كتب وبحوث

نشأة القوميَّة في مجتمع بني إسرائيل بين الكتاب المقدَّس والقرآن الكريم 2من 6

نشأة القوميَّة في مجتمع بني إسرائيل بين الكتاب المقدَّس والقرآن الكريم 2من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

تسلُّل الفكر القومي الاستعماري إلى عقيدة بني إسرائيل

بعد موسى وأخيه هارون، صار النَّبيُّ يشوع بن نون، “خادم” موسى، وصيَّه، عملًا بأمر الرَّبّ “فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «خُذْ يَشُوعَ بْنَ نُونَ، رَجُلًا فِيهِ رُوحٌ، وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ…وَاجْعَلْ مِنْ هَيْبَتِكَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَسْمَعَ لَهُ كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيل…فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. أَخَذَ يَشُوعَ وَأَوْقَفَهُ قُدَّامَ أَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ وَقُدَّامَ كُلِّ الْجَمَاعَةِ. وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَأَوْصَاهُ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنْ يَدِ مُوسَى” (سفر العدد: إصحاح 27، آيات 18-23). وبعد موت موسى، خاطب الرَّبُّ يشوع “وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَبْدِ الرَّبِّ أَنَّ الرَّبَّ كَلَّمَ يَشُوعَ بْنِ نُونٍ خَادِمَ مُوسَى قَائِلًا: «مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَالآنَ قُمِ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى” (سفر يشوع: إصحاح 1، آيات 1-3). يأمر الرَّبُّ يشوع بدخول الأرض المقدَّسة مع شعب إسرائيل “قُمِ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ”، بل وباستيطان أيّ بقعة تدوسها أقدام بني إسرائيل “كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ“.

وانطلاقًا من هذا الأمر من ربّ الجنود إله إسرائيل، استخدم بنو إسرائيل القوَّة المفرطة في إخضاع أعناق ملوك أرض كنعان، حتَّى أسقطوهم، كما يخبر سفر يشوع: “فَقَالَ يَشُوعُ: «افْتَحُوا فَمَ الْمَغَارَةِ وَأَخْرِجُوا إِلَيَّ هؤُلاَءِ الْخَمْسَةَ الْمُلُوكِ مِنَ الْمَغَارَةِ». فَفَعَلُوا كَذلِكَ، وَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ أُولئِكَ الْمُلُوكَ الْخَمْسَةَ مِنَ الْمَغَارَةِ: مَلِكَ أُورُشَلِيمَ، وَمَلِكَ حَبْرُونَ، وَمَلِكَ يَرْمُوتَ، وَمَلِكَ لَخِيشَ، وَمَلِكَ عَجْلُونَ. وَكَانَ لَمَّا أَخْرَجُوا أُولئِكَ الْمُلُوكَ إِلَى يَشُوعَ أَنَّ يَشُوعَ دَعَا كُلَّ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لِقُوَّادِ رِجَالِ الْحَرْبِ الَّذِينَ سَارُوا مَعَهُ: «تَقَدَّمُوا وَضَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَلَى أَعْنَاقِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ». فَتَقَدَّمُوا وَوَضَعُوا أَرْجُلَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ يَشُوعُ: «لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْتَعِبُوا. تَشَدَّدُوا وَتَشَجَّعُوا. لأَنَّهُ هكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ بِجَمِيعِ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ تُحَارِبُونَهُمْ»” (سفر يشوع: إصحاح 10، آيات 22-25). وتخبرنا أسفار موسى أنَّ الرَّبَّ قد أمره أن يُخرج بني إسرائيل من مصر، شفقةً منه على ما كانوا يلاقونه على يد الفرعون من بطش واضطهاد “وَقَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. هذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهذَا ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. اِذْهَبْ وَاجْمَعْ شُيُوخَ إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمُ: الرَّبُّ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ظَهَرَ لِي قَائِلًا: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُكُمْ وَمَا صُنِعَ بِكُمْ فِي مِصْرَ. فَقُلْتُ أُصْعِدُكُمْ مِنْ مَذَلَّةِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا” (سفر الخروج: إصحاح 3، آيات 15-17).

ويتَّضح من إشارة الرَّبّ إلى نفسه في إصحاح 3 من سفر الخروج بـ “يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ” (آية 15)، و “الرَّبُّ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ” (آية 16)، و “الرَّبُّ إِلهُ الْعِبْرَانِيِّينَ” (آية 18) تكريس الرَّبّ العنصريَّة، وإثارته النَّزعة القوميَّة في بني إسرائيل، بأن اختصَّهم بربوبيَّته دون سائر الأمم الأخرى، وكأنَّما هو إلههم وحدهم، وليس إله “الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ“. ومن الإعجاز الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن أبطل اللهُ تعالى تلك النَّزعة القوميَّة بقوله لموسى في بداية بعثته النَّبوَّيَّة، وهو في طريقه إلى مصر من أرض مدين، بأن رسَّخ مبدأ شموليَّة ربوبيَّة للخلق أجمعين، دون تمييز أمَّة عن غيرها، في أوَّل عبارة قالها لموسى “إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كما تخبرنا سورة القصص “فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)” (سورة القصص: آيتان 29-30). نفَّذ موسى أمر الرَّبّ، وبلَّغ رسالته لبني إسرائيل، الذين ما كان منهم إلَّا أن آمنوا به بعد ما رأوا من الآيات على يد موسى، كما تخبر الآيات “مَضَى مُوسَى وَهَارُونُ وَجَمَعَا جَمِيعَ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَتَكَلَّمَ هَارُونُ بِجَمِيعِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى بِهِ، وَصَنَعَ الآيَاتِ أَمَامَ عُيُونِ الشَّعْبِ. فَآمَنَ الشَّعْبُ. وَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ الرَّبَّ افْتَقَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ نَظَرَ مَذَلَّتَهُمْ، خَرُّوا وَسَجَدُوا” (سفر الخروج: إصحاح 4، آيات 29-30).

أمَّا عن سبب غضب الرَّبّ على الأمم الأخرى التي كانت تسكن الأرض المقدَّسة، فقد ذُكر في أكثر من موضع في أسفار موسى الخمسة، منها “تُخْرِبُونَ جَمِيعَ الأَمَاكِنِ حَيْثُ عَبَدَتِ الأُمَمُ الَّتِي تَرِثُونَهَا آلِهَتَهَا عَلَى الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ، وَعَلَى التِّلاَلِ، وَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ. وَتَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ، وَتُحْرِقُونَ سَوَارِيَهُمْ بِالنَّارِ، وَتُقَطِّعُونَ تَمَاثِيلَ آلِهَتِهِمْ، وَتَمْحُونَ اسْمَهُمْ مِنْ ذلِكَ الْمَكَانِ” (سفر التَّثنية: إصحاح 12، آيتان 2-3)، و “وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى فِي عَرَبَاتِ مُوآبَ عَلَى أُرْدُنِّ أَرِيحَا قَائِلًا: «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَتَطْرُدُونَ كُلَّ سُكَّانِ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ، وَتَمْحُونَ جَمِيعَ تَصَاوِيرِهِمْ، وَتُبِيدُونَ كُلَّ أَصْنَامِهِمِ الْمَسْبُوكَةِ وَتُخْرِبُونَ جَمِيعَ مُرْتَفَعَاتِهِمْ. تَمْلِكُونَ الأَرْضَ وَتَسْكُنُونَ فِيهَا لأَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمُ الأَرْضَ لِكَيْ تَمْلِكُوهَا” (سفر العدد: إصحاح 33، آيات 50-53). ما يُفهم من ذلك أنَّ سبب غضب الرَّبّ على الأمم التي أورث أرضها بني إسرائيل هو شِرك تلك الأمم وممارستها طقوسًا وثنيَّة، وهي تحديدًا وضْع تماثيل للآلهة التي عبدوها من دون الرَّبّ، والتي من بينها إلهة البابليين، عشتار أو السَّارية ” سَوَارِيَهُمْ”، “عَلَى الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ، وَعَلَى التِّلاَلِ، وَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ“، والذَّبح لتلك الآلهة على المرتفعات “مُرْتَفَعَاتِهِمْ“، لتتطابق طقوسهم مع طقوس عبادة الثُّنائي البابلي، البعل وعشتار، وهما تجسيد لإله الشَّمس عند البابليين. يسير ربُّ العبرانيين على المبدأ القرآني “إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (سورة الأعراف: الآية 128)، على أساس أنَّ الانحراف عن منهج الله تعالى يبطل النَّعمة ويبرّر استبدال الله قومًا بآخرين يلتزمون بأوامره وينتهون عمَّا نهى عنه، مصداقًا لقوله تعالى “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم” (سورة مُحمَّد: الآية 38).

لعلَّ في اعتراف أسفار موسى بهذا الاستبدال الإلهي للمشركين من سُكَّان الأرض المقدَّسة ببني إسرائيل على أساس الالتزام بنهج الرَّبّ وعدم الشّرك به دحض لمفهوم ميراث الأرض على أساس القوميَّة؛ أي أنَّ سيطرة قوم على بقعة من الأرض من منطلق الإرث التَّاريخي واللغة والحضارة والحُكم الذَّاتي المتوارث لا يمنع إزاحتهم منها إن انحرفوا عن النَّهج الإلهي. هذا وقد أقرَّ بنو إسرائيل أمام نبيَّهم يشوع بالالتزام بعبادة الرَّبّ وعدم الحياد عمَّا أمرت به شريعته، كما تقول الآيات “فَأَجَابَ الشَّعْبُ وَقَالُوا: «حَاشَا لَنَا أَنْ نَتْرُكَ الرَّبَّ لِنَعْبُدَ آلِهَةً أُخْرَى. لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا هُوَ الَّذِي أَصْعَدَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ…وَطَرَدَ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِنَا جَمِيعَ الشُّعُوبِ، وَالأَمُورِيِّينَ السَّاكِنِينَ الأَرْضَ. فَنَحْنُ أَيْضًا نَعْبُدُ الرَّبَّ لأَنَّهُ هُوَ إِلهُنَا»” (إصحاح 24: آيات 16-18)؛ وما كان من يشوع إلَّا أن أشهد بني إسرائيل على أنفسهم، حتَّى لا يستنكروا الغضب الإلهي إن لم ينفّذوا ما تعهَّدوا به “فَقَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: «أَنْتُمْ شُهُودٌ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ قَدِ اخْتَرْتُمْ لأَنْفُسِكُمُ الرَّبَّ لِتَعْبُدُوهُ». فَقَالُوا: «نَحْنُ شُهُودٌ»” (سفر يشوع: إصحاح 24، آية 22). ويتبادر إلى الذّهن سؤال: هل التزم بنو إسرائيل، منذ نشأة دولتهم الأولى زمن النَّبيّ يشوع، بالنَّهج الإلهي بعبادة الرَّبّ الذي أخرجهم “مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ” ولم يحيدوا عنه؟ أم أنَّهم اتَّبعوا نهج الأمم التي استُحلَّ لهم طردها من الأرض المقدَّسة بسبب شِركها؟ هذا ما تجيب الآيات التَّالية “فَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ. وَتَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَ آبَائِهِمِ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ، وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا الرَّبَّ. تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ” (سفر القضاة: إصحاح 2، آيات 11-13).

تحلُّل بني إسرائيل من ميثاق الرَّبّ يُسقط الحقَّ القومي في الأرض المقدَّسة

بعد رجوع بني إسرائيل عن عهدهم مع الرَّبّ، كما يخبر سفر القضاة (إصحاح 2، آيات 11-13)، ما كان من الرَّبّ إلَّا أن صبَّ غضبه عليهم وسلَّط عليهم أعداءهم “فحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَدَفَعَهُمْ بِأَيْدِي نَاهِبِينَ نَهَبُوهُمْ، وَبَاعَهُمْ بِيَدِ أَعْدَائِهِمْ حَوْلَهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا بَعْدُ عَلَى الْوُقُوفِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ” (سفر القُضاة: إصحاح 2، آية 14). لم يدع الرَّبُّ بني إسرائيل يسيرون إلى الهاوية دون أن يرسل لهم مَن يرشدهم إلى الطَّريق القويم، وهم “قُضَاة” يحكمون وفق الشَّريعة، كما يكمل سفر القُضاة “أَقَامَ الرَّبُّ قُضَاةً فَخَلَّصُوهُمْ مِنْ يَدِ نَاهِبِيهِمْ. وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضًا لَمْ يَسْمَعُوا، بَلْ زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا. حَادُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَارَ بِهَا آبَاؤُهُمْ لِسَمْعِ وَصَايَا الرَّبِّ، لَمْ يَفْعَلُوا هكَذَا. وَحِينَمَا أَقَامَ الرَّبُّ لَهُمْ قُضَاةً، كَانَ الرَّبُّ مَعَ الْقَاضِي، وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ أَعْدَائِهِمْ كُلَّ أَيَّامِ الْقَاضِي، لأَنَّ الرَّبَّ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ أَنِينِهِمْ بِسَبَبِ مُضَايِقِيهِمْ وَزَاحِمِيهِمْ. وَعِنْدَ مَوْتِ الْقَاضِي كَانُوا يَرْجِعُونَ وَيَفْسُدُونَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِهِمْ، بِالذَّهَابِ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدُوهَا وَيَسْجُدُوا لَهَا. لَمْ يَكُفُّوا عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَطَرِيقِهِمْ الْقَاسِيَةِ” (سفر القُضاة: إصحاح 2، آيات 16-19).

من جديد، لم يلتزم بنو إسرائيل بعهدهم مع الرَّبّ، “وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضًا لَمْ يَسْمَعُوا“، رغم أنَّ هؤلاء القضاة جاؤوا لتخليصهم “مِنْ يَدِ أَعْدَائِهِمْ”. بدلًا من أن يشكر بنو إسرائيل ربَّهم على نعمه ويختصُّوه وحده بالرُّبوبيَّة، ما كان منهم إلَّا أنَّهم”زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا. حَادُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَارَ بِهَا آبَاؤُهُمْ لِسَمْعِ وَصَايَا الرَّبِّ“. استحقَّ بنو إسرائيل بذلك العقاب الإلهي بعد أن حنثوا بعهدهم لنبيِّهم يشوع عند موته بعدم الشّرك بالرَّبّ؛ ” فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ هذَا الشَّعْبَ قَدْ تَعَدَّوْا عَهْدِيَ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي. فَأَنَا أَيْضًا لاَ أَعُودُ أَطْرُدُ إِنْسَانًا مِنْ أَمَامِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ تَرَكَهُمْ يَشُوعُ عِنْدَ مَوْتِه. لِكَيْ أَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ: أَيَحْفَظُونَ طَرِيقَ الرَّبِّ لِيَسْلُكُوا بِهَا كَمَا حَفِظَهَا آبَاؤُهُمْ، أَمْ لاَ». فَتَرَكَ الرَّبُّ أُولئِكَ الأُمَمَ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ سَرِيعًا وَلَمْ يَدْفَعْهُمْ بِيَدِ يَشُوعَ” (سفر القُضاة: إصحاح 2، آيات 20-23). كما لم يلتزم بنو إسرائيل بعهدهم مع ربِّهم، تراجَع الرَّبُّ عن تعهُّده بحمايتهم من بطش الأقوام الأخرى، حيث قال الرَّبُّ “فَأَنَا أَيْضًا لاَ أَعُودُ أَطْرُدُ إِنْسَانًا مِنْ أَمَامِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ تَرَكَهُمْ يَشُوعُ عِنْدَ مَوْتِه”. ويؤكَّد ذلك على أنَّ ميراث الأرض مرتبط بالالتزام بشرط التَّقوى، وهذا لم يفعله بنو إسرائيل بأن “زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا“. وتتكرَّر عبارة “عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ” في سفر القضاة عدَّة مرَّات، في تأكيد على الرُّجوع عن عهد الرَّبّ، وفي كلِّ مرَّة يرفق بهم الرَّبُّ ويرسل لهم قاضيًا يخلّصهم عند توبتهم من الشّرك.

وسارت حياة بني إسرائيل خلال زمن القُضاة على النَّمط ذاته: يفعل “بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”؛ فيقيم “الرَّبُّ مُخَلِّصًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ” يخلّصهم؛ لكنَّهم “عِنْدَ مَوْتِ الْقَاضِي كَانُوا يَرْجِعُونَ وَيَفْسُدُونَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِهِمْ”. والمفارقة التي تسترعي الانتباه هي تخلِّيهم عن مبدأ القوميَّة في سياسة حُكمهم بأن تعايشوا مع الأقوام الأخرى من الأغيار وتزاوجوا معهم “سَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ. وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً، وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِمْ وَعَبَدُوا آلِهَتَهُمْ” (سفر القُضاة: إصحاح 3، آيتان 5-6). سلَّط الرَّبُّ على بني إسرائيل من جرَّاء عبادتهم آلهة الكنعانيين ملك مؤاب، كما تخبر الآيات “وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَشَدَّدَ الرَّبُّ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُمْ عَمِلُوا الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. فَجَمَعَ إِلَيْهِ بَنِي عَمُّونَ وَعَمَالِيقَ، وَسَارَ وَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ، وَامْتَلَكُوا مَدِينَةَ النَّخْلِ. فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً” (سفر القُضاة: إصحاح 3، آيات 12-14). اجتاح ملك مؤاب أرض بني إسرائيل “سَارَ وَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ” واحتل جنوده “مَدِينَةَ النَّخْلِ”، وما كان من بني إسرائيل إلَّا أنَّهم رضخوا لسطوة ملك مؤاب، وخضعوا له “فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً”. وكالعادة، يرأف الرَّبُّ ببني إسرائيل ويرسل لهم مخلِّصًا يُدعى إهود، من سبط بنيامين قضى على ملك مؤاب “فَأَقَامَ لَهُمُ الرَّبُّ مُخَلِّصًا إِهُودَ بْنَ جِيرَا الْبَنْيَامِينِيَّ” (سفر القُضاة: إصحاح 3، آية 15).

وكما يخبر سفر القُضاة، يتكرَّر تسلُّط الفلسطينيين القدماء على بني إسرائيل بآثامهم “ثُمَّ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً” (سفر القُضاة: إصحاح 13، آية 1). وكما كان يخرج في كلِّ مرَّة لبني إسرائيل مخلِّصٌ ينقذهم من بطش العدوّ، أو “يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ“، أنجب زوجان من بني إسرائيل ولدًا، بعد أن ظهر لهما ملاك الرَّبّ “وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شَمْشُونَفَكَبِرَ الصَّبِيُّ وَبَارَكَهُ الرَّبُّ. وَابْتَدَأَ رُوحُ الرَّبِّ يُحَرِّكُهُ فِي مَحَلَّةِ دَانٍ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ” (سفر القُضاة: إصحاح 13، آيتان 24-25). كبر الصَّبيُّ وصار مباركًا “فَكَبِرَ الصَّبِيُّ وَبَارَكَهُ الرَّبُّ“، وحلَّ عليه “رُوحُ الرَّبِّ“، الذي بدأ يسدد خطاه. تعارك شمشون مع الفلسطينيين بسبب رفضهم تزويجه امرأة منهم؛ فقرر معاقبتهم؛ “فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: «إِنِّي بَرِيءٌ الآنَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ إِذَا عَمِلْتُ بِهِمْ شَرًّا»” (سفر القُضاة: إصحاح 15، آية 3). وما كان من بني إسرائيل، من شدَّة خوفهم من الفلسطينيين القدماء، إلَّا أنَّهم همُّوا بتسليم شمشون لهم “فَنَزَلَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُل مِنْ يَهُوذَا إِلَى شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ، وَقَالُوا لِشَمْشُونَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ مُتَسَلِّطُونَ عَلَيْنَا؟ فَمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ: «كَمَا فَعَلُوا بِي هكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ». فَقَالُوا لَهُ: «نَزَلْنَا لِكَيْ نُوثِقَكَ وَنُسَلِّمَكَ إِلَى يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ». فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: «احْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ لاَ تَقَعُونَ عَلَيَّ». فَكَلَّمُوهُ قَائِلِينَ: «كَلاَّ. وَلكِنَّنَا نُوثِقُكَ وَنُسَلِّمُكَ إِلَى يَدِهِمْ، وَقَتْلًا لاَ نَقْتُلُكَ». فَأَوْثَقُوهُ بِحَبْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ وَأَصْعَدُوهُ مِنَ الصَّخْرَةِ” (سفر القُضاة: إصحاح 15، آيات 11-13). غير أنَّ الرَّبَّ يملأ شمشون بالقوَّة؛ فيفكَّ وثاقه، وأصبح زعيمًا معارضًا لتسلُّط الفلسطينيين القدماء على قومه، “وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ عِشْرِينَ سَنَةً” (سفر القُضاة: إصحاح 15، آية 20).

