قراءة أ. محمد حشمت إبراهيم
في هذه الحلقة الثانية والأخيرة نستعرض بعض الأسباب التي تؤدي بالشباب إلى الوقوع في براثن الإلحاد، مع ذكر توصيات الكاتب حيال الخطاب العقدي وضرورة تجديده.
الاقتراب بالعدسة: الإلحاد وشبابنا
يقترب الكاتب هنا أكثر من الحالة الدينية والعقدية للشباب، فيرصد عبر عدسته أن ثمة حالات تمرّد آخذة في التوسع بين القواعد الشبابية ضد القيم والمبادئ الدينية، في بعض الدوائر والشرائح، ويعزو ذلك لعوامل متعددة أهمها:
1. «الانتفاخ المعرفي»! والذي عرّفه بأنه انفتاح معرفي هائل «يحقق دورًا تثقيفيًا حقيقيًا إلى حد ما»، كما يخلق حالة من «وهم الثقافة»، وذلك بفعل تلك المعرفة الأفقية السطحية التي تتحصل من مواقع التواصل نتيجة «جرعات معلوماتية مخففة ومبعثرة، تخلق مع الوقت حالة من الانتفاخ المعرفي الخاوي»!.
وتلك الحالة تسببت في قدر من الوعي الثقافي بشقيه «الحقيقي» و«الوهمي»، فتضاءل هامش المعرفة بين طبقة الدعاة وطلبة العلم والمشايخ والمفكرين والمثقفين، وأصبح الخطابُ الشرعي المحلي ما يملأ العين في حس كثير من الشباب.
2. غلبة القيم المادية العلمانية: وهذا المزاج الليبرالي المهيمن على عالمنا اليوم، وانتشار سُلطة ثقافته مع ضعف الأُمّة وجهازها المناعي الذي أدى إلى إعادة تشكيل العقول والتصورات تحت تأثير وضغوط تلك السلطة الغالبة للثقافة المهيمنة.
3. ازدياد الشعور لدى الشباب بسلبية الخطاب الديني أمام الظلم والاستبداد وسلب الحقوق، وهذا ظاهر في الخطاب الديني الرسمي.
ونبّه الكاتب لأربعة أمور مهمة في هذا الصدد:
أولها: أنه ليس شرطًا كي نتحرك أن يبلغ الانحراف في قيمته الكميّة رقمًا شديد الارتفاع، لا سيما وهذا الأمر يكتنفه الكثير من التكتم والحذر في المجتمعات العربية.
التنبيه الثاني: أن المعوق اللغوي كان له دور كبير في منع تسرب كثير من الخطابات الإلحادية الجديدة، إلا أن هذا العائق كاد أن يتآكل في ظل حملة محمومة لترجمة كثير من المواد الإلحادية للغة العربية [1].
التنبيه الثالث: أن إحدى المشكلات الكبيرة التي يعانيها الكثير من الشباب في تأسيس رؤاهم العقدية تكمن في ثقتهم العمياء بصحة ما هم عليه، وهذه الثقة تحمله على الانفتاح على أي فكرة مخالفة مستشعرًا بسبب مخزون الثقة أنه قادر على مناظرة مخالفيه، والتعرض لشُبهاتهم وأفكارهم بالنقد، والمشكلة الحقيقية أن حالة الثقة هذه ليست ناشئة من معطى علمي ومعرفي حقيقي وإنما هي نفسية عاطفية قابلة للانهيار مع أول تماسّ مع الشبهات والإشكالات.
التنبيه الرابع: أنه لما كانت تجليات الحالة الإلحادية في مجتمعاتنا العربية ليست ناشئة عن نظر عقلي معمّق، ولا قراءة ولا بحث جاد، فإنها تؤول إلى حماسة في الدفاع عن الأفكار دون وعي مع قدر كبير من العدوانية في التعاطي مع الخطاب الديني بشكل عام، مصحوبًا بلغة شديدة البذاءة والإسفاف، متسترة بـمُعرّفات مستعارة تسمح لهم بذلك التناول الموغل في الانحلال لا يستطيعه الشخص السوي أن يفعله باسمه الصريح.
كيف يُطور الخطاب العَقدي؟!
شرع الكاتب في ذِكر بعض الحلول العملية للتعامل مع الظاهرة الإلحادية الجديدة، فقد أخذ في الجواب عن سؤال يطرح نفسه، مفاده: «لماذا يجب علينا الإسهام في السجال العالمي الدائر مع الملاحدة؟» وأسس لذلك الوجوب بأمور، أهمها:
1. تطوير الأداء
1. أن أمة الإسلام هي أُمّة الاستجابة، وهي المكلفة شرعًا بدعوة غيرها من الأمم، وبالتالي الواجب عليها التعاطي مع «الملحدين» باعتبارهم جزءًا من أمة الدعوة.
2. أن ثـمّة شرائح إسلامية واسعة تعيش في المجتمعات الغربية وتحتك بشكل مباشر مع قطاعات مُلحدة، وهم في حاجة إلى خطاب عَقَدي ودعوي يُثبّت المسلمين على دينهم، وهذا من أوْلى الواجبات.
3. أن مثل الأفكار المتمددة في المجتمعات الغربية ستُرد علينا وسيتم استيرادها إن عاجلاً أو آجلاً، وهذا يدلنا على أهمية وجود عمل استباقي لتخليق الحصانة المطلوبة.
وختم تلك الأسباب بسبب مصلحيّ مهم، يتعلق بطبيعة إدارة المعركة مع الملاحدة عالميًا؛ وهو أن الكثير من الإسهامات المتعلقة بهذا الملف على مستوى الكتابة والمناظرة تدار بشكل كبير من خلال جهود نصرانية.
ورغم أن كثيرًا مما يطرحونه يصلح لمناكفة الفكرة الإلحادية، إلا أن ثمة حمولة عقدية شديدة السلبية. وذيّل الكاتب تلك التوصيات بنظرة سريعة في واقع المكتبة الشرعية حيال قضية الإلحاد، وذكر فيها بعض الجهود[2] مشيرًا إلى أن الكتابة العربية ما زالت شديدة الضعف حيال تلك القضية، مشددًا على دور كل الطاقات العلمية في مختلف التخصصات في ذلك الأمر.
2. ضرورة تحري «المبادئ الأخلاقية» في تناول الظاهرة
وحث فيه الكاتب على ضرورة تحري المبادئ الأخلاقية، كالصدق والعدل والدقة والموضوعية، وانطلق من كون ذلك «قيمة شرعية واجبة» كما قال الله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وكون الصدق والعدل في وصف الظواهر هو «أولى خطوات تحقيق الفهم السليم» لها، كما أن عدم التزام تلك المبادئ يفتح المجال أيضًا لتسلط المخالف على أهل الحق عند انكشاف الخلل في الرؤية المقدمة، فلا ينبغي تجاوز الصدق في توصيف الواقع تحت أي ذريعة من الذرائع؛ ليحسّن التفاعل مع الأمور كما هي، ومعرفة طبيعة الحظاب المراد توليده لمواجهة الظاهرة.
3. عدم تسطيح الظاهرة الإلحادية
ويقصد الكاتب هنا ضرورة عدم التعامل بسطحية مع الظاهرة، مثل أن ينظر البعض لمن وقع في هذه المشكلة على أنهم «محبو شهرة» يريدون فقط الظهور فيركبون هذه الموضات للوصول لأغراضهم الخاصة.
وهذا بالطبع يتنافى مع حال عامة الشباب المتأثر بالخطاب الإلحادي والذي يمارس ما يمكن تسميته بـ «التقية الاجتماعية»، حيث يظهرون التدين في محيطهم العائلي ويخفون تأثرهم العقدي، فلا محل للشهرة هنا، ومن التسطيح أن يظن أحدهم أن من ابتلي بهذا الأمر يكفيه لعلاج الأمر مجرد كتيب أو مطوية أو مقطع مرئي في خمس دقائق، فالواجب ترك التسطيح في الإدراك وكذلك في التناول العلمي وكذلك في المعالجة.
4. تجديد الخطاب العقدي استجابة للنازلة
ويعمد الكاتب هنا إلى مناقشة نقطة مركزية في غاية الأهمية وهي كيفية تجديد الخطاب العقدي ليكون مناسبًا في لغته وترتيبه وأنماطه الاستدلالية لطبيعة المرحلة التي نعيشها، ويمكن تلخيص ذلك في إيجاز شديد كالتالي:
– ضرورة العناية بقضايا توحيد الربوبية، وعدم الاكتفاء بإحالة الإشكالات والتساؤلات الناتجة عن جهل هذا الجانب إلى الفطرة، بل ينبغي تأصيل وتثبيت ذلك الباب.
– يلزم طالب العلم اليوم وخصوصًا المختص بالمجال العقدي التعرف على مختلف الأوجه الدلالية على وجود الله تبارك وتعالى وطرائق البرهنة والرد على الاعتراضات على نحو مرتب ومحكم.
– ينبغي التجديد في صيغ وقوالب بعض الأدلة العقدية في هذا الباب، وممارسة شيء من العصرنة اللفظية، والاستفادة مما استجد من المعارف والعلوم لتناسب المزاج العلمي المهيمن على الكثيرين، ومن ذلك تفكيك بعض الأدلة وإخراجها من قوالبها المركزة والمختصرة بالنظر في بنيتها الداخلية والبرهنة على وجه إفضاء الدليل إلى المطلوب.
5. درء تعارض العلم التجريبي والنقل
واختصر الكاتب الكلام هنا بأننا بحاجة إلى مشروع من جنس المشروع الذي طرحه الإمام ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل»، حين عالج على نحو عميق سؤال العقل والنقل وقدم تصورًا شرعيًا لطبيعة العلاقة بينهما.
ولم يغادر هذه النقطة حتى حذر من بعض المعارف الطبيعية المزيفة والمتوهمة التي يعمد إليها البعض لتعضيد الموقف الديني؛ كمحاولة البعض الاستدلال ببعض ما كتب في مسألة تحضير الأرواح لتقرير وجود الماورائيات والميتافيزيقا بالأدوات العملية[3].
6. ضرورة تقديم روئ نقدية هجومية وعدم الاكتفاء بالمدافعة
ويشير الكاتب هنا إلى ضرورة ألا يكون المنتصر للموقف الديني انهزاميًا في موقف المكتفي بالمدافعة فقط، فالقضية التي يدافع عنها ليست قضية هامشية أو ظنية بل هي أم اليقينيات الدينية، فينبغي أن يحرض المتناول للقضية على تلك الوثوقية العالية في الخطاب.
ومن لطيف المقولات ما ساقه الكاتب عن أحد الفلاسفة الفرنسيين حين عبر عن تلك الوثوقية العالية بوجود الرب تبارك وتعالى، قال: «حين يكون الإلحاد ممكنًا فسأكون أول الملحدين»![4].
فلا يليق البقاء في مربع المدافعة وتلقي التساؤلات من الضفة الملحدة، بل يمارس الخطاب الديني دوره الهجومي في طرح التساؤلات والإشكالات والكشف عن مناطق الخلال في الطرح الإلحادي.
التيار الإلحادي تيار هدمي؛ يسعى أفراده إلى هدم التصورات الدينية دون أن يقدموا فلسفتهم الخاصة للوجود، ومتى ما سعوا في ذلك فمن السهل ملاحظة حالة التعجل والسطحية والحيدة عن مواضع الإشكال، وهو ما يكشف عن مشكلات كثيرة تعصف بهذا الخطاب
7. تأصيل المنهج الشرعي في التعامل مع الشبهات والإشكالات
ويضع الكاتب يده هنا على موضع شديد الحساسية لكل من يتعامل مع الملف الإلحادي بشكل عام؛ وهو أن غياب المنهج الشرعي في التعامل سببٌ مباشر لكثير من الشبهات والإشكالات، فالقلوب ضعيفة والشُّبه خطّافة، وكثرة الواردات الفاسدة على النفس لها دور هائل في إفساد القلب، ولذلك قالوا: «لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها».
ويشير هنا إلى حالة تصيب بعض من يتقصدون موارد الشبهات والإشكالات بأن ذلك يرجع إلى شيء من «الغرور المعرفي» الذي يظن صاحبه في نفسه خيرًا، فينكشف جهله مع بواكير الشبهات التي تعرض عليه، فالسلامة لا يعدلها شيء، مع ضرورة الاعتناء بالأصول الشرعية الكبرى في مجال التعامل مع الشبهات، والاطلاع على ما يُعرف بالمغالطات المنطقية وعلوم الجدل والمناظرة على غير ذلك من العلوم اللازمة للمتصدي لتلك القضايا.
8. ترسيخ الحضور القرآني في قضايانا الفكرية والعقدية
ويختم هذا الكاتب تلك التوصيات بضرورة ترسيخ الحضور القرآني، جازمًا بأن أكبر التحديات التي يراها هو إعادة النص القرآني إلى الصدارة ليكون الأصل الذي يُبنى عليه فهم الدِّين، وأن أعظم ما يمكن أن يتحقّق للدعاة من نجاحات يكمنُ في إحداث ذلك التفاعل الإيماني العميق بالنص القرآني، مرشدًا إلى أن من أحسن الكتب التي ترسخ ذلك الشعور الإيماني، ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز – رحمه الله- بعنوان «النبأ العظيم».
ثم اختتم فقرات الكتاب بآت سورة غافر [56: 64] في ذكر الذين يجادلون في آيات الله، وآيات من أواخر سورة الجاثية [24: 37] في ذكر من قالوا إن هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر! إلى قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [5] .
[1] بطبيعة الحال قصد المؤلف هنا إلى توصيف الحالة والعائق الطبيعي أمام الهجمات الإلحادية، وليس المقصود الدعوة إلى الجهل باللغات الأجنبية، فلينتبه.
[2] ذكر من الجهود الفردية: الشيخ جعفر إدريس، والشيخ محمد العوضي، وعمرو شريف، وعدنان إبراهيم مع «تحفظات علمية وشرعية ضخام حيال ملفات علمية وعقدية أخرى»، ومن الجهود المؤسسية «مركز براهين» وهو متخصص في دراسة الإلحاد من منظور فلسفي علمي، كذلك جهود منتدى التوحيد والكُتّاب فيه.
[3] ضرب الكاتب المثال بـ وحيد الدين خان «الإسلام يتحدى»، ومحمد فريد وجدي في «الإسلام في عصر العلم».
[4] قلتُ: وقد سبق القرآن الكريم للحث على التعامل بهذه الوثوقية العالية مع القضايا العقدية المركزية، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الزخرف: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
[5] ألحق الكاتب ملاحق ثلاثة، وهي: مقال (عقولنا تحت القصف)، و(المادة النقدية للفكرة الإلحادية)، و(كتب ومراجع أجنبية متعلقة بالإلحاد الجديد)، ولا نطيل بذكرها، ويرجى الاطلاع عليها في الكتاب والاستفادة مما فيها.
(المصدر: موقع إضاءات)