نشأة القوميَّة العربيَّة ودورها في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة 6 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
4.الاشتراكيَّة: أصلها ونشأتها
ربَّما يكون أبسط تعريف للاشتراكيَّة هو أنَّها نظريَّة اجتماعيَّة وسياسيَّة نشأت في القرن التَّاسع عشر الميلادي في أوروبا، تستهدف تكريس العدالة الاجتماعيَّة والمساواة بين أفراد المجتمع، من خلال إنهاء الملكيَّات الخاصَّة، والقضاء على الأنظمة الإقطاعيَّة، وحصْر الملكيَّة العامَّة لوسائل الإنتاج في النّظام الحاكم؛ ممَّا يفضي إلى إزالة الطبقيَّة والتخلُّص من المحسوبيَّة والفساد المؤسسي. تتعارض هذه النَّظريَّة مع الرأسماليَّة، التي تشجّع الملكيَّة الخاصَّة، وتخدم مصالح أصحاب رؤوس الأموال على حساب الطَّبقة الكادحة، وكان للمظالم المتفشيَّة في المجتمعات الصّناعيَّة الغربيَّة منذ القرن الثَّامن عشر الميلادي دورها في دفع أصحاب المظالم من العمَّال إلى البحث عن نظام بديل يقوم على تبادُل المنفعة، وليس على النَّفعيَّة المفرطة لأصحاب المصالح بما يضرُّ بالكادحين، وفق ما تنشره موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة، نقلًا عن عدَّة مصادر، من بينها Encyclopedia of Political Economy-موسوعة الاقتصاد السّياسي (2003م) لفيليب أوهارا في مجلَّدها الثَّاني.
أصل المسمَّى
يعتبر البريطاني روبرت أوين، وهو رائد أعمال ومصلح اجتماعي من جزيرة ويلز البريطانيَّة، من روَّاد الفكر الاشتراكي، وتُصنَّف فلسفته بأنَّها نموذج لما يُطلق عليه “الاشتراكيَّة المثاليَّة”، ويُعرف كذلك بـ “الاشتراكيَّة الخياليَّة”، ويشير هذا المصطلح إلى تأسيس مجتمع مثالي، لتقل طوباوي، على أساس الالتزام الجماعي بالعمل، والاشتراك بالتَّساوي في عائدات الإنتاج. وكان أوين أوَّل من استخدم مصطلح الاشتراكيَّة (Socialism) في الإشارة إلى نظريَّته الاجتماعيَّة الإصلاحيَّة، التي امتازت بالدَّعوة إلى الإصلاح عبر تقويم السُّلوك البشري، وليس بالثَّورة واستخدام القوَّة، وقد طبَّق نظريَّته لأوَّل مرَّة عام 1825م، في ولاية انديانا الأمريكيَّة، بتأسيس مستعمرات تعاونيَّة أطلق عليها “نيو هارموني” (New Harmony)، وتعني التَّآلف الجديد. اعتمدت فكرة مجتمع “نيو هارموني” على ترسيخ مبدأ التَّعاون في تصريف الشُّؤون الحياتيَّة لنواة المستوطنين، البالغ عددهم 1000 شخص تقريبًا، على إساس الامتناع عن الزَّواج والاحتفاظ بالملكيَّة الخاصَّة واعتناق أيّ ديانة. غير أنَّ التَّجربة فشلت بمرور الوقت، وكان التَّعارك بين أفراد المجتمع من أهم الأسباب، في تأكيد على أنَّ التَّقويم الأخلاقي كان يجب أن يسبق تأسيس مستعمرات تقوم على التَّعاون. وأسهم غياب روبرت أوين نفسه عن “نيو هارموني” بسبب انشغاله بإدارة أعماله في بريطانيا في فشل المشروع وتفكُّك المجتمع المثالي بحلول عام 1829م.
المفهوم الماركسي للاشتراكيَّة
وضَع الألمانيَّان كارل ماركس وفريدريك أنجلز مفهومًا جديدًا للاشتراكيَّة، يقوم على محاربة أشكال الظُّلم الاجتماعي بدافع من الوعي البشري المنتفض في وجه العبوديَّة المأجورة، وقد نقل هذا المفهوم الاشتراكيَّة من الحقل الاجتماعي إلى الاقتصادي، بتأسيس نظريَّة اقتصاديَّة تجعل وسائل الإنتاج في أيدي الحزب الحاكم، ليباشر مهمَّة التَّوزيع العادل للرّبح وردْع الانتهازيين والنَّفعيين، وقد جرت تسمية مفهوم ماركس للاشتراكيَّة بـ “الماركسيَّة”. تطوَّرت النَّظريَّة الماركسيَّة وفق المعايشة الواقعيَّة لمعاناة الطَّبقة الكادحة، أو الطَّبقة البروليتاريَّة (Proletariat)، وانصبَّ تركيزها منذ بداية نشأتها على تحرير العمَّال الكادحين من قبضة الرَّأسماليين، من خلال سقوط طبقة أصحاب رؤوس الأموال وإنهاء الاحتكار وبيع الطَّاقة البشريَّة مقابل المال، ولا يحدث ذلك إلَّا بتأسيس نظام جديد ينزع من الرَّأسماليين السَّيطرة على مصادر الدَّخل ووسائل الإنتاج ليضعها في أيدي حكومة مركزيَّة. استخدم ماركس وأنجلز مصطلح proletarius، أو الطَّبقة البروليتاريَّة، في الإشارة إلى الطَّبقة العاملة في كتاب Manifesto of the Communist Party–بيان الحزب الشُّيوعي (1848م)، وهو بيان تأسيس ما عُرف بـ der Bund Kommunisten، أو العصبة الشُّيوعيَّة، التي تكوَّنت في يونيو من عام 1847م في لندن، بهدف تأسيس نظام اجتماعي جديد على أساس انتزاع السُّلطة من الطَّبقة الإقطاعيَّة الرَّأسماليَّة، ولو بثورة شعبيَّة تُستخدم فيها القوَّة، ليمهّد ذلك الرَّأي السَّبيل أمام ما عُرف باسم الاشتراكيَّة الثَّوريَّة (Revolutionary Socialism). فتحت أفكار ماركس وإنجلز بذلك المجال للمطالبة بإسقاط الأنظمة الرَّأسماليَّة، التي تُوصف بالرَّجعيَّة، من خلال ثورات جماهيريَّة تعصف ببنيان صائدي الثَّروات ومصَّاصي عرق الشُّعوب. وقد أيَّد عرَّابا الماركسية في كتاب بيان حزب الشُّيوعي (1848م) إشعال “ثورة علنيَّة” تقضي بها على الطَّبقة البرجوازيَّة الظَّالمة “بالعنف”، كما ورد في الفصل الأوَّل للكتاب، والذي يحمل عنوان “برجوازيُّون وبروليتاريُّون”:
“والحركة البروليتاريَّة، هي الحركة القائمة بذاتها، للأغلبيَّة الساحقة، في سبيل الأغلبيَّة الساحقة. والبروليتاريا، الفئة الدُّنيا في المجتمع الراهن، لا يمكنها أن تنهض وتنتصب، بدون أن تنسف البنية الفوقيَّة كلها للفئات التي تؤلّف المجتمع الرسمي. ومع أنّ نضال البروليتاري ضد البرجوازيَّة ليس قوميًّا في محتواه، فإنه يتّخذ في البداية الشكل القومي، ولا حاجة إلى القول إنّ على البروليتاريا في كل بلد أن تتخلص من برجوازيتها الخاصة. وبإجمالنا أطوار نمو البروليتاريا في خطوطها الكبرى، تتـبَّعنا أيضًا الحروب الأهليَّة الكامنة تقريبًا داخل المجتمع القائم، حتى الحين الذي تنفجر فيه هذه الحروب ثورة علنيّة، تُرسي البروليتاريا سيطرتها بإطاحة البرجوازيَّة بالعنف“.
وتعريفًا بسيرة كارل ماركس، كما تخُبر عنها كافَّة الموسوعات العلميَّة والمؤلَّفات، فهو ألماني، وُلد عام 1818م، ومات في لندن عام 1883م، وهو فيلسوف وعالم اجتماع وخبير اقتصادي، كانت أفكاره مشعلًا أضاء الطَّريق للثَّورة البلشفيَّة، أو ثورة أكتوبر الاشتراكيَّة العظمى، على النّظام القيصري في روسيا. أمَّا عن المعلومات شديدة الحساسيَّة بشأن ماركس الواجب التَّنبيه إليها، فيخبر عنها الدُّكتور بهاء الأمير، المتخصّص في الحركات السّريَّة والعقائد الباطنيَّة، في كتابه التفسير القبَّالي للقرآن (2015م)، نقلًا عن The Jewish Encyclopedia-الموسوعة اليهوديَّة في مجلَّدها الرَّابع (صـ152) بقوله (صـ137):
وكان كارل ماركس يهودي ألماني، اسمه الحقيقي: حاييم هيرشل موردخاي Chaim Hirschel Mordechai، وينحدر من أسرة الرَّبي بيرنت كوهين Barent Cohen، أحد أعمدة التّجارة في أمستردام في أوائل القرن الثَّامن عشر، وبين أسرة الحاخام كوهين وأسرة روتشيلد روابط ومصاهرة عديدة عبر التَّاريخ، أقربها إلى كارل ماركس زواج عمَّته: حنَّا بيرنت كوهين Hannah Barent Cohen من ناثان ماير روتشيلد Nathan Mayer Rothschild.
وعن الماركسيَّة، يقول الأمير في المرجع ذاته (2015م) إنَّها “ليست سوى امتداد للدَّاروينيَّة”، معتبرًا أنَّ ماركس تأثَّر بنظريَّة التَّطوُّر لتشارلز داروين، لينقلها من الكائنات الحيَّة إلى التَّاريخ الإنساني، بهدف ترشيح قيم وأنظمة اجتماعيَّة من شأنها الإبقاء على سلامة المجتمعات وحمايتها من الانهيار؛ فتكون الماركسيَّة بذلك “بديل الوحي” (ص137). ويضيف الأمير إنَّ ماركس قد طوَّر نظريَّته تحت إشراف الفيلسوف اليهودي الألماني موزس هس، أحد أقطاب الحركة الصُّهيونيَّة في مهدها ومؤسس الحركة الصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة (Socialist Zionism)، التي عملت على إيجاد قناة للتَّواصل بين العمَّال اليهود في أوروبا وشرقها، تسهيلًا لهجرتهم إلى الأرض المقدَّسة واستيطانها. وقد أعلن هس عن أفكار الصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة في كتابه Rome and Jerusalem The Last National Question-روما والقدس القضيَّة القوميَّة الأخيرة (1862م)، أي في أعقاب صدور كتاب بيان الحزب الشُّيوعي (1848م). وعن أصل نظريَّة التَّطوُّر لداروين وخدمتها لأهداف الماسونيَّة، تُرجى مراجعة كتاب “ليسوؤوا وجوهكم”: القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م، صـ413-415).
المفهوم الصُّهيوني للاشتراكيَّة
وفق تعريف المكتبة المرئيَّة اليهوديَّة (Jewish Virtual Library)، فالحركة الصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة، أو الصُّهيونيَّة العُمَّاليَّة، هي حركة “كافحت من أجل تحقيق الخلاص الاجتماعي والقومي لليهود من خلال دمج الصُّهيونيَّة بالاشتراكيَّة”. ويُعتبر الرُّوسي نحمان سيركين، المنظّر السّياسي، هو مؤسّس الصُّهيونيَّة العمَّاليَّة، وقد تولَّى مهمَّة نشْر أفكارها قبيل المؤتمر الصُّهيوني الثَّالث، المنعقد عام 1899م. تعتمد فلسفة الصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة على افتراض أنَّ الحلَّ الوحيد لمشكلة يهود الشَّتات (Diaspora Jewry) هو “هجرة اليهود إلى، وتمركزهم في، قاعدة إقليميَّة”. وأشار الرُّوسي دوف بير بورخوف، الصُّهيوني الماركسي وأحد مؤسّسي الحركة الصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة، إلى أنَّ تطوُّر الرَّأسماليَّة “سيدفع اليهود، لا محالة، إلى الهجرة إلى فلسطين، وفقط هناك يمكن إعادة تشكيل الهيكل الاقتصادي لليهود، باعتباره قاعدة للصّراع الطَّبقي للطَّبقة البروليتاريَّة اليهوديَّة”. أفضت الخلافات بشأن الأُسس الفلسفيَّة والنَّظريَّة للصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة إلى نشأة العديد من الأحزاب الصُّهيونيَّة الاشتراكيَّة في إسرائيل الفتيَّة، تنوَّعت توجُّهاتها ما بين التَّركيز على الماركسيَّة على حساب الصُّهيونيَّة، والعكس.
بخلاف اعتقاد التَّيَّار الصُّهيوني السّياسي الذي أسَّسه تيودور هرتزل، وأيَّده حاييم وايزمان، أهمُّس زعيم للصُّهيونيَّة بعد هرتزل وأوَّل رئيس لإسرائيل، وهو أنَّ تأسيس الدَّولة العبريَّة لم يكن يحتاج أكثر من نيل موافقة القوى العظمى العالميَّة، رأى التَّيَّار الصُّهيوني العُمَّالي أنَّ تأسيس إسرائيل لا بدَّ وأن يعتمد على جهد الطَّبقة العاملة اليهوديَّة من خلال تأسيس مستعمرات تعاونيَّة، أو كيبوتسات (kibbutzim)، تنتج محاصيل لسدّ الحاجة إلى الغذاء وتحقيق الرَّبح من خلال التَّصدير. وقد أكَّد بورخوف على أنَّ الصُّهيونيَّة “ضرورة تاريخيَّة-اقتصاديَّة” لليهود، مضيفًا أنَّ “تزعُّم عمليَّة التَّحرير القوميَّة اليهوديَّة” مهمَّة الطَّبقة البروليتاريَّة اليهوديَّة. المفارقة أنَّ التَّيَّار العُمَّالي للصُّهيونيَّة تفوَّق على التَّيَّار السّياسي، حتَّى أنَّ التَّيَّار العُمَّالي سيطر على العديد من مؤسّسات المجتمع المدني في فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني، وقبل إعلان الدَّولة عام 1948م، كما أنَّ الهاغاناه، أكبر قوَّة دفاعيًّة صهيونيَّة شبه عسكريَّة، كانت في الأصل تتبع التَّيَّار الصُّهيوني العُمَّالي.
“صعود الاشتراكية وسقوطها وحياتها الأخرى” من منظور صُهيوني معاصر
قدَّم الأكاديمي الأمريكي جوشوا مورافتشيك، أستاذ الدراسات السياسيَّة لدى المعهد السياسة العالمي في واشنطن العاصمة والمتخصِّص في سياسات الشَّرق الأدنى، عام 2002م كتابًا تحت عنوان Heaven on Earth: The Rise and Fall of Socialism–الجنة على الأرض: صعود الاشتراكية وسقوطها، تناوَل فيه تطوُّر الاشتراكيَّة بوصفها نظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا أُسس بهدف معالجة الأزمات المجتمعيَّة، أملًا في تحقيق العدالة والمساواة بين البشر. وكما يخبر مورافتشيك، اليهودي الأرثوذكسي روسي الأصل، في مقدِّمة كتابه، “الاشتراكيَّة هي العقيدة التي نشأتُ عليها، وهي عقيدة أبي وأبيه من قبله” (ص8). يروي الكاتب أنَّ جدَّه لأبيه، أبراهام حاييم مورافتشيك، المولود في مدينة كييف عام 1878م، تلقَّى تعليمًا دينيًّا، كمثل كافَّة أقرانه من يهود الإمبراطوريَّة الرُّوسيَّة، ليلتحق بعد أن شبَّ بحلقة الطُّلَّاب الرَّاديكاليين في المدرسة الثَّانويَّة، حيث التقى بزوجته، راشيل، وجدَّة جوشوا. انضمَّ أبراهام وراشيل إلى حزب الاشتراكيين الثَّوريين (Socialist Revolutionary Party)، أكثر الأحزاب اليساريَّة الرُّوسيَّة راديكاليَّة، حيث كان ذلك الحزب، الذي تأسَّس عام 1900م، من أكثر الأحزاب ميلًا لتطبيق للماركسيَّة.
هاجر الزَّوجان إلى أمريكا عام 1905م، بعد حملة من العنف تجاه اليهود، وهناك واصلا جهودهما في الدَّعوة إلى تطبيق الاشتراكيَّة من خلال العمل الصُّحافي. استقرَّ أبراهام وراشيل في منطقة هارلم، في مدينة نيويورك، حيث وُلد ابنهما إيمانويل، أب جوشوا مورافتشيك، والذي حرصا على تنشئته على تمجيد الاشتراكيَّة لينضم إلى حزب اليسار للاشتراكيين الثَّوريين (Left Socialist Revolutionaries)، ليلتقي بمريام، وهي من أصحاب نفس فكره، ويقترن بها، لينجبا كاتبنا. تشرَّب جوشوا عن أبويه وجدَّيه حب الاشتراكيَّة، وقد انضمَّ بدوره إلى رابطة الشباب الاشتراكي (Young People’s Socialist League)، وهي رابطة صغيرة؛ لأنَّ الاشتراكيَّة لم تنتشر في أمريكا برغم جهود أسلافه. يعتقد مورافتشيك أنَّ الاشتراكيَّة انتشرت بالدَّعوة والسَّيف، كمثل الإسلام والمسيحيّة في رأيه، بل إنَّها تجاوزت حتَّى أكثر الدِّيانات اعتناقًا في العالم من حيث اتِّساع رقعة تطبيقها؛ فحوالي 60 بالمائة من سكَّان العالم يخضعون لحُكم اشتراكي، خلال 150 عامًا مرَّت على صياغة الفيلسوف والمصلح الاجتماعي ورائد الأعمال البريطاني وروبرت أوين (Robert Owen) مصطلح الاشتراكيَّة (Socialism). ويرى الكاتب أنَّه “إن لم يكن كلُّ مَن عاش في ظلِّ الاشتراكيَّة مؤمن بها، فليس كلُّ مَن عُدَّ مسيحيًّا أو مسلمًا صحيح الإيمان” (صـ10).
ويعترف مورافتشيك بأنَّ الاشتراكيَّة لم تؤتِ ثمارها المرجوَّة بعد تطبيقها، وهو يستعرض خلال كتابه (2002م) مختلف التَّجارب التي حقَّقت نجاحًا مشهودًا به في تطبيق تلك النَّظريَّة، في محاولة منه لتبيان سبب فشلها بعد مرور سنوات قليلة على بداية التَّطبيق، ربَّما لا تتجاوز العقدين. يتعقَّب مورافتشيك في الجنة على الأرض مسار الاشتراكيَّة، باعتبارها “قصَّة أكثر محاولة طموحة للإنسان لاقتلاع الدِّين واستبداله بعقيدة تعيد تعريف حياة الإنسان لتقوم على العلم وليس على الوحي” (صـ10). انطلقت الاشتراكيَّة من أوروبا، وانتقلت إلى الصِّين وإفريقيا والهند وأمريكا اللاتينيَّة، وكذلك إلى أكثر منطقة في العالم مقيَّدة بالتَّقاليد، الشَّرق الأوسط. هذا ويؤمن مورافتشيك ببعث الاشتراكيَّة، وبإمكانيَّة إعادة تقديمها في نموذج متطوِّر يضمن لها النَّجاح؛ وهذا ما دفعه إلى إعادة نشْر كتابه عام 2019م، تحت العنوان الجديد Heaven on Earth: The Rise, Fall and Afterlife of Socialism-الجنة على الأرض: صعود الاشتراكيَّة وسقوطها وحياتها الأخرى.
الكيبوتسات الإسرائيليَّة: أنجح نماذج تطبيق الاشتراكيَّة
برغم الفشل الذي واجهته الاشتراكيَّة في شتَّى بقاع الأرض، يرى الكاتب والأكاديمي أنَّ تجربة تأسيس التَّعاونيَّات الزِّراعيَّة، أو الكيبوتسات (Kibbutzim)، في إسرائيل أنجح تجارب تطبيق الاشتراكيَّة، وقد وصفها في حوار صحافي نشره موقع Washington Jewish Week في 11 أبريل 2019م، بأنَّها “النَّموذج المثالي للفكر الاشتراكي”. وقد نجح حزب العمَّال الاشتراكي في قيادة إسرائيل ربع قرن، حيث كان الحزب الحاكم بين الأعوام 1948 و1977 وبين الأعوام 1992 و1996 وبين الأعوام 1999 و2001م، ولعلَّ من أشهر زعماء إسرائيل المنتمين إليه ليفي إشكول، وغولدا مائير، وإسحق رابين، وشمعون بيريز، وإيهود باراك، وقد ترأَّس هؤلاء جميعهم الحكومة الإسرائيليَّة وشغلوا مناصب بارزة في مرحلة تأسيس الكيان الصُّهيوني. وتجدر الإشارة إلى أنَّ حزب العمل الإسرائيلي الاشتراكي انبثق عن حزب ماباي، وهو اختصار كلمة “מפלגת פועלי ארץ ישראל”، وهي تعني حزب عمال أرض إسرائيل، وهو حزب يساري صهيوني، كان يتزعَّمه دافيد بن غوريون، المؤسس الوطني الأساسي لإسرائيل وأوَّل رئيس حكومة فيها.
(المصدر: رسالة بوست)