصف الرّعية (المستَبَدّ عليهم) كلمات: أسرى، ومستصغرين، وبؤساء، ومستنبتين، وفي مقابلتها: أحرار، وأباة، وأحياء، وأعزّاء.[6].
والاستبداد في ذلك له أداتان متكاملتان هما: جهالة الأمة، والجنود المنظمة ”لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء”.[7]، أما الجنود المنظمة “فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة، والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط وفكرة الاستقلال، وتكلف الأمة ما لا يطاق.. وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم”[8].
وهكذا يرادف الكواكبي بين نظرية الاستخفاف والاستعباد التي صاغها في هذا الشكل الحيوي والمعاصر لحالة شعوب ودول الأمة، وحلل فيها مسارات الاستبداد في تأسيس حالة الاستعباد لدى الرعية في مجالات: العلم والتربية والأخلاق والمال والمجد.
مالك بن نبي (1323هـ/1905م)
اختار مالك بن نبي أن الحضارة في مرحلة الغريزة تدل على اضمحلال الأمم وانحطاطها، حيث يصاب فيها الإنسان المُـستعمَر بداء “القابلية للاستعمار”، والسبب الرئيس في الحالة التي يحياها العالم الإسلامي نتجت عن ذلك “المريض الحقيقي وهو الإنسان المستعمَر، الإنسان الذي أصابه داء القابلية للاستعمار” [8]. وهذا الداء هو معوق كل نهضة في العالم الإسلامي، لذلك اقترح ضرورة بناء وضع جديد من خلال تصفية الاستعمار وأثره في الإنسان والمجتمع. وهذه القابلية للاستعمار تشبه تمامًا القابلية للاستخفاف في النظر القرآني, فكلا المسارين يحققان إنسانًا غائب الوعي عن حقيقة وجوده وأهدافه ورسالته ووظيفته الاستخلافية.
إن الخلاصة القيمية التي نود التنويه بشأنها هنا في نهاية هذا التحليل والمقاربة المعرفية لنظرية الاستخفاف في القرآن ونظائرها في الفكر البشري، هو أن لا قيام للضمير المسلم، إلا بالحرية، وأن المسلم يحق له، بل من الواجب عليه أن يرفض طاعة المستبد والطاغية أيًا كان مصدر سلطته التي تسلط بها، ومهما كانت قوته وأدواته التي يحتمي بها، فالحرية حق طبيعي، ومن الباطل الإنساني الاستيلاء عليه، أو حبسه، أو مصادرته.
—-
[1] المعجم الوسيط. ص247.
[2] لسان العرب، م3، ص165.
[3] الراغب الأصفهاني. مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص289.
[4] انظر: عبدالرحمن بن خلدون: المقدمة، الفصل السابع عشر، والرابع والعشرون.
[5] انظر: إتين دي لابويسيه، العبودية المختارة ، ترجمة مصطفى صفوان، طبعة الهيئة العامة للكتاب.
[6] انظر عبدالرحمن الكواكبي : طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، طبعة دار النفائس، ص 37.
[7] المرجع السابق، ص65
[8] المرجع السابق، ص 40
[9] مالك بن نبي. تأملات، ص133.
(المصدر: إسلالام أونلاين / مجلة المجتمع)