نحو مؤلفات قيادية في العلوم والقضايا الإسلامية
بقلم د. أحمد الريسوني
يشكو كثير من أهل العلم والفكر والثقافة مما يسود المكتبة العربية الإسلامية من عشوائية وضحالة وغثائية. ولا يُستثنى من هذا الواقع سوى عدد قليل من إصدارات بعض المؤلفين وبعضِ دور النشر أو بعض المؤسسات الرسالية. وحتى هذه الاستثناءات التي تقدم لمكتبتنا شيئا من الجدة والجودة غالبا ما يعَوَّل فيها على المبادرات والجهود الفردية للمؤلفين والمحققين والمترجمين. ومن هنا يبقى أثرها محدودا ويبقى عددها مغمورا، ضمن الكثرة الكاثرة مما تخرجه لنا المطابع ودور النشر والتوزيع.
وعلى العموم فالكتاب العربي الإسلامي في أغلب أحواله، وفي أحسن أحواله، ينحصر أثره في سد الفراغ وتلبية بعض الاحتياجات العلمية والعملية والثقافية والاجتماعية لعموم القراء والمثقفين المتدينين، ولبعض الطلبة والباحثين المتخصصين. وبعض هذه الكتب والكتابات قد تقوم بصفة خاصة بدور الإسناد والتوجيه المذهبي للجهات التي تنبع عنها وتدور في فلكها، من حكومات وأحزاب وحركات إسلامية أو قومية…
أما الدور القيادي الطليعي في تجديد الصرح العلمي للأمة الإسلامية، وفي إحداث إصلاحٍ وبناء فكري منهجي، وفي توجيه الأمة والنخب الفاعلة فيها نحو النهضة والريادة الحضارية، وفي صياغة الحلول والمشاريع النهضوية، وإزاحة العوائق والإشكالات العلمية والفكرية التي تعترضها … فهذا كله يبدو كأنه غير وارد، أو غير ممكن، في الأفق المنظور وعلى النحو الذي تسير عليه الأمور.
ولكن لا بد مما ليس منه بد…
فنحن أمة (اقرأ)، ونحن أمة (الكتاب)؛ معجزة نبينا كتاب، وديننا كتاب وحكمة.
خاصيتنا وميزتنا وقيادتنا ليست في قوتنا الاقتصادية، وليست في مواردنا الطبيعية، وليست في قدراتنا الجهادية القتالية، أو تضحياتنا الحركية والمالية…
وإنما خاصيتنا مبدؤها وأساسها وميزتها القراءة والعلم، والحكمة والفكر. وما سوى ذلك فهي توابع ووسائل ومكملات. وقال الإمام البخاري: باب العلم قبل القول والعمل ، لقول الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }، فبدأ بالعلم.…
فإذا لم تكن فعلا خاصيتنا علمية، ولم تكن رسالتنا علمية، ولم تكن نهضتنا علمية، ولم تكن حضارتنا علمية، فقد حِدْنا عن الطريق الصحيح.
فلا بد إذاً مما ليس منه بد، وهو اتخاذ العلم والعمل العلمي إماما، واتخاذ الكتاب إماما، كما قال تعالى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} هود/.17
فسنة الله تعالى إنزال الكتب. وسنة الأنبياء تبليغ الكتب، وإمامة الناس بالكتب. ووظيفة العلماء والمفكرين ترسيخ الإمامة والقيادة للكتاب الإمام، ثم ترسيخ ثقافة الكتاب وإمامةِ الكتاب والعلم بصفة عامة. وظيفة العلماء والمفكرين إنتاج الكتب القيادية الهادية لمختلف الأزمنة والأجيال، بحسب المشكلات والحاجات والإمكانات القائمة في كل زمان.
وليس صحيحا ما قاله الشاعر أبو تمام:
السيف أصدق إنباء من الكتب …في حده الحد بين الجد واللعبِ
بِيضُ الصفائح لَا سُود الصحائف في …متونهن جَلاء الشك والريبِ
بل نقول: الكتاب أصدق قيلا وأقوم سبيلا، والصحائف مقدمة على الصفائح وحاكمة عليها. والله عز وجل قال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط} الحديد/,25
فالأساس والعمدة في دين الله وشرعه: الكتاب والميزان والبينات، أي: الكتاب ومنهج الكتاب، وكل شيء يتبع الكتاب.
ثم بعد ذلك، أضاف سبحانه نعمة أخرى، وهي لجميع خلقه، فقال (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)
فالعلم إمام العمل وقائده، فلذلك نحتاج إلى الكتب القيادية في كافة المجالات الحيوية.
ولقد عرف تاريخنا المديد مؤلفات قيادية نموذجية في مختلف العلوم والتخصصات، جاءت في لحظتها وعند مسيس الحاجة إليها، فقادت حركة العلم والفكر، ومن خلالها وجهت حركة الأمة والمجتمع، وشكل بعضها محطات ومنعطفات علمية نوعية.
وأذكر منها على سبيل المثال:
– كتاب (الموطأ) للإمام مالك، و(الجامع الصحيح) للإمام البخاري. وهما الكتابان النموذجيان المؤسسان والقائدان لما جاء بعدهما في مجال علوم الحديث وتدوين السنة.
– كتاب (الرسالة) وكتاب (الأم) للإمام الشافعي، وهما كتابان نموذجيان قائدان للحركة الفقهية الأصولية وللعقلية الفقهية الأصولية على مر العصور.
– (جامع البيان) للإمام الطبري…وهو الكتاب المؤسس والموجه لعلوم القرآن والتفسير، من يومه وإلى الآن. فضلا عن إسهامه ومرجعيته في تأسيس علوم الفقه والأصول واللغة وغيرها من العلوم العربية والإسلامية.
– وبعض تلك المؤلفات الرائدة لم يكن لها الأثر الفوري والمباشر، لأن أهل زمانها غفلوا عن قيمتها، أو لم يكونوا مهيئين للاستفادة منها، ولكنها سرعان ما عادت فأدت رسالتها وأحدثت أثرها الكبير، بعد زمن أو أزمان من تأليفها؛ ككُتب ابن تيمية وابن القيم، وكتب ابن عبد السلام، وكتاب (المقدمة) لابن خلدون، وكتاب (الموافقات) للشاطبي.
وفي العصر الحديث شكلت (مجلة الأحكام العدلية) وقواعدُها التسع والتسعون، عملا تجديديا قياديا، كان له عميق الأثر في تجديد الفقه والقواعد الفقهية.
– كما شكل كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) للعلامة ابن عاشور أساسا ومنطلقا ومحورا لتأسيس علم مقاصد الشريعة، بكل آثاره وثماره الحميدة الجارية اليوم …
وللعلامة يوسف القرضاوي كتابان من هذا الصنف أحدهما قديم وهو (فقه الزكاة) والآخر جديد وهو (فقه الجهاد). وكل منهما إمام لغيره في بابه.
طبيعة المؤلفات القيادية
والمؤلفات القيادية سواء منها تلك المتقدمة الموجودة، أو هذه المطلوبة المنشودة — عادة ما تنبثق عن أحد أمرين، أو عنهما معا:
1- أن تأتي نتيجة وعيِ المؤلفين ومعاناتهم ورؤيتهم لما عليه حال الأمة ومشكلاتها ومتطلباتها، وسعيِهِم لتقديم عمل علمي يلبي المتطلبات ويسد الثغرات.
2- أن تأتي استجابة لرغبة وطلب ورجاء، يقدمه للعالم بعضٌ من تلاميذه أو أصدقائه أو ولاة الأمر في زمانه، أو غيرهم ممن يدركون المطلوب، فيرشحون له من هو أهل للنهوض به.
وما أعنيه وأريده الآن أكثر، هو الصنف الثاني من هذه المؤلفات، أما الصنف الأول فيرجع إلى مبادرة أصحابه، كثرهم الله ووفقهم.
الصنف الثاني من المؤلفات القيادية يتوقف ويعتمد على إدراك القضية وتصورها، ثم إعداد الفكرة وتحديد المطلوب فيها والغرضِ منها، ثم التوجه بذلك إلى ذوي الاختصاص والأهلية من العلماء والمفكرين، رجاء قيامهم بالإنجاز. وقد يكون هذا الإنجاز فرديا وقد يكون جماعيا. ولكل منهما مزاياه ومحاذيره. وقد يكون حجم الكتاب أو المشروع، أو طبيعته والغرض منه، هو الذي يرجح الإنجاز الفردي أو الجماعي. على أن الإنجاز الفردي في حال اعتماده، لا بد وأن يكون محفوفا ومعززا بفكر جماعي، يتمثل في التحضير والتشاور والتقويم والتحكيم…
عندنا اليوم جهات ومؤسسات كثيرة مهتمة بالدراسات والبحوث، أو مهتمة بالإنتاج العلمي ونشره، أو مهتمة بقضايا الإصلاح والنهضة والتنمية، أو مهتمة ببعض القضايا المصيرية والاستراتيجية والمنهجية… وهذه الجهات والمؤسسات منها الحكومية ومنها الأهلية، منها العامة المتعددة الاختصاصات ومنها المتخصصة.
فأَرشَدُ طريق لإنتاج (المؤلفات القيادية) التي أتحدث عنها، هو أن تتولى أمرها مثل هذه المؤسسات، وأن تقوم على رعايتها وإسنادها من البداية إلى النهاية. فأما البداية فهي الإعداد المدروس لفكرة المؤلَّف أو المشروع العلمي، انطلاقا من أهميته وأولويته ومسيسِ الحاجة إليه على صعيد الأمة… وأما النهاية فهي التمكين له؛ بالاحتفاء بإنجازه والتعريف به وبمضامينه، وترجمته ونشره بجميع وسائل النشر المتاحة … وبين البداية والنهاية، أشكال عدة من الحضانة والرعاية…
على أن المؤلفات القيادية المنشودة لا بد وأن تتسم بسمات منهجية تجعلها تتجاوز الحدود والمستويات التي عادة ما تقف عندها الإنتاجات والمعالجات المتسمة بالطابع الفردي أو المذهبي. ومن هذه السمات الضرورية:
1- الإحاطة بالقضية المقصودة من جميع جوانبها المؤثرة فيها.
2- النزاهة والتوازن والتحقيق والحسم.
3- العمق والجرأة والمستوى الاجتهادي.
4- الملاءمة والاستجابة لظروف الأمة وحاجاتها اليوم وغدا.
اقتراحات للمهتمين
وفيما يلي بعض القضايا والمجالات العلمية التي أراها ما زالت تحتاج وتفتقر إلى مؤلفات قيادية جامعة للمواصفات المذكورة:
1- كتاب جامع عن القرآن الكريم ، نصا ورسالة وفهما.
2- كتاب جامع عن القضايا والإشكالات الأساسية المتعلقة بالسنة النبوية وفهمها والعمل بها.
3- كتاب جامع للأحاديث النبوية المعتمدة، مما لا نزاع في صحته عند أهل الاختصاص، يقدم للعالمين ولعموم المسلمين. ويبقى المتنازع فيه في مظانه، يطلبه ويرجع إليه العلماء والدارسون والمحققون.
4- كتاب جامع في العقيدة والتصورات العقدية الكبرى في الإسلام ومنهج معالجتها وتفعيلها.
5- كتاب — بل أكثر من كتاب — في تجديد أصول الفقه ومنهج التفكير الإسلامي.
6- كتاب في قضية اللغة العربية وأهميتها، والمخاطرِ والتحديات التي تواجهها، وما يستتبع ذلك من آثار وانعكاسات، وما يتطلبه من حلول ومعالجات…
7- كتاب أو أكثر في المسألة التربوية التعليمية.
8- كتاب أو أكثر في قضايا الحكم والسياسة والجهاد وعلاقات المسلمين بغيرهم.
9- كتاب عن تراثنا العلمي والفكري وتقويمه والموقف منه وكيفية التعامل معه.
10- كتاب أو أكثر في التاريخ الإسلامي وتقويم مسيرته ومكانته.
11– كتاب استقصائي تحليلي موضوعي في أسباب تخلف المسلمين وضعفهم، قديما وحديثا.
المصدر: موقع الريسوني.