مقالاتمقالات مختارة

نظرات في يُسر الشريعة الإسلامية

نظرات في يُسر الشريعة الإسلامية

بقلم د. هاني بن عبدالله بن محمد الجبير

الشريعة الإسلامية جاءت بالتخفيف والتيسير ورفع المشقة والحرج، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»[1].

وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة»[2].

وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر»[3].

فهذه كلها أدلة على أن الشريعة الإسلامية شريعة سهلة يسيرة، وأن أي حكم خرج عن التسهيل والسهولة واليسر إلى ضده من المشقة والعنت والحرج، بمعنى: أنه خلاف السهولة واليسر؛ فهو ليس من الدين، فالشريعة الإسلامية جاءت برفع الحرج عن المكلفين بمراعاتها الظرف، والزمان، والمكان، والوضع الاجتماعي، والسياسي؛ الذي يعيش المكلفون فيه؛ فليس الحكم للقوي مثل الضعيف، ولا للآمن مثل الخائف، ولا منْ كان في حال السعة والاختيار كمن كان في حال الحاجة والاضطرار.

ولذا؛ كان من قواعد الفقه الأساسية: المشقة تجلب التيسير، وهذه القاعدة ليس المراد منها: أن في هذا الدين عسراً، وإنما المراد: أنه قد يطرأ عسر ومشقة في ظروف الإنسان المكلف يستوجب التخفيف والتيسير.

مثال ذلك: فرض الله تعالى الصلاة والصيام علينا، وليس فيها مشقة في حالة الاعتياد، فيستطيع الإنسان أن يصوم وأن يصلي الصلاة في وقتها، فيصليها أربع ركعات، لكن قد تدخل المشقة على المكلف بسبب ظرف السفر، فاستوجبت حصول نوع من التيسير، وهو تخفيف الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والإذن بالجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما فيما يجمع بعضه لبعض، وأن يؤذن له بالفطر في السفر على أن يقضيه بعد ذلك.

فهذا نوع من التيسير لحق بالمكلف بسبب ظرف أصابه، وإلا فالشريعة كلها يسر وسهولة؛ لذلك فعلى من يدعو إلى التيسير في الأحكام الشرعية أن يعلم ولا بد وأن يستقر عنده أن الشريعة بوضعها الذي أنزله الله تعالى على نبيه كلها يسر وسهولة، فإن الله تعالى رفع عن هذه الأمة ما كان على الأمم السابقة من الإصر والأغلال والحرج، فليس في هذه الشريعة مشقة حتى يأتي من يطالب بالتيسير فيها.

يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (فعموم الشريعة لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان، ولم يبيّنوا كيفية هذه الصلوحية؛ وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:

الكيفية الأولى: أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.

الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة)[4].

معنى المشقة وأنواعها:

وليتضح المقصود بتخفيف الشرع عند ورود المشاق، نحتاج إلى أن نتبيّن معنى المشقة في التكليف. والمشقة ترد على أمرين:

الأول: ترد على الظروف التي تصيب الإنسان من مرض وفقر وغير ذلك.

الثاني: ترد على التكليفات نفسها.

وعلى هذا تأتي المشقة على مرتبتين:

الأولى: مشقة لا يقدر عليها المكلف وتخرج عن قدرته، وما كان كذلك فلا يكلف به الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

الثاني: مشقة يقدر عليها المكلف، لكن بحرج وصعوبة تخرج عن المعتاد، فهذه المشقة التي تخرج عن المعتاد إذا وجدت في أفعال مخصوصة (كالصوم في السفر مثلاً)، فإن الله تعالى شرع فيها التيسير.

