نضال الفقهاء في قضية المرأة .. بقلم أ. حماد القباج
يظن كثيرون بأن ما وصلت إليه المرأة المغربية اليوم من مكتسبات إنما هو بمجهود ونضال الحركات النسائية ذات (الأيديولوجية) العلمانية بشقيها اليساري والرأسمالي ..
وقد يصل البعض إلى حد الادعاء بأن الإسلام وعلماءه لم يقدموا شيئا معتبرا في هذه النهضة المعاصرة ..
وقد كتبت هذه المقالة للبرهنة على أن التاريخ يشهد بخلاف هذا؛ ويثبت بأن حركة الفقهاء المغاربة سبقت حركة النساء الشيوعيات والليبراليات بأكثر من أربعة عقود ..
الفقيه الحجوي (الأب) (ت 1956):
كان أول مثقف مغربي دعا لمقاومة أبرز عوامل تخلف المرأة المغربية وأهم أسباب انحطاط وضعيتها؛ ألا وهو الجهل والأمية؛ جاعلا من الدعوة إلى تعليمها إحدى أهم مشاريعه الإصلاحية التي ناضل من أجلها؛
ففي سنة 1925 ألقى بمعهد الدروس العليا بالرباط: محاضرة مطولة يحث فيها المغاربة على تعليم بناتهم، ويجيب عن الشبهات التي تحول بينهم وبين ذلك باسم الدين والعادات!
ثم كتب في الموضوع كتابا نافعا سماه: “تعليم الفتيات لا سفور المرأة”.
وهو مخطوط محفوظ في الخزانة العامة بالرباط بخط المؤلف تحت رقم (205).
ثم طبعه الأستاذ سعيد بن سعيد العلوي ضمن وثائق كتابه “الاجتهاد والتحديث”.
ثم طبع بعناية الدكتور محمد بن عزوز سنة 2004.
كما عمل الحجوي الأب من خلال منصبه في وزارة المعارف على تفعيل وتنزيل هذه الدعوة على أرض الواقع.
وقد لقي موقفه الإصلاحي معارضة سياسية ودينية شديدة؛ ومن ذلك أنه لما ألقى محاضرته الرباطية في الدعوة لتعليم المغربيات عارضته بعض الشخصيات، في مقدمتها الصدر الأعظم المقري، ووزير العدلية أبي شعيب الدكالي؛ الذين اعتبرا تعليمها بدعة وضررا للمجتمع ومصدرا للفساد، مما اضطر الحجوي إلى قطع محاضرته والانصراف.
ويذكر الحجوي أنه بقي إلى سنة 1949 ممنوعا على لسان الصدارة من تفقد مدارس البنات (كتاب تفقد مدارس البنات للحجوي مخطوط).
ومع ذلك مضى ولم يلتفت؛ وقد نقلت عنه في إحدى مقالاتي نقولات تجلي فكره الإصلاحي وتبرز مواقفه الداعية لإصلاح وضعية المرأة والارتقاء بمستواها ومكانتها وأدوارها الحيوية في التقدم والتنمية.
الفقيه محمد بلعربي العلوي (ت 1964):
سبق أن وضحت في كتابي عن حياة هذا الفقيه؛ أن هذا الأخير – بصفته من مؤسسي الحركة الوطنية وزعماء الإصلاح- كان له دور مهم في التوجيه نحو البناء التنموي للبلد؛ والذي يشكل فيه التعليم –ومنه تعليم المرأة- حجر الأساس.
وفي إبراز دوره المحوري في بعث حركة تعليمية نسائية في المغرب بعد الاستقلال؛ وثّقْتُ عنه؛ أنه قال للسلطان محمد الخامس: “الاستقلال سنناله بإذن الله، لكن ما بالك إذا حكمت مغربا المرأةُ فيه أمية؟!
عليك –يا سيدي- بتعليم المرأة؛ فلا ينبغي أن تكون الأم جاهلة فإنها لن تتمكن من تنشئة أجيال البناء.
قالت السيدة عائشة ابنة الفقيه بلعربي: “ومن هنا شجع الفقيه تعليم المرأة؛ ومن ذلك تشجيعه فتح الملك لمدرسة لبنتيه للاعائشة وللامليكة”.
وأول مدرسة فتحت لتعليم المرأة؛ فتحها حزب الاستقلال في شارع بن عبد الله بفاس.
فقام الحزب بجمع النساء، وحضرت الأميرة عائشة وعليها خمار بدون تغطية الوجه، وعن شمالها مربيتها الفرنسية، وعن يمينها الفقيه بلعربي”.
قالت: “أراد الملك محمد الخامس أن يجعل من هذا المشهد رمزا على أن المغرب منفتح على الحضارات وعلومها النافعة، وفي الوقت نفسه متشبث بدينه وأصالته، وكان ذلك بتوجيه من الفقيه التي كانت مرافقته للأميرة المقصود منها إزالة الشبه عن المغاربة الذين يمتنعون من تدريس بناتهم باسم الدين والحياء”.
قالت ابنة شيخ الإسلام: “وكان يقول لهم: “علموا بناتكم؛ فإن الأم إن لم تتعلم لم يتعلم أبناؤكم“.
قالت السيدة عائشة: “ثم واصلت الأميرة إلقاء خطاباتها في مختلف المدن المغربية (الرباط وسلا والدار البيضاء ومراكش وطنجة ..)، وفي كل موطن كان يحضر معها شيخ الإسلام رحمه الله”.
يقول أحمد الأزمي: “في إطار اهتمام شيخنا بمواطنيه رجالاً ونساء، ورغم شدته في المحافظة على تعاليم الإسلام، فإنه عمل من أجل إخراج المرأة من غياهب الجهل التي كانت تعيش فيها، ولهذه الغاية ألقى مجموعة من المحاضرات في ضرورة تعليم الفتاة المربية“[1].
كما أوردت في الكتاب المذكور؛ الشهادات الموثِّقة لمشاركة شيخ الإسلام مشاركة فعلية في تعليم المرأة؛ من خلال تدريسه في عدد من المدارس الخاصة ..
ومن الجدير بالبيان أن هذا الموقف لم يكن استثنائيا، ولم يكن مقتصرا على موضوع التعليم؛ بل كان موقف عدد من الفقهاء المصلحين الذين آمنوا بضرورة إصلاح وضعية المرأة والارتقاء بحالها وتمتيعها بكل ما لها من حقوق، في مقابل فقهاء آخرين اتخذوا مواقف تبدو اليوم ظاهرة الخطأ؛ بسبب تغليبهم غير المتوازن لمأخذ سد الذرائع المفضية إلى مفسدة الفتنة ..
الفقيه الحجوي (الابن) (ت 1968):
لقد أصدر هذا الفقيه سنة 1938 محاضرة طبعها في كتاب بعنوان: “المرأة بين الشرع والقانون“.
وهو عبارة عن وثيقة حقوقية متقدمة جدا في مضمونها؛ وذلك أن أول تقرير أممي طالب بالحقوق السياسية للمرأة؛ هو تقرير المؤتمر العالمي للمرأة المنعقد في نيروبي سنة 1985م؛ والذي جاء فيه: “ينبغي تشجيع النساء على ممارسة حقهن في الانتخاب وترشيح أنفسهن والاشتراك في العملية السياسية بكل مستوياتها”.
وقد سبق الفقيه إلى هذه المطالبة بخمسين سنة؛ ومن ذلك قوله: “رأيي أن المرأة في الإسلام يجوز أن تكون ناخبة ومنتخبة؛ لأن الإسلام أعطاها ذلك الحق حيث جعلها شقيقة الرجل في الأحكام“.
قال: “ويرد على هذا أن المرأة إذا ولجت البرلمان ربما انتخبت رئيسة للوزراء أو رئيسة للجمهورية؟
والجواب عن ذلك أنه على فرض وقوعه فإنه لا يبلغ بها درجة الخلافة الممنوعة هي منها؛ إذ رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة ليست خلافة عامة“.
وإذا كان دستور 2011 في المغرب يبوأ المرأة المغربية منزلة حقوقية متقدمة؛ حيث ينص الفصل 19 من الباب الثاني الذي حمل عنوان:”الحريات والحقوق الأساسية”؛ على أن “الرجل والمرأة يتمتعان على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب.
وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”.
إذا كان الأمر كذلك؛ فإن الوثيقة التي حررها الحجوي تدل على أن المغرب كان له فقهاء كان بإمكانهم المشاركة في وضع دستور وقوانين متفوقة في وقت مبكّر جدا؛ لولا عوامل التخلف التي رانت على الواقع السياسي في ذلك الإبّان، والتي رسخها الاحتلال الفرنسي الذي زاد المغرب رهقا وتخلفا، والذي كان من مطالبه: إقصاء الشريعة وفقهائها من المجال السياسي ..
وهكذا فقد بيّن فقيهنا الحقوق المدنية للمرأة في الفقه الإسلامي مقارنا له بالقانون الفرنسي في ذلك الوقت، وتحدث عن الحقوق الأسرية بمنهجية أوسع من تلك المعتمدة في وضع مدونة الأحوال الشخصية المحررة بعد الاستقلال، وتحدث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل متقدم جدا على آخر ما وصل إليه الفكر الإنساني في ذلك الوقت.
أما الحقوق السياسية فقد تحدث عنها بتفصيل وتأصيل قبل أن يشم رائحتها القانون الدولي وقوانين الدول الغربية آنذاك.
الفقيه علال الفاسي (ت 1974):
له في المسألة النسائية عددا من المقالات؛ منها: “حقوق المرأة المدنية” التي ضمّنها كتابه “النقد الذاتي” (ص: 299- 303)؛ أقتبس منها قوله: “حقوق المرأة المسلمة المدنية تفوق حقوق كل امرأة في مختلف القوانين والحضارات القديمة والمحدثة.
والمراد بالحقوق المدنية ما يشمل حق التملك والتدبير والتصرف وتكوين العلاقات في المسائل العامة وما إلى ذلك كله.
وقد تطور حال المرأة في التاريخ بالنسبة لهذه الناحية تطورا عديدا كان آخر أمره أن ظفرت المرأة بقسط من المساواة مع الرجل في كثير من جوانب الحياة.
ولكن هذا الإصلاح لم يظهر في شريعة الرومان أو اليونان أو المسيحية أو اليهودية.
وإنما ظهر بفضل الإسلام الذي أنكر على الأمم كلها سوء معاملتها للمرأة وظلمها“.
قال: “وقد خول الإسلام للمرأة الحق في أن تتولى كثيرا من الوظائف والشؤون العامة باستثناء الإمامة الكبرى والقضاء عند المالكية، وخول لها أن تشارك في الاجتهاد والتقنين، وتبدي رأيها في كل مشاكل المجتمع والبلاد“.
قال: “إن الانحطاط الذي أصاب المغرب والعالم الإسلامي رجع بالمرأة إلى الدرجة القصوى من التأخر حتى أصبحت مجرد متعة يتلهى بها.
ومع ذلك فقد ظلت الشريعة الإسلامية حارسة لحقوقها من الوجهة النظرية، إلا أن المجتمع المنحط كان يقف عرقلة في طريق كل تطبيق للشريعة نفسها، كما أن جهل المرأة والجو الذي وضعت فيه أولا ثم رضيت به ثانيا عاقها عن كل تطور في صالحها أو دفاع عن مكانها“.
إن ما تقدم غيض من فيض جهود حركة الفقهاء ونضالهم من أجل قضية المرأة؛ والتي سبقوا فيها الحركة النسائية العلمانية ب: 50 سنة؛ فإن حزب الاتحاد الاشتراكي لم يؤسس قطاعه النسائي إلا عام 1975م.
ثم أسست نساؤه بعد ذلك (سنة 1996م) جمعية نسائية أطلق عليها اسم: “جسور ملتقى النساء المغربيات”.
وقد أشار دليل صادر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون إلى الديناميكية التي عرفتها الحركة الجمعوية المهتمة بالمرأة واتساع تنوع مجالات تدخلها، وحصر عددها في 76 جمعية نسائية ظهرت 5,87% منها في الثمانينات و32% سنة 1992.
وقد رافق تأسيسها: صدور عقد الأمم المتحدة لسنة 1975 كسنة دولية للمرأة، وإعلانها عن جعل العشرية 1975- 1985 خاصة بها.
وفي هذا السياق برزت جمعية “اتحاد العمل النسائي” بعدما ظلت عضواتها لمدة تمثل القطاع النسوي لحزب “منظمة العمل الديمقراطي الشعبي”.
ولقد فصلت في هذا الموضوع في دراستي عن كتاب الفقيه الحجوي؛ لمن أراد التوسع ..
إن هذه المقالة لا تهدف إلى بخس مجهودات الحركة النسائية؛ بقدر ما تتوخى إرجاع الاعتبار لمجهودات الفقهاء ..
[1]– من مقالة له بعنوان: “الشيخ محمد بن العربي العلوي العالم العامل والسلفي المناضل ضد الجهل والاستعمار”، نشرت في مجلة دعوة الحق؛ العدد 5، سنة 2001.
(المصدر: موقع أ. حماد القباج)