غير أنَّ شمشون، قاضي بني إسرائيل ومصلحهم، يحيد عن الصّراط المستقيم، ويمارس الزّنا مع امرأة من غزَّة، ثمَّ وقع في شراك امرأة أحبَّها تُدعى دليلة، سلَّطها عليه الفلسطينيون “وَقَالُوا لَهَا: «تَمَلَّقِيهِ وَانْظُرِي بِمَاذَا قُوَّتُهُ الْعَظِيمَةُ، وَبِمَاذَا نَتَمَكَّنُ مِنْهُ لِكَيْ نُوثِقَهُ لإِذْلاَلِهِ، فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفًا وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّةٍ»” (سفر القُضاة: إصحاح 16، آية 5). تستخدم دليلة الفلسطينيَّة فتنتها لكي تغوي شمشون فيبوح لها بسرّ قوَّته، ألا وهو شعره “فَقَالَتْ لَهُ: «كَيْفَ تَقُولُ أُحِبُّكِ، وَقَلْبُكَ لَيْسَ مَعِي؟ هُوَ ذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَدْ خَتَلْتَنِي وَلَمْ تُخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ الْعَظِيمَةُ». وَلَمَّا كَانَتْ تُضَايِقُهُ بِكَلاَمِهَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ، ضَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْمَوْتِ. فَكَشَفَ لَهَا كُلَّ قَلْبِهِ، وَقَالَ لَهَا: «لَمْ يَعْلُ مُوسَى رَأْسِي لأَنِّي نَذِيرُ اللهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، فَإِنْ حُلِقْتُ تُفَارِقُنِي قُوَّتِي وَأَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَأَحَدِ النَّاسِ»” (سفر القُضاة: إصحاح 16، آيات 15-17). أفشت دليلة السرَّ لقومها بعد أن حلقت 7 خصلات من شعر قاضي بني إسرائيل وهو نائم، وحينها “أَخَذَهُ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ، وَنَزَلُوا بِهِ إِلَى غَزَّةَ وَأَوْثَقُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ. وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ” (سفر القُضاة: إصحاح 16، آية 21). تدبُّ القوَّة من جديد في شمشون بعد أن ينبت شعره، وحينها يقرّر الانتقام من الفلسطينيين الذين أذلُّوه، ليهلك معهم بهدم بيت أوى منهم 3 آلاف رجل وامرأة “دَعَا شَمْشُونُ الرَّبَّ وَقَالَ: «يَا سَيِّدِي الرَّبَّ، اذْكُرْنِي وَشَدِّدْنِي يَا اَللهُ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ». وَقَبَضَ شَمْشُونُ عَلَى الْعَمُودَيْنِ الْمُتَوَسِّطَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَ الْبَيْتُ قَائِمًا عَلَيْهِمَا، وَاسْتَنَدَ عَلَيْهِمَا الْوَاحِدِ بِيَمِينِهِ وَالآخَرِ بِيَسَارِهِ. وَقَالَ شَمْشُونُ: «لِتَمُتْ نَفْسِي مَعَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ». وَانْحَنَى بِقُوَّةٍ فَسَقَطَ الْبَيْتُ عَلَى الأَقْطَابِ وَعَلَى كُلِّ الشَّعْبِ الَّذِي فِيهِ، فَكَانَ الْمَوْتَى الَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي مَوْتِهِ، أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي حَيَاتِهِ” (سفر القُضاة: إصحاح 16، آيات 28-30).

بدون وجود قاضٍ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، شاعت الفاحشة في بني إسرائيل، ولم تعد هناك رقابة على الأفعال، حتَّى أنَّ رجلًا من سبط لاوي اتَّخذ جارية له “امْرَأَةً سُرِّيَّةً” من سبط يهوذا لممارسة الزّنا، وفي ذلك يقول سفر القضاة “وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ رَجُلٌ لاَوِيٌّ مُتَغَرِّبًا فِي عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَاتَّخَذَ لَهُ امْرَأَةً سُرِّيَّةً مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا. فَزَنَتْ عَلَيْهِ سُرِّيَّتُهُ وَذَهَبَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا فِي بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا، وَكَانَتْ هُنَاكَ أَيَّامًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ” (سفر القُضاة: إصحاح 19، آيتان 1-2). يفاجأ الرَّجل اللاوي أثناء مبيته مع جاريته عند أحد شيوخ بني إسرائيل أثناء السَّفر بنفر من رجال سبط بنيامين يقرعون باب الشَّيخ ويطلبونه لممارسة الفاحشة معه “إِذَا بِرِجَالِ الْمَدِينَةِ، رِجَالِ بَنِي بَلِيَّعَالَ، أَحَاطُوا بِالْبَيْتِ قَارِعِينَ الْبَابَ، وَكَلَّمُوا الرَّجُلَ صَاحِبِ الْبَيْتِ الشَّيْخَ قَائِلِينَ: «أَخْرِجِ الرَّجُلَ الَّذِي دَخَلَ بَيْتَكَ فَنَعْرِفَهُ»” (سفر القُضاة: إصحاح 19، آية 22). استنكر الشَّيخ على رجال بنيامين مقصدهم، لكنَّه عرَض عليهم ممارسة الزّنا مع ابنته العذراء وجارية اللاوي، بدلًا من ممارسة الفاحشة معه “هُوَ ذَا ابْنَتِي الْعَذْرَاءُ وَسُرِّيَّتُهُ. دَعُونِي أُخْرِجْهُمَا، فَأَذِلُّوهُمَا وَافْعَلُوا بِهِمَا مَا يَحْسُنُ فِي أَعْيُنِكُمْ. وَأَمَّا هذَا الرَّجُلُ فَلاَ تَعْمَلُوا بِهِ هذَا الأَمْرَ الْقَبِيحَ” (سفر القُضاة: إصحاح 19، آية 24).

رفض اللاوي طلب رجال بنيامين، وأعطاهم جاريته، فتعاقبوا على نكاحها ليلةً كاملة، وماتت فور إطلاقها “فَلَمْ يُرِدِ الرِّجَالُ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ. فَأَمْسَكَ الرَّجُلُ سُرِّيَّتَهُ وَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِمْ خَارِجًا، فَعَرَفُوهَا وَتَعَلَّلُوا بِهَا اللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَى الصَّبَاحِ. وَعِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَطْلَقُوهَا. فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصَّبَاحِ وَسَقَطَتْ عِنْدَ بَابِ بَيْتِ الرَّجُلِ حَيْثُ سَيِّدُهَا هُنَاكَ إِلَى الضَّوْءِ” (سفر القُضاة: إصحاح 19، آيتان 25-26). وما كان من اللاوي إلَّا أن قطَّع جاريته 12 قطعة ووزَّعها على أسباط بني إسرائيل “أَمْسَكَ سُرِّيَّتَهُ وَقَطَّعَهَا مَعَ عِظَامِهَا إِلَى اثْنَتَيْ عَشَرَةَ قِطْعَةً، وَأَرْسَلَهَا إِلَى جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ” (سفر القُضاة: إصحاح 19، آية 29). اشتعلت فتنة بين بني إسرائيل بسبب ما فعله رجال سبط بنيامين، وقرَّر رجال الأحد عشرًا سبطًا الأخرى الثَّأر من سبط بنيامين، لتنشب معركة سقط فيها الآلاف من رجال بنيامين “كَانَ جَمِيعُ السَّاقِطِينَ مِنْ بَنْيَامِينَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُل مُخْتَرِطِي السَّيْفِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ ذَوُو بَأْسٍ” (سفر القُضاة: إصحاح 20، آية 46). ندم بنو إسرائيل على ما فعلوه في أحد أسباطهم، لكنَّهم لم يتوبوا؛ والسَّبب هو غياب الرَّقيب والحَكَم المقسط، ويصدق في ذلك قول الله تعالى “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)”؛ والسَّبب هو أنَّهم لم يكونوا ينكرون على بعضهم فعْل الخبائث؛ فانتشرت بينهم الفاحشة وصدُّوا عن سبيل الله “كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)” (سورة المائدة: آيتان 78-79).

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى