نحن والماضي.. نسيان العودة وسفر الحوالي واعتدال الصلابي!
بقلم خيرية آدم
أمام الأحداث والمتغيرات الهائلة سامدون لنخرج من أثقال حملناها، مجبرون على التوقف في برهة تقطع الأنفاس، وضربات الأحداث والخيبات أيضًا، نتوقف.
الماضي جزء من حاضرنا، ونرجع له سببية ما نحن عليه،وعند تعرضنا للأزمات يقلب العقل دفاتر الماضي عجزًا عن مواجهة الحاضر، إما أن يخرج منه طوق النجاة، وإما أن يحبسه ضعف قدرته على التعامل معه فيقضي على حاضره دون أن يعلم.
لكل حدث تاريخي زمانه ومكانه المناسبان له تمامًا، ومن المجحف أحيانًا تقييم تلك التجارب بأدوات المستقبل، سيظل هناك له عمقه وبيئته وأحداثه التي لربما لم يكن ينفع سواها، وأهل ذاك الزمان هم فقط المسؤولون عن تقييمه، أما عنا نحن، فنتجول فيه تنقيحًا عما ينفع حاضرنا، نقيده بظرفيته ونعمل فيه العقل فقط؛ لأن روحه قضت وولت مع شخوصه.
ونحن لسنا أمام تقييم التجارب والخوض فيها، بل احتمالية تكرارها، لاعتقادنا أننا لا نستطيع الأفضل، وأن تلك الصور المضيئة في تاريخ الأمة لن تتكرر، ونتجاهل حقيقة أنها لا تناسب إلا مكانتها، ونريد فكرًا تجديديًا علميًا لا يخشى الخوض بعيدًا ومعالجة مشكلاته وإيجاد الحلول الخلاقة لها.
أما منهج التفاعل والتعامل مع الماضي فنطرحه من خلال ثلاث تجارب حديثة قديمة:
1- النسيان والتجاوز.
2- الغرق فيه.
3- الاعتدال والتوسط.
1- سلمان العودة (النسيان)
عاد العودة بعد خمس سنوات عزلة يطرح تغييرًا جديدًا في الشكل والرسم بوسم #أنا أتغير، ساق من خلاله العبر في حركة الكون واستمراريتها وتفاعل البشر الحي مع هذا التغير، قرار غير توجه المفكر السعودي وتعامله مع الأحداث، قفز إلى الأمام وحاول الخروج من قيد الظروف والبحث عن مساحات التوافق والعمل المشترك وتجنب الخوض في كل حدث له علاقة بالزمن إلا المستقبل، فأطل بتجربة اتبعه فيها الكثيرون، وانتشرت صوره مع أطفاله كرمز لصناعة الآتي، لنسيان الألم والماضي والحاضر بجراحاته التي تمنعنا من الحركة حسب منهجه (لا تقصص وجعك على أخيك) و#نسيت.
حاول الشيخ سلمان العودة إيجاد مساحة يعمل من خلالها ويرمي للقادم البعيد دون التفاتة واحدة على الماضي والتفاعل معه، وأن يخرج من شرنقة الحدث الذي قد يسجن فيه إذا تفاعل معه! وصمت حتى سجنه صمته!
منهجية تعد جيدة للأحداث الفردية التي تخص حالات معينة، يمنعها الماضي من التقدم إن حاولت الالتفات إليه، ولكنها تتناسى أن للماضي قوة حاضرة، لا تنفك تتلبسنا إن لم نجد التدرع منه، والتركيز على أهدافنا.
تجاهل الماضي وركامه المخيب للآمال والانطلاق للمستقبل جيد جدًا، ولكنه سيظل ركامًا يحتاج النظر، وأن نتعامل معه بلا خوف ولا مواربة، وأن نصافحه ونتصالح معه تمامًا مثل قدرتنا على التصافح مع #الموت وفكرة الرحيل، هذه القدرة الخلاقة القادرة على الذهاب بعيدًا للأمام وصناعة المستقبل، يصدمها هول الحاضر والأمس المثقل إن لم تتصالح معه وتراجعه وتتراجع عما قيده منها؛ لأنه سيقيدنا يومًا وإن اخترنا الصمت!
هيا إعادة لمنهج مماثل سار عليه سير أحمد خان، الذي دعا أتباعه الى التعاطي مع التواجد البريطاني آنذاك؛ لأنه كان واقعًا لا يمكن مواجهته، وكان الأرجح حسب رؤية خان أن لا يتم التضحية بشباب الأمة، ودعاهم إلى التعلم في المدارس البريطانية وتهذيب الأخلاق والتربية الإيمانية والحفاظ على بيئة خارج نطاق الصراع والعمل على تدعيم أدوات المستقبل، والاستفادة بقدر الإمكان من المساحات المشتركة مع أضداده دون الدخول في صدام لا يملكون القدرة على دفعه.
انتقد المفكر والشيخ جمال الدين الأفغاني صاحب التجربة الكبيرة التي سنأتي على ذكرها انتقد منهج أحمد خان، واعتبره تخاذلًا وتجاهل لما تمر به الأمة في ذلك الوقت؛ إذ كانت بلدان عدة تحت حكم الاحتلال الغربي، ومنها بلد خان الواقع تحت سيطرة القوات البريطانية، انتقده الأفغاني بشدة وقال: إن خان اختار أن يذهب بعيدًا حتى في مظهره الموائم للحضارة الغربية، حتى ينال القبول!
صورة (تجديد) قديمة لها عمقها، وتم استعمالها مؤخرًا من قبل الكثير من (الدعاة الجدد).
2- سفر الحوالي.. الغرق في الماضي
محاولة القفز على جبل الخيبات الذي أوقفنا يدفعنا لتبني مشروع ضخم وهائل وناجح نبحث فيه عن مخرج لحل أزماتنا ونبذل فيه قصارى جهدنا لينقذنا من واقع نتمناه أفضل، لا يعني الذهاب بعيدًا، وأن تسجن وتقيد فكرك هناك وتكرر ذات الدواء لذات العلة.
ماذا فعلنا له؟ كانت ردة فعل كولمان عميل المخابرات الأمريكية (إف بي آي) عندما كان يستمع لخطاب وتهديدات ابن لادن لأول مرة.
ذكرني كتاب سفر الحوالي (المسلمون والحضارة الغربية) بردة فعل سيد قطب عندما ابتعث لأمريكا، فها هو يكتب لصديق له في القاهرة فيقول: (أمامي وأنا أكتب إليك هذه الكلمات في مطعم من رباط عنقه بدلًا عن صدريته. هذا هو الذوق الأمريكي الغالب في شاب أمريكي على صدر قميصه ضبع باللون البرتقالي الفاقع، ويجثم على ظهره فيل كحلي الألوان. والموسيقى! وإن لذلك حديثًا آخر ليس وقته الآن) وفي خطاب آخر يقول: (شيء واحد لا قيمة له عند الأمريكيين، وهو الروح. وإن بحثًا قُدﱢم للدكتوراه في إحدى جامعاتهم عن أفضل الطرق لغسل الأطباق قد بدا لهم أهم من الإنجيل أو الدين).
صورة مثقلة بالهموم والأكدار وشدة التضييق على الفكر بطريقة مترادفة من السلطة المركزية والمركزية الدينية التي أقفلت باب الاجتهاد، وجعلت من يحاول فتح بابه غريبًا محاصرًا.
(ان المذاهب الأربعة الرشيدة هي بمثابة أفضل النتائج وتلخيص لكافة المذاهب الأخرى؛ لأنها تعتمد على رجال عديدين قد كرسوا حياتهم من أجل البحث عن الحقائق وأصبحت لديهم معلومات شاسعة وعميقة. والابتعاد عن هذه المذاهب الأربعة يوضح الرغبة بالعيش في أخطاء) هذه الفتوى أطلقها الأزهر في أوائل القرن التاسع عشر وترسخ فتاوى سابقة قديمة منذ منتصف القرن العاشر بخصوص إغلاق باب الاجتهاد، فتوقفت هناك حركة الإبداع والتطوير، في حين كان الغرب يبحث في أنقاض الماضي ويخطو بالبحث والعلم والنقد (الخالص) للعقل وتحريره من معوقات النهضة والبناء ونجح، أما ( الأصوليون) فآثروا السفر بعيدًا عند نقطة التوقف، عند آخر عهد بالحضارة حسب وجهتهم، أما منهجهم فهو العودة لما كانت عليه الأمة.
إن أبرز ما يقدمه (الأصوليين) عداؤهم للحضارة الغربية، أو لنكن أكثر إنصافًا رؤيتهم بأن الحضارة الغربية وقيمها وأفكارها وقوتها وميكنتها العالية وهيمنتها على جل صور الحياة إنما هي السبب الأساس في تخلف بلدانهم لماضيها الاستعماري الذي خلف وراءه دولًا منقسمة وحكومات رهينة له بشكل أو بآخر، جعلت هذه البلدان في صراع مرير مع إرثها، بين فكي رحى العسكر والأصولية.
وأن يخرج لنا بعد ما خابت آمال البعض بما يسمى الربيع العربي مؤلفًا في أكثر من ثلاثة آلاف صفحة يعيد ترسيخ تلك الأصولية وعقدة الغرب التي لم تستطع تجاوزها، مع أن الكتاب موروث ثقافي زخم بالأحداث يعد مرجعًا بحثيًا تجميعيًا، وقراءته النقدية لا تتجاوز أفكار قطب، وإن كانت أيضا توازي فكر ابن لادن وغيرهما.
3- د. علي الصلابي.. التوسط والاعتدال
يقول سعد الدين إبراهيم عالم الاجتماع: (إن تاريخ العالم العربي هو تاريخ حركات إحياء إسلامية تظهر عقب فشل هائل لنظام الحكم القائم).
تبدو الحركة الإصلاحية الأقرب إلى النموذج النقدي الهادف إلى دراسة الماضي والبحث عن آثاره المضيئة، واستخلاص النتائج والعبر، وتقديم أسلوب ابتكاري خلاق شبيه بما قدمه الشيخ جمال الدين الأفغاني.
كان الأفغاني شخصية بارزة ومهمة للغاية في الحياة الدينية والسياسية لجماهير الناس المتواجدين في المناطق الإسلامية مصلحًا مناضلًا من أجل دعوته.
جمال الدين الأفغاني يبحث عن حلول ابتكارية إسلامية للمشكلات التي تواجه الأمة، والتمسك بالأصول وإصلاح المجتمع بعقيدة السلف الصالح والثبات عليها، والتركيز على الدراسات العلمية وإصلاح التعليم، وذهب إلى ضرورة التعلم من الغرب دون الذوبان في فكرهم، بل استخدم ذات المنهج النقدي العلمي في دراسة أوضاع الأمة ورفع سقف الاجتهاد وتمسك بأصولها وثوابتها، مقدمًا فكرًا شموليًا إصلاحيًا كان سببًا في نشأة جيل كامل ذهب خلف مدرسته وأضفى إليها وأخذ منها. منهم تلميذه الشيخ محمد عبده الذي عمد إلى إصلاح التشريعات، ومحمد رشيد رضا الذي قدم نموذجًا كاملًا للدولة الإسلامية، اشترك هؤلاء في دعوتهم الإصلاحية الفردية، وبذلك اختلفوا عن منهج الأصوليين في تكوين جماعات وحركات منظمة لها قاعدة شعبية تحقق أهدافها.
أما النظرة للغرب بين الإصلاحيين والأصوليين فتعد مختلفة، بينما كان الغرب مستعمرًا للأراضي المسلمة، نادى الأفغاني بضرورة الجهاد ضده، واعتبره محتلًا يجب طرده وهذا واقع الأمر، أما الجهاد عند الأصوليين فتبنى توجيه ضربات للغرب في دياره وبصورة فردية تتحدث باسم الأمة، في حين نظر الإصلاحيون إلى أن الغرب تفوق علميًا، ودعوا إلى ضرورة تبني رؤاهم وتجربتهم العلمية، بل السعي في تعلمها من ديارهم وإدخالها لحياتنا اليومية دون التأثر بالنتاج الروحي لهذه الحضارة، وذلك بتعزيز الإيمان والتمسك بالقرآن والسنة، أما من الناحية السياسية فيرى أن الحكومة البرلمانية لا تخالف مبادئ الدين الإسلامي وتتماشى معه.
وهذا ما طرحه الدكتور علي الصلابي ضمن كتابه (البرلمان)، ونظرته للتاريخ الإسلامي نظرة دراسة علمية واستكشاف المواطن المضيئة من تاريخ الأمة وتقديم الدروس والعبر، ويعتمد أيضًا على نشر الدروس الإيمانية والروحية التي تعيد لهذه الأمة تمسكها الصحيح بالكتاب والسنة والنشأة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح.
الإبحار في الماضي دون غرق، ومواجهة أخطائه، بل حتى التراجع عنها وإصلاح ما يمكن إصلاحه والقفز على حباله الشائكة وتجاوزها والتعلم من عثراته. دعوة يطرح منهجها (الحداثيون) أصحاب المنهج التجريبي الذي كان لابد من التعريج عليه وطرحه، ولكنها تبدو تجربة لم تكتمل أركانها وليس لها تاريخ وعمق في ميراثنا، تبدو أشد ما نحتاج إليه في دراسة الماضي، دراسة علمية تحتاج لصدق وإخلاص يتوقف عند الوهن ويعالج أثره ويمنع امتداده.
أصحاب المدرسة الأصولية يبدو ومن خلال ما طرحه الشيخ سفر الحولي مؤخرًا، وإن كان يحوي اجتهادًا كبيرًا، ولكنه لا يجيب عن عمق الحدث وأثره ولا ينطلق من الأمة لمعالجة أخطائها، بل اعتمد ذات المدرسة الأصولية القديمة في البحث عن شماعات تحمل أوزارنا!
خرجت جماهير مصر تملأ الميادين ترفض حكم مرسي؟ واحتضنت بنغازي عاصمة الشرارة لثورة فبراير (شباط)؛ احتضنت حفتر ودعمته؟ ولفظت تونس بقايا حزب النهضة بشكله القديم، حتى تغير؟ تلك الجموع التي التفت حول التغيير هي من تظاهرت ضده، بل ضد تجربة حكم الإسلام السياسي التي انتهت سريعًا.
نحتاج إجابات عميقة من التاريخ والحاضر تواجه بها هذه الجماعات فشلها دون البحث عن عوامل خارجية لها أثرها، ولكنها خارج أثر ميراث الأمة الصحيح.
عاد العودة للأمام بعيدًا وتغافل عن حاضره، وسافر الحوالي للوراء بعيدًا متجاهلًا ما صنع أهل حاضره، واختار الصلابي أن يخرج من حدة الصدام بمنهج معتدل متوسط يلتمس من الأمس آثارًا مضيئة ويرسخ للحاضر القيم و(معالم في الطريق ) برؤية إيمانية مختلفة.
نحتاج إعادة قراءة الماضي ونقده، ونحن نشارك ونتفاعل مع الحاضر بتأن وصدق وإعمال للعقل بروح هذه الأمة.
(المصدر: ساسة بوست)