أما الأفعال الكلية فليس في تشريعها مشقة، ولا يمكن أن تكون الأفعال الكلية التي جاءت بها الشريعة فيها مشقة، فلا يمكن أن تكون في الصلوات الخمس المفروضة أو الوضوء أو الصيام أو الزكاة مشقة، لكن قد ترد المشقة في النوافل إذا أكثر منها الإنسان؛ ولذلك أمر الشرع المكلف بالتوسط والاعتدال فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا»[5]؛ لأن النوافل قد ترد فيها مشقة خارجة عن المعتاد في أفعال كلية، فلذلك أمرهم النبي – عليه الصلاة والسلام – بلزوم التوسط والاعتدال بألا يدخلوا على أنفسهم المشقة بفعل كلي من أفعال النوافل، لكن مجرد الفرائض ليس فيها مشقة.

كذلك النوافل على الوجه الذي ليس فيها مبالغة ليس فيها مشقة، وحد المبالغة في النوافل يتفاوت بينها وليس له ضابط، لذلك النبي – عليه الصلاة والسلام – قال للأعرابي الذي قال: والله لا أزيد على الفرائض. قال: «أفلح إن صدق»[6]. وقال لابن عمر: «يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل»[7].

والمشقة المعتادة هي: التي لا يؤدي الاستمرار عليها إلى الانقطاع عن العمل، أو الانقطاع عن بعضه، أو الإخلال بالمكلف.

فالانقطاع عن العمل معناه: أن يصيب الإنسان الملل والسأم والفتور، أو الانقطاع عن بعضه فلا يكمله، أو الإخلال بالمكلف، بمعنى: أن يؤثر على حقوق أخرى مطالب بها، لذلك في قصة سلمان وأبي الدرداء لما أراد أن يقوم فأمره بالنوم، وأراد أن يصوم فأمره بالفطر، قال: «إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً»[8]، فأمره بمقتضى التوسط الذي لا يدخل الإخلال على المكلف.

وكذلك: «لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بألا يختم القرآن في كل ليلة، وألا يصوم كل يوم»[9]؛ لأنه يؤدي به هذا إلى الانقطاع عن العمل، كما وقع منه رضي الله عنه في آخر حياته.

عن َعبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ قُلْتُ وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قال في فتح الباري[10]: (قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَبِرَ وَعَجَزَ عَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اِلْتَزَمَهُ وَوَظَّفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَشَقَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِعَجْزِهِ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِالْتِزَامِهِ لَهُ، فَتَمَنَّى أَنْ لَوْ قَبِلَ الرُّخْصَةَ فَأَخَذَ بِالْأَخَفِّ، قُلْت: وَمَعَ عَجْزِهِ وَتَمَنِّيه الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ لَمْ يَتْرُكْ الْعَمَلَ بِمَا اِلْتَزَمَهُ، بَلْ صَارَ يَتَعَاطَى فِيهِ نَوْع تَخْفِيف كَمَا فِي رِوَايَة حُصَيْنٍ: « وَكَانَ عَبْد اللَّه حِين ضَعُفَ وَكَبِرَ يَصُوم تِلْكَ الْأَيَّام كَذَلِكَ يَصِلُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْض ثُمَّ يُفْطِر بِعَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّام فَيَقْوَى بِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُول: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْت الرُّخْصَة أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَدَلَ بِهِ، لَكِنِّي فَارَقْته عَلَى أَمْر أَكْرَه أَنْ أُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ).

لكن لو أن إنساناً يلتزم نوافل لا تؤدي به إلى الانقطاع عن العمل، فلا حرج عليه، وهذا يتفاوت بين الناس، ولذلك نجد فعل السلف في تفاوتهم في الأخذ بالعبادات، وتفاوتهم في التشديد والتيسير على أنفسهم؛ نعرف أن مرده إلى هذا، فمن الناس من يكون تحمّله أكثر فلا تكون هذه العبادة التي يفعلها من قبيل المشقة الخارجة عن المعتاد، ومنهم من يكون تحمّله أقل فيكون فعله خارجاً عن المعتاد، فيلزم أن يترك فعله إلى ما هو أقل منه.

قال ابن تيمية: (وَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ بِحَسَبِ حَالِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؛ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ أَوْ لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ مَزِيدِ عَمَلِهِ وَحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ يَنْتَفِعُ بِالدَّوَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ ذَلِكَ أَفْضَلَ)[11].

وقد ترد المشقة بمعنى: المشقة التي لا تخرج عن المعتاد، فمجرد خروج الإنسان من بيته وذهابه إلى المسجد فيه مشقة، بمعنى أن الأسهل له الجلوس في بيته.

وكذلك مجرد امتناع الإنسان عن الطعام والشراب وبقية المفطرات من طلوع الفجر إلى المغرب فيه مشقة، لكنها ليست خارجة عن المعتاد.

والمشقة بهذا الاصطلاح تأتي بها التكاليف ولا يشرع فيها تخفيف، بل لا تقوم حياة أحد إلا بمثل هذه المشقة، فمجرد عمله في الدنيا وسعيه فيها فيه مشقة، ومجرد حياته المعتادة فيها مشقة، فكذلك التكليفات الشرعية قد جاءت بمثل هذه المشقة التي لا تخرج عن المعتاد، وإلا لو لم تكن هذه المشقة موجودة لكان الناس كلهم طائعين، ولما وجد عاصٍ في هذه الدنيا.

وتأتي المشقة بمعنى: خروج المكلف عن مقتضى هواه وغرائز شهوته، فهذه المشقة جاءت الشريعة بها ولا يعذر المكلف بوجودها، فمجرد هواه ورغبته وميله لا يكون سبباً للتخفيف، والمشقة هنا جاء الشرع بعدم الالتفات إليها كما قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71]، وقال النبي – عليه الصلاة والسلام -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»[12]. ومن تأمل الشرع وجد أن كثيراً من أحكامه تنصب في إخراج المكلف من دائرة هواه ودواعي ونوازع شهوته.

فيتلخّص مما سبق: أن المشقة ترد بمعنى: المشقة المعتادة، والمشقة التي هي إخراج الإنسان عن هواه، ولا ترد بمعنى: خروج الإنسان عن المعتاد، ولا بما لا يقدر عليه.

أما المشقة التي تعني الظروف التي تصيب الإنسان فهي على قسمين:

القسم الأول: مشقة عظيمة تخرج عن المعتاد، مثل: إنسان يريد أن يصلي في المسجد وفي طريقه إلى المسجد ظالم يريد أن يأخذه، فهذه مشقة خارجة عن المعتاد، وقد جاء الشرع بالتخفيف والتيسير فيها.

القسم الثاني: المشاق اليسيرة، وهي ليست على درجة واحدة، فمنها: صداع يسير يصيب الإنسان، أو ألم في بعض أصابعه، فهذا لا يقتضي التيسير.

فإذا كان في الطريق من بيته إلى المسجد لصلاة الجماعة مطر وخروجه يؤدي به إلى أن تبتل ثيابه، فالمطر مشقة يترك الجماعة بسببها، فإذا قيل: ما الفرق بينها وبين الصداع اليسير؟ نقول: هذه المشاق جاء فيها نص من الشارع فنقف عنده، وهو: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: ألا صلوا في رحالكم»[13].

أما ما لم يرد فيه نص من الشارع فترجع إلى ما تقدم من تفاوت واختلاف المكلفين، وهذه ليس فيها ضابط، بل كل إنسان ينظر في نفسه، وكل إنسان يكون فقيه نفسه.

وحاصل ما سبق أن المشاق الواردة على الإنسان: إما أن تكون مشاقاً عظيمة تستدعي التخفيف، وإما أن تكون قد ورد الشرع بالتخفيف والتيسير فيها، مثل: السفر والمطر، فهذا مورد للتخفيف، سواء كان شاقاً أو لا، وما لم يرد فيه نص فإنه يرجع اعتباره إلى حال الإنسان؛ لذا قال الشاطبي: (الرخصة إضافية لا أصلية)[14]، بمعنى: أن ينظر فيها باعتبار كل شخص، فكل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه، ما لم يوجد فيها حد شرعي، فإذا وجد الحد الشرعي انتهينا إليه، ولذلك قال الناظم:

