مقالات مختارة

نحن والإسلام السياسي.. عود على بدء

بقلم عزام التميمي – عربي 21

أذكر أنني في أول زيارة لي إلى اليابان في عام 1999، شرح لي صديق في جامعة كيوتو سر اهتمام اليابانيين بتبادل بطاقات البيزنيس كارد مع من يلتقونه لأول مرة قبل أن يدخلوا معه في أي كلام. فهمت حينها أن اليابان مجتمع طبقي ولغة الخطاب تتكيف مع الطبقة التي ينتمي إليها المتخاطبون، ولذلك يحتاج مخاطبك إلى معرفة طبقتك سواء العلمية أو المهنية حتى يتخير اللغة المناسبة للخطاب. وكلما كان المخاطب أرفع درجة من مخاطبه ازدادت لغة الخطاب تعقيدا. ولذلك فإن أبسط الناس لغة في اليابان هو امبراطورها، لأنه فوق الجميع، ولكونه فوقهم جميعا فإن بإمكانه أن يخاطبهم بأبسط لغة، بينما من يخاطبه منهم لابد أن يرتقي بلغة الخطاب إلى أعلى مستوياتها.

في هذا النموذج، بطاقة البيزنيس كارد هي ما يحدد هويتك ودرجتك، وبذلك فأنت الذي يحدد أين يضعك الآخرون وكيف يصنفونك بناء على ما ذكرته في البطاقة من معلومات. وهذا يشبهه إلى حد ما العرف المتبع في بريطانيا في كثير من الدوائر الرسمية، وخاصة الصحية والتعليمية منها، إذ يرفق بالطلبات أو الأوراق الرسمية في العادة ما يشبه الاستطلاع عن العرق الذي ينتمي إليه صاحب الطلب أو المعاملة. فهناك على سبيل المثال الأبيض، وهذا يشتمل على تقسيمات، ومقابله الأسود وله تقسيماته كذلك، وبينهما يأتي الآسيوي بمختلف تفريعاته، وأخيرا هناك ما لا يقع ضمن أي من هذه الدوائر مما يسمى “الغير”. وفي هذه الحالة صاحب العلاقة هو من يحدد هوية ذاته، ويُقبل منه ذلك دون مساءلة أو مراجعة. ليس الهدف من مثل هذه الاستطلاع التمييز بين المواطنين على أساس اللون أو العرق، وإنما الاستفادة من المعلومات في الأبحاث العلمية أو في إعداد الإحصائيات وربما التأكد من إنصاف الناس في الخدمات أياً كانت أعراقهم أو ألوانهم.

ليس الأمر بهذه البساطة عندما يتعلق بالإسلام. فلا يكفي اليوم أن تقول إنك مسلم وقد باتت للإسلام في تصور الآخرين وجوه كثيرة وعناوين متعددة: سياسي وغير سياسي، ملتزم وغير ملتزم، سلمي وعنفي، مدني وجهادي، متطرف ومعتدل، أصولي وحداثي، ومتعصب وليبرالي، إلى آخره. وهذه التصنيفات في مجملها ليست ذاتية، وخاصة إذا كانت سلبية الدلالة، فمن ذا الذي يسمي نفسه مسلم متطرف، أو مسلم عنيف، أو مسلم متعصب؟ كثير من هذه التصنيفات إنما يقصد بها الإقصاء والتهميش وحتى الإساءة والتشويه، ولذا لا يختارها أحد لنفسه.

وكذلك الحال بالنسبة لمصطلح الإسلام السياسي، فهو في الأصل تصنيف الآخر لقطاع من المسلمين تصنيفا نابعا من ثقافة هذا الآخر وتجربته مع دينه هو وضمن سياق تاريخ أمته هو. إنه تصنيف مؤسس على فكرة الفصل بين الدين والسياسة التي ولدت من رحم النضال الأوروبي في سبيل الانعتاق من سلطان الكنيسة الذي استعبد الناس وأخضعهم لا لله بل لرجال ادعوا الولاية عن الله، ففسدوا وأفسدوا، وتغولوا حتى ذهبوا يبيعون صكوك الجنة لمن يرضون عنهم ويوردون الجحيم من باء بسخطهم.

نحن من يطلق علينا وعلى جماعاتنا مصطلح الإسلام السياسي لم نبادر إلى إطلاق هذا المصطلح على أنفسنا ولم نرتح له يوما وإن تعايشنا معه اضطرارا بعد أن ساد وانتشر على نطاق واسع، وقبلنا به على مضض على اعتبار أنه في العموم إنما يُقصد به من يفهم الإسلام على أنه عقيدة وشريعة ويتخذه مرجعية مركزية في حياته.  وهذا أمر لا نستحيي منه ولا نتردد فيه، بل نعتبر أننا كمسلمين لا يقبل الله منا إلا أن نكون عبيدا له دون سواه في كل أحوالنا، نطيعه في كل ما أمر ونتجنب عصيانه في كل ما عنه نهى ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

قبل الانقلاب العسكري في مصر ووأد الديمقراطية الوليدة قل أن تسمع أحدا ممن ينسبون إلى تيار الإسلام السياسي يعترض على هذه النسبة أو يتنكر لذلك التيار. بل غدا الانتساب إلى الإسلام السياسي الذي ينتهج السلمية سبيلا للتغيير ويعتمد الديمقراطية آلية للحكم ويؤمن بالتعددية مظهرا من مظاهر الرقي والتمدن أمرا مقبولاً بل وممدوحا. ولا أدل على ذلك أنني لم أجد اعتراضا من أحد من رموز وقيادات ومفكري التيار الإسلامي “الوسطي” عندما اخترت عنوانا لكتابي الذي نشرته دار جامعة أكسفورد في عام 2001 “راشد الغنوشي ديمقراطي بين الإسلاميين”، مع العلم أن مصطلح الإسلاميين يفهم منه ضمنا أولئك الذين ينتسبون إلى تيار الإسلام السياسي.

وكم عقدت ندوات ونظمت مؤتمرات ورتبت لقاءات خلال العقدين السابقين على انطلاق الثورات العربية تحاور فيها من يحسبون على تيار الإسلام السياسي مع مفكرين وباحثين من مختلف أنحاء العالم حول قضايا ذات علاقة بالحكم الرشيد، والآليات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والحريات العامة، والتعددية والتداول على السلطة والمشاركة فيها. كان من ثمار هذه الحوارات أن بنيت جسور وحصلت تفاهمات ونشرت كتب ودراسات.

من موقعي في لندن ساهمت شخصيا في عدد لا بأس به من هذه الجهود، وبعضها كنت المنظم لها، والناشر لما دار فيها من حوارات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، صدر لي في عام 1993 باللغة الإنجليزية كتاب Power-Sharing Islam? وصدرت له ترجمة بالعربية بعنوان “مشاركة الإسلاميين في السلطة”، وصدر لي في عام 2000 باللغة الإنجليزية كتاب بعنوان Islam and Secularism in the Middle East لم تصدر له ترجمة بالعربية ولو صدرت لكان عنوانه “الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط”، وكان موضوع رسالة الدكتوراه التي منحتها من جامعة ويستمنسترTransitional Problems to Democracy in the Arab World (أي العقبات التي تعترض التحول الديمقراطي في العالم العربي) ونشرت كتابا عن دار جامعة أكسفورد بعنوان RachidGhannouchi a Democrat within Islamism (أي: راشد الغنوشي ديمقراطي بين الإسلاميين).

كان بعض محاورينا يقولون لنا أنتم إسلاميون، فكنا نجيبهم بأننا مسلمون نفهم الإسلام على أنه عقيدة وشريعة، هو بالنسبة لنا منهج حياة شامل. كانوا يقولون حركاتكم هي حركات الإسلام السياسي، وكنا نقول لهم حركاتنا حركات إصلاح، تسعى بالحسنى لإصلاح كل ما ناله خلل في حياة أمتنا بدءا بالفرد وانطلاقا نحو الدولة مرورا بالأسرة والمجتمع. وكان بعضهم يتوجس من أن لنا طموحات تتجاوز المحلي والإقليمي نحو العالمي، فكنا نقول بكل ثقةإن الله ابتعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً للعالم أجمع، ومن واجبنا أن نتوجه إلى الناس كافة بالرسالة التي بُعث بها إلينا وإليهم. كنا نقول كل ذلك حتى ونحن قلة مستضعفة على هامش الأحداث الكبرى، نقتدي في ذلك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يبشر أصحابه المستضعفين وهم يخضعون للتنكيل على رمال مكة الحارقة بأن الله سيفتح عليهم مادان من الأرض لكسرى وقيصر، وأن دينهم المحارب في بلد نشأته سيصل حيث وصل الليل والنهار.

على الرغم مما كان لمصطلح الإسلام السياسي من مدلول سلبي عند بعض مستخدميه إلا أننا لم نر فيه عقبة ولم نتوقف عنده كثيرا، إلى أن حلت بنا أجواء الثورات العربية ما بين عام 2011 وعام 2013 وفيها غلب الجانب الإيجابي للمصطلح عند كثير من المستخدمين له، وذلك أن من ينسبون إلى الإسلام السياسي صارواهم الذين يتصدرون لقيادة الجماهير في الثورات ويفوزون عن جدارة بأصوات الناس في الانتخابات في كل المستويات. كانت لنا في تلك الأجواء لحظات افتخرنا فيها بالإسلام السياسي وبالانتماء إليه، ومن تلك اللحظات التي لا تنسى يوم الثلاثين من يناير/ كانون الثاني حينما عاد الشيخ راشد الغنوشي وإخوانه إلى تونس من منافيهم في أوروبا ليستعيدوا اللحمة مع إخوانهم الذين غيبوا وراء قضبان السجون دهرا، ليقودوا معا الحراك السلمي الديمقراطي في البلاد بعد أن أسقط الشعب حكم الدكتاتور ولفظته البلاد.

وكان منها يوم 18 يونيو/ حزيران حين فاز الدكتور محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين – أكبر وأعرق حركة إسلامية في العالم، بأول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ مصر، وكان منها فوز حزب العدالة والتنمية المغربي بالانتخابات في المغرب، وصمود حركة حماس في وجه العدوان الصهيوني الغاشم، ونجاح حركة النهضة في تونس في قيادة البلاد في ظروف بالغة الصعوبة عبر تشكيل ترويكا هي الأولى من نوعها جمعت العباد على خدمة مصلحة البلاد، وغير ذلك الكثير الكثير.

إلا أن أعراسنا الديمقراطية لم تدم طويلا. إذ ما لبث أعداء الإصلاح والتغيير في الداخل والخارج أن اجتمعوا على الكيد لثورات الشعوب، فوقع الانقلاب العسكري في مصر، وكان ذلك مؤذناً بإحباط مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة العربية بأسرها، فتوالت الكوارث في اليمن وفي ليبيا وفي سوريا وفي العراق، ونال أهل فلسطين ما نالهم من حصار شارك فيه الأقارب قبل الأباعد. وعادت عناصر الأنظمة البائدة إلى المواقع التي خرج الشعب في الثورات إلى الشوارع ليخلعها منها.

وبعد أن أقدمت دول عربية خشيت أنظمتها على نفسها من التغيير – مثل الإمارات والسعودية– إلى تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، تحركت قوى الثورة المضادة لتأليب دول العالم على الإخوان تنظيما وفكرا ومدرسة، مما تمخض عنه إجراءات تقييد وتضييق على مستوى العالم، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر استجابة رئيس وزراء بريطانيا دافيد كاميرون للابتزاز والضغط الخليجي بإجراء تحقيق في فكر وممارسة الإخوان المسلمين محليا ودوليا.

على إثر ذلك، دب الخوف في نفوس بعض الإسلاميين، وباتوا يخشون على أنفسهم ومشاريعهم، فآثروا الرجوع خطوات إلى الخلف لئلا ينالهم ما نال الإخوان في مصر من بطش وتنكيل وما نالهم خارجها من إقصاء وتهميش وتشويه.

بل لم يكتف البعض بالرجوع خطوات إلى الوراء، بل تمادى إذ ذهب يجلد الإخوان بما يصرح به من نقد جله أبعد ما يكون عن الإنصاف، ظاناً بذلك أنه يقنع خصوم “الإسلام السياسي” بأنه لم يعد من المنتمين إلى ناديه ولا حتى من المتعاطفين معه.

وللحديث بقية ….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى