نار إيران في صدور الشيعة.. أزمة الوعي ووعي الأزمة
بقلم وسام الكبيسي
تلك النار التي انطلقت من أسطح بنايات بغداد العالية إلى صدور شبابها العارية، لن تتغلغل في الأجساد الطرية قبل أن تتغلغل إلى وجدانهم كذلك، ولن تخترق قلوب الشباب المؤمن بحقه في العيش بحرية وكرامة، قبل أن تخترق عقولهم وتستفز وعيهم.
إيران وأذرع مشروعها في ورطة حقيقية، فلأول مرة هي أمام مشهد ليس من اليسير أن تختلط فيه الأوراق، ولا أن تختلق له الأعذار والمبررات، إذ إن الجيل الذي خرج رافضاً الظلم والإفساد الذي تجاوز كل الحدود والخطوط الحمراء هذه المرة، وجوبه بالاستخدام المفرط للنار والقوة، لا يمكن إلصاق تهمة البعثية به، فغالبهم لم يدرك حقبة البعث أصلاً، ولا تعني له تلك الحقبة شيئاً، وكذلك لا يمكن إلصاق تهمة الداعشية والوهابية به، فالغالب منهم هم شباب ولد وترعرع في بيوت وبيئات شيعية خالصة، وكان بعضهم حتى فترة قريبة يميل في هواه إلى المشروع الإيراني، ويشعر متوهماً بأن هذا المشروع سيوفر له غطاء الرعاية والحماية والكرامة والعيش الرغيد، قبل أن ينتبه من غفلته، فيرى أحلامه تتهاوى وآماله تتبخر، ووطنه يضيع، ويصبح ضيعة وحديقة خلفية إيرانية، وسوقاً للمخدرات والسلع رديئة الجودة أو منتهية الصلاحية، ودون أن يلمس شيئاً من الشعارات التي وعدته بتغيير واقعه وظروف معيشته، إلا اللهم ما يسمعه من وعود جديدة وكثيرة، سرعان ما تتبخر في كل مرة كهواء في شبك.
لعل من أهم ما بدأت تفرزه الأحداث الأخيرة في وجدان الشباب، وترسخه في وعيهم، أن مشكلة العراقيين الحقيقية اليوم ليست مع الدولة وعوامل الدولة، وأنها لن تنتهي باستقالة عدة وزراء أو استبدالهم، ولا بحل كامل الوزارة، أو حتى الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة، كما كانوا يظنون سابقاً، بل مشكلتهم مع عوامل اللا دولة وفوضى الفكر والسلاح وما تفرضه من تعدد لمراكز القوة والقرار، التي تضغط بدورها على قوة الدولة وتصادر قرارها، وتعطل أي محاولة لقيام تنمية حقيقية تعيد الأمل إلى قلوب الأجيال الجديدة، وتناغي أحلامهم بمستقبل يعيد الأمل إلى قلوب الأجيال الجديدة، وتناغي أحلامهم بمستقبل أفضل من الواقع الذي عاشوه خلال السنوات الماضية.
واقع عاشوه وهم يسمعون عن الإيرادات والأرصدة الكبيرة التي كانت تدخل إلى الخزينة العراقية، ويمنون أنفسهم بشيء من تحسين الأوضاع المعيشية والمرافق الخدمية، ولكنها سرعان ما تنتهي إلى جيوب الفاسدين، يضاف إليها أموال التهريب والتبييض والمخدرات التي كان العراق خالياً منها في أسوأ الظروف التي مر بها من قبل. إنهم أمام النموذج الإيراني الذي يعمل على تآكل منظومة الدولة من داخلها، وإفراغها من محتواها مع الإبقاء على هياكلها الشكلية، وبناء وتقوية منظومة موازية للدولة.
منظومة من القوى الشعبوية الفاعلة التابعة له، خارج إطار الدولة، هي التي تهيمن على قرارات الدولة وتتحكم بمقدراتها، وتحتكر الكثير من خيراتها، وتتمتع بامتيازاتها، في مقابل أن ترهن البلد لصالح مشروع ولاية الفقيه وأحلامه التوسعية، تماماً كما فعلت في إيران ولبنان من قبل، حيث تعاني شعوب البلدين من الفساد والخراب والمخدرات والجوع والفقر، في مقابل طبقة من الأثرياء الجشعين الجدد، المرتبطين بمشروع ولاية الفقيه، وكما تفعل في العراق واليمن اليوم!
الشباب العراقي بات يرى اليوم بوضوح أن السلاح الذي يواجه صدورهم العارية هو ليس سلاح الدولة، والأيدي التي تكمم الأصوات وتمنع اعتراض المعترضين وتحجر على نقل الحدث بشتى السبل، ليست يد الدولة مطلقاً، إنما هي القوى والسلاح الذي يفرض نفسه خارج إطار الدولة، وإن سعى لشرعنة وجوده بقوانين انتزعها من الدولة، أو تقوية نفوذه بشخوص منه زرعها في بعض مفاصل الدولة، وهي نفسها اليد ونفسه السلاح الذي أخمد الأصوات التي انطلقت قبل سنوات في مناطق شمال وغرب العراق رافضة المشروع الإقليمي التوسعي الإيراني، فاستشرى القتل والخطف والتنكيل وإهانة الكرامة والتغييب القسري فيهم، ولم تكتفِ أذرع إيران بذلك، بل هجرتهم من ديارهم، ورفضت عودتهم لمنازلهم حتى هذه الساعة.
اليوم نفس اليد والسلاح تمارس أساليب القوة والتخوين ذاتها بحق الشباب الرافض لتغول المشروع الإيراني في العراق، ولمحاولاته تكرار الشباب الرافض لتغول المشروع الإيراني في العراق، ولمحاولاته تكرار النموذج ونقل التجربة الإيرانية، فلم يتغير السلوك، رغم أن الرافضين هذه المرة هم شباب بعمر الورود أصابهم الإحباط واليأس، غالبهم من أبناء المدن والأحياء ذات الأغلبية الشيعية، وذلك يبني وعياً جديداً يتمثل في أن القوى التي تريد التغول على الدولة العراقية لا تفعل ذلك لأجل عيون العراق ولا لأجل مصلحة العراق، بل ولا لأجل حماية الشيعة، بل لارتهان العراق بكل أطيافه، مع كل خيراته ومقدراته وشبابه، لصالح مشروع توسعي ما فتئ يفرض على المنطقة حالة من الصراع الطويل، صراع تنعدم فيه حالة الاستقرار وفرص التنمية، ويطل منه الموت والخراب والدمار والثارات المتوالية لعقود طويلة وأجيال عديدة، لا يستفيد منها إلا المتربصون بهذه المنطقة، بينما الخاسر الأكبر هي شعوبها وخيراتها ومستقبل أجيالها.
قد نذهب بعيداً في رهاننا حتى على الشباب الذي انتمى إلى الفصائل التي أعلنت ولاءها للولي الفقيه، فأغلب هؤلاء الشباب دفعتهم الغيرة على البلد من أن يسيطر القتلة المجرمون من داعش عليه، وها هم يرون اليوم بأعينهم نفس أفعال داعش تستهدف خيرة الشباب من إخوتهم وأصدقائهم وأبناء أحيائهم، ولكن بثوب وقناع وسلاح إيراني هذه المرة! وبتنا نسمع بعضاً ممن كان لهم حضور فاعل، وكانت لهم أصوات قوية وظهور إعلامي في تأييد الفصائل الموالية لإيران، وهم ينتقدون سلوكها العدواني وتصريحاتها العدائية حيال المتظاهرين العزل، بل وينتقدون التدخل الإيراني نفسه، ويرونه خطراً على البلد حاله حال كل التدخلات الدولية والإقليمية الأخرى.
إذا كان الثمن العراقي الذي تم دفعه كبيراً في مقابل أن يتشكل هذا الوعي، فإن وعياً آخر ينبغي أن يتشكل سريعاً، وهو بدأ يظهر اليوم أيضاً عند أبناء الجيل الجديد بشكل أوضح بكثير عنه عند الأجيال التي سبقتهم وتكلس الوعي عندها وتقعر، لما تعبأت به من أحمال وحُجب ماضوية ثقيلة، ذلكم هو الوعي بتجاوز الماضي والاكتفاء بما تؤخذ منه من عِبر، وإدامة النظر إلى المستقبل، والتفكير بعقلية البحث عن المشتركات وتجميد الاختلافات التي استغلتها المشاريع غير العراقية، وغذتها الأطراف الخارجية لييقى العراق ضعيفاً ومفككاً، لأن تلك الأطراف تعلم علم اليقين أن عراقاً قوياً ومستقراً يقود ولا يقاد، ويكون دوماً في صدر المسيرة لا في ذيلها.
نعم العراق يقود بسنته وشيعته ولا يقاد، فالمدرسة الشيعية التي يدين لها الشيعة في كل العالم ولدت وترعرعت في العراق وعاشت وتعايشت فيه مع غيرها لمئات السنين، والمدارس السنية التي يدين لها السنة في كل العالم ولد وترعرع ثلاث منها من أصل أربع في العراق (الحنفية والشافعية والحنبلية) وعاشت وتعايشت فيه مع غيرها لمئات السنين، ومدارس النحو والصرف والبلاغة والشعر الرصين كانت ولا زالت تتردد بين جنبات البصرة والكوفة وبغداد، وهذه التشكيلة المتنوعة في العراق من سنة وشيعة، وعرب وكرد وتركمان، ومن مسلمين ومسيحيين وأيزيديبن وصابئة… وغيرهم، كانوا مصدر قوة في العراق الذي يقود، كما أصبحوا اليوم عبئاً ومصدر ضعف في العراق الذي يقاد للآخرين، والرهان على الجيل الجديد في قدرته على اكتشاف المعادلة الصحيحة في إدارة التنوعات والتخفيف من حدة التناقضات التي لا يخلو منها مجتمع بشري، والخروج من عباءة الأجيال المتحجرة التي سبقتهم، (وهي أجيال مليئة بعقد الجهل والقهر، نشأت في ظل الديكتاتورية والكراهية والانغلاق) ونسج عباءة كبيرة تسعهم جميعاً وتتسع للوطن المرتجى والمستقبل الزاهر.
هذا العراق لا يقوم بقيام شباب السنة ضد الظلم والفساد، دون إخوانهم من شباب الشيعة كما حصل بالأمس، كما أنه لن يقوم اليوم للأسف بقيام شباب الشيعة في وجه الفساد والطغيان والإرادات الخارجية دون أن يقوم معهم -قريباً- إخوانهم في الوطن من شباب السنة وبقية الشباب من كل ألوان الطيف العراقي، ونحن نراهن على وعي الأجيال الجديدة الذي يتشكل، والوجدان الجمعي الذي يترمم اليوم من جديد. هل تستطيع إيران إخماد الاحتجاجات التي أظهرت رفضاً لمشروعها بالدرجة الأساس، كما يظهر للمتابع من الكثير من المقاطع والبيانات التي استطاع الشباب نشرها لحد الآن رغم التعتيم الإعلامي وقطع وسائل الاتصال؟ أقول؛ قد تستطيع نار إيران إخماد صوت التغيير في قلوب الشباب الفتيّة هذه المرة، ولكنها لن تستطيع انتزاع الوعي الفكري والوجداني الذي بات يتشكل في داخلها (حتى وإن بدا صغيراً في هذه اللحظة التاريخية)، وقد تتمكن بعض الوعود التي يقدمها القائمون على الشأن العراقي اليوم من تهدئة الشارع إلى حين، ولكن الأزمة ستظهر من جديد وبشكل أقوى وأوضح، ما دامت المعالجات قاصرة عن معالجة السبب الأقوى والأوضح للأزمة، متمثلة في ضعف الدولة وطغيان عوامل اللا دولة وارتهان قرار العراق وسيادته لصالح القوى الخارجية، فهذه الوعود تظهر كالذي يعالج الحمى بضمادات لخفض الحرارة عند شخص مصاب بمرض خبيث، وهي معالجات لا تزيد الورم إلا تغولاً واستفحالاً، ولا تزيد الجسد إلا ألماً ومقاومة، ولن تساهم الوعود على الورق، ولن تزيد الأيام والشهور التي تتوالى، إلا في ترسيخ الأزمة واستفحالها، ويبقى الرهان على قوة جسد العراق الذي يصنعه شبابه اليوم، بأنه سينتصر على هذا الورم المستفحل يوماً ما، وقد يكون أقرب مما يتوقع الظالمون، خصوصاً إذا انحازت عوامل ومؤسسات الدولة إلى وعي الشباب وأصابتها العدوى منه، ونرجو أن يكون ذلك سريعاً، حقناً للدماء، وتقصيراً لمسافة التيه والضياع والانحدار.
هذه الأحداث التي تجري في أزقة بغداد والناصرية والديوانية والسماوة والبصرة والعمارة وواسط، وحتى النجف وكربلاء، وما رافقها من تحريضات وتصريحات إيرانية جاءت على عدة مستويات، أسقطت فرضية أن إيران هي حامية الشيعة، وأكدت للجيل الشيعي الجديد بوضوح أن إيران لا تخدم شيعة العراق بل تستخدمهم، ولا تحميهم بل تحتمي بهم، ولا تدافع عنهم بل تدفع بهم درعاً واقياً أمام مشروعها، ولا تمولهم بل تستغل أموالهم، ولا تقاتل دونهم ودفاعاً عنهم، بل هي تقتل وتقاتل بهم، وقد تقتلهم إذا اقتضى الأمر، وذلك في حال فكروا بالخروج من عباءة مشروعها التوسعي، وأرادوا لأنفسهم شق طريق آخر للوعي، بعيداً عن نظرها ونظريتها ومنظورها الذي ليس عليه إجماع شيعي، لا من جهة الفتوى، ولا من جهة التنظير والفكر العام.
الأمر إذن باختصار وبمنتهى الوضوح والصراحة.. الصراع على الأرض في العراق ليس بين الشباب والدولة، بل ينبغي الصراع على الأرض في العراق ليس بين الشباب والدولة، بل ينبغي أن نراه جميعاً بعين الوعي الذي يصنعه الجيل الجديد من شباب العراق، إنه صراع بين الشباب والدولة والوطن من جهة، وعوامل اللا دولة التي تزرع الخوف، وتحمي الفساد، وتبث الكراهية، وترهن البلد للمشاريع الخارجية من جهة أخرى، إذا كنا حريصين فعلاً على استعادة العراق، وإحياء دور العراق. وهو صراع يعكس في جوهره أزمة حقيقية كبيرة يواجهها المشروع الإيراني، ولا أدري كيف سيحلها دون أن يخسر كثيراً.
(المصدر: الخليج أونلاين)