والقول في ضبط المشاق مختلف

بحسب الأحوال فيما قد عرف

وإذا تأملنا موقف الإمام أحمد، فمن المعلوم أن من أُكره على قول كلمة كفر يباح له أن يقولها، فلما جاء يحيى بن معين إلى الإمام أحمد بعد اندفاع فتنة القول بخلق القرآن، وكان يحيى بن معين – رحمه الله تعالى – قد أجاب في هذه الفتنة بقصد التخلص من هذا الأذى الذي أصابه؛ امتنع الإمام أحمد عن محادثته تأنيباً له، فالإمام أحمد لم يجعل فعل يحيى بن معين محل رخصة، بل هجره على هذه الكلمة، فقال له يحيى بن معين: (عمار بن ياسر أكره على كلمة الكفر).

ومع ذلك لم يرخص له الإمام أحمد؛ لأنه يقول: هذه الأمور ترجع إلى تفاوت الناس، فمن الناس من لا يتكلم بكلمة الكفر ولو أكره، وقال: يحتج بحديث عمار وحديث عمار مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم، أي أن عمار ضُرِب، وأنتم قيل لكم ستُضربون[15].

لذلك لما جاءه عبدالرحمن بن مهدي وقال له وقت الفتنة وهو يعذب: (يا أبا عبد الله! عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور. كأنه يسهل عليه الإجابة. فقال الإمام أحمد: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت)[16]، أي: إذا كان هذا مستوى تفكيرك فقط أنك تبحث عن رخصة فأنت مرتاح، ثم قال له: اخرج فانظر، فخرج فرأى طلاب العلم معهم القراطيس والأقلام يكتبون ما يقوله الإمام أحمد، قال: أؤضل كل هؤلاء؟! أي: فيحسبون أن هذا هو اعتقاد السلف وهو منهجهم فيقفون عنده.

الاستطاعة شرط للتكليف:

ومن أوجه يسر هذه الشريعة أن تكليف الله تعالى للعباد لا يكون إلا بما يقدرون عليه، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[17]، فالذي لا يستطيعه الإنسان لا يجب عليه؛ لأن الله تعالى يمكن أن يكلفنا بشيء لا نقدر عليه.

فلو جاء الشرع بتكليف ما لا يدخل تحت قدرة العبد – لو فرض هذا -، فالتحقيق أن التكليف إنما وقع بسوابق هذا الفعل غير المقدور أو بلواحقه وليس التكليف به هو.

مثال ذلك: قول الله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، أي: أمرك بالموت وأنت مسلم، فجلب الإنسان الموت لنفسه مما لا يدخل تحت قدرته، وإنما المراد: الشيء السابق عليه، وهو: أن تدخل في الإسلام حتى يجيء الموت وأنت عليه.

كذلك: الأمر بحب من أمرنا الله تعالى بحبه، وبغض من أمرنا الله تعالى ببغضه، فالحب والبغض لا يتحكم الإنسان فيهما، فلا يقدر أن يبغض ويحب كما يريد.

إذاً: التكليف يكون في مثل هذه الأمور بالسوابق وباللواحق، والسوابق معناها: التأمل في فضل هذا الإنسان الذي أمرنا بحبه، وفي إحسانه، وفي سبقه، وفي مزاياه، ومحاسنه؛ حتى يورث هذا التأمل محبته.. وكذلك بلواحقه، فإذا أحببنا النبي صلى الله عليه وسلم اتبعنا هديه، وإذا أحببنا أبا بكر وعمر ترضينا عنهما ودعونا لهما.

ولذا يقرر الشاطبي أن الإنسان لو تعاطى السوابق واللواحق ولم يتمكن من تعاطي الفعل نفسه الذي وقع عليه التكليف، وهو غير مقدور عليه؛ فإنه لا يؤاخذ، مع أنه لا يتصور هذا عقلاً[18].

فمثلاً: لو تعاطى الإنسان أسباب المحبة، وتأمل الفضل، وتأمل السبق، وتأمل الإحسان، ثم ترضى عمن أمرنا بحبه، لكن لم تقع في قلبه محبة؛ فهو غير آثم، مع أن هذا غير متصور عقلاً؛ إذ إن كل من تأمل محاسن أحد فإنه لا بد أن يورث هذا التأمل في قلبه المحبة.

وبعدما ذكر هذه القاعدة قال رحمه الله: (وهذا باب من الفقه من أدركه وفهمه حل له كثيراً من المعضلات، وبخاصة في أبواب أعمال القلوب والمقاصد والنيات؛ لأن من الأمور ما تكون داخلة على الإنسان اضطراراً، مثل: الحسد وحب الدنيا وحب الجاه والكبر، فهذه أحياناً تدخل على الإنسان اضطراراً، بمعنى: أنه لا يستطيع أن يتخلص من الحسد، لذلك قيل: ما خلا جسد من حسد، لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه.

ولما سئل بعض السلف: أيحسد المؤمن؟ قال: «لا أباً لك، أما أنساك بني يعقوب!»[19]، فأخوة يوسف حسدوه – عليهم السلام -).

فالإنسان هنا يكون مطالباً فقط بالسوابق واللواحق.

فمثلاً: إذا حسد فهو مطالب بألا يعتدي وألا يبغي وألا يظلم وألا يتكلم بالشر، وأيضاً مطالب قبل ذلك بألا يتمنى زوال النعمة عن أخيه، وأن يعترف بنعمة الله تعالى عليه، وأن الله تعالى منعه لحكمة عظمية فيه.

مثال آخر: إنسان رأى امرأة حسناء بغير قصد منه فوقعت محبتها في قلبه، وهو رآها نظرة واحدة فصرف بصره عنها؛ فهو هنا ليس مكلفاً ومؤاخذاً بما يقع في نفسه من المحبة، وإنما هو مكلف ومؤاخذ بلواحق المحبة، أي: أنه مأمور بالتعفف، والبعد عن مواضع الريبة، والبعد عن المجاهرة بالسوء، والبعد عن الجلوس لها أو الارتباط بها إلا بالحلال.

وعموماً نقول: إنه لا يجب على الإنسان شيء إلا إذا كان تحت قدرته، وأما ما لا يقدر عليه فإنه غير مكلف به.

وبعد.. فهذه نظرات في بعض من وجوه عظمة التشريع الإسلامي، وموافقته مقتضى الفطرة البشرية، وما تتصف به من توسّط بأتباعها بين الغلو والجفاء، آخذة بأبنائها طريقاً لا يقطعهم عن نيل مقاصدهم البشرية، ولا يقعدهم عن تبتلاتهم الروحية، مشبعة حاجة الجسد والروح في تناسق مبهر واتساق فريد.

اللهم يا مقلب القلوب ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك.

:: مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر – نوفمبر  2013م.

[1] أخرجه البخاري (217)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] مسند أحمد (22345)، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

[3] صحيح البخاري (39).

[4] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 92 – 93.

[5] أخرجه البخاري (1100)، ومسلم (782) واللفظ له، عن عائشة رضي الله عنها.

[6] أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11)، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

[7] أخرجه البخاري (1101) واللفظ له، ومسلم (1159).

[8] أخرجه البخاري (1867) واللفظ له، عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله رضي الله عنه، ومسلم (1159)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

[9] انظر: صحيح البخاري (1875)، صحيح مسلم (1159).

[10] (6 /246 ) باب حق الجسم في الصوم.

[11] مجموع الفتاوى (25/311).

[12] أخرجه البغوي في شرح السنة (1/212-213)، وابن أبي عاصم في السنة (1/12).

[13] أخرجه مسلم (697)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[14] الموافقات (1/314).

[15] طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/164).

[16] الآداب الشرعية لابن مفلح (2/25).

[17] أخرجه البخاري (6858) واللفظ له، ومسلم (1337)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[18] انظر: الموافقات (2/108).

[19] أخرجه ابن السري في الزهد (2/642) واللفظ له. وانظر: التمهيد (6/126)، وتفسير القرطبي (9/138).

المصدر: مجلة البيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى