ميراث العثماني الأخير.. ماذا تعرف عن منشآت السلطان سليمان القانوني في القدس؟!
إعداد محمد شعبان أيوب
كان سقوط دولة المماليك التي حكمت مصر والشام والحجاز وبرقة لأكثر من قرنين ونصف إيذانا بدخول العثمانيين إلى الأقطار العربية واستيلائهم عليها، فورث العثمانيون تركة المماليك، وأصبحوا السادة الجدد لا لبلاد الأناضول وشرق أوروبا والقسطنطينية، بل سيمتد سلطانهم من العراق إلى الجزائر، وسيصبح السلطان العثماني ملقبا بخادم الحرمين الشريفين، اللقب الذي أطلقه المماليك على أنفسهم من قبل!
دخل العثمانيون بعاطفة دينية كبيرة، عاطفة أرادت أن تعيد كل مقدّس إلى رونقه القديم بعد ضعف المماليك عن أداء المهمة بسبب صراعاتهم الداخلية، وضعف بنيتهم الاقتصادية التي وقفت عائقا أمام التجديد والتعمير في السنوات العشرين الأخيرة من دولتهم. وكانت مدينة القدس، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، محط هذه العناية والرعاية، فأحدث العثمانيون فيها ثورة ونهضة عمرانية بعد قرون من الكسل والتوقف، فما الذي فعله السلطان سليمان القانوني في حق المدينة المقدسة؟ وهل لا تزال هذه المنشآت العمرانية التي أقامها هذا السلطان العظيم في القدس باقية إلى يومنا هذا؟!
حرص السلطان سليم العثماني حين وطأت قدماه فلسطين لأول مرة على التوجه صوب المسجد الأقصى للصلاة فيه، وذلك قبيل دخوله مصر، وقضائه نهائيا على دولة المماليك في العام 1517م/923هـ، وأُثِر عنه أنه بكى بكاء شديدا ووقف يصلي في المسجد الأقصى، فكانت هذه العاطفة التي أبداها العثمانيون بداية لحقبة جديدة في حق القدس الشريف. وقد شهدت القدس أعظم نهضة عمرانية وحضارية في تاريخها على يد ابنه السلطان العثماني الشهير سليمان القانوني -وهو واحد مِن أطول مَن حكموا الدولة العثمانية- في الفترة ما بين 926-974هـ/1520-1566م، ويحكي لنا الرحالة العثماني أوليا جلبي السبب الذي دفع السلطان سليمان إلى الاهتمام اللافت بمدينة القدس قائلا:
“في عام 926هـ/1521م اعتلى السلطان سليمان العرش، وفتح قلعة بلغراد (عاصمة صربيا) عام 927هـ/1521م، وجزيرة رودس عام 928هـ/1522م، وجنى من ذلك ثروة طائلة، وعندما غدا ملكا مستقلا ظهر له النبي في ليلة مباركة وقال له: يا سليمان، سوف تحقق انتصارات كثيرة، ويجب عليك أن تنفق الغنائم على تزيين مكة والمدينة، وعلى تحصين قلعة القدس لتصد الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم خلفائك، وعليك أيضا أن تُزيّن حرمها بحوض للماء، وأن تمنح دراويشها مخصصات مالية كل عام، وعليك أيضا أن تزين صخرة الله وأن تعيد بناء مدينة القدس”[1].
ومهما يكن من صحة هذه الرواية، فإن السلطان سليمان شرع في الإنشاء والتعمير والتجديد في مدينة القدس، وعلى رأسها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، وهي المبنى المركزي والأكثر قداسة في كامل المدينة، واستمر الترميم في هذين المبنيين العظيمين مدة عشر سنوات كاملة، استُخدمت فيها مواد وأشكال وألوان وتقنيات جديدة، مثل زخرفة البلاط واستخدام القاشاني الملون بواسطة أشهر وأمهر الحرفيين والخطاطين العثمانيين.
ويأتي الرحالة أوليا جلبي على ذكر بعض أسمائهم مثل الخطاط الشهير آنذاك أحمد قرة حصاري (ت963هـ/1556م) الذي زيّن بخطه الفسيفساء الخارجية لمسجد قبة الصخرة، وهو الخطاط ذاته الذي أشرف على المهمة ذاتها في جامع السلطان سليمان (السليمانية) في مدينة إسطنبول، وقد استمرت عملية ترميم الحوائط والشبابيك وبلاط المسجد وتجديد الخطوط والبنية التحتية ومحيط المسجد الأقصى وقبة الصخرة مدة ناهزت الأربعين عاما حتى وصفه أوليا جلبي بأنه أصبح “جنة لا مثيل لها على الأرض”[2]، ولا تزال بعض نقوش الفراغ من الترميم باقية حتى يومنا هذا.
كان من أبرز العمائر التي أنشأها العثمانيون، وخاصة في عهد السلطان سليمان القانوني في مدينة القدس، إعادة إعمار السور الذي يحيط بالمدينة من جهاتها الأربعة، فقد ظلّت القدس بلا أسوار لمدة تعدّت 300 عام كاملة، منذ أن دمّر الملك المعظّم عيسى الأيوبي أسوارها سنة 616هـ/1219م، الأمر الذي تسبب في استيلاء الملك الألماني فردريك على القدس على طبق من ذهب، وفق اتفاقية مخزية مع السلطان الأيوبي الكامل محمد سنة 626هـ.
وكان سور المدينة يحميها من غزوات الصليبيين، وغارات العربان الناهبين، فأعاد السلطان سليمان القانوني بناءه بصورة مُحكمة على ارتفاع يتراوح ما بين 12 إلى 15 مترا، وعلى طول 4 كم تقريبا، وبسُمك 3 أمتار، وقد جلب له البنّائين والحرفيين من القاهرة وحلب وإسطنبول وغيرها، واستمر بناؤه خمس سنوات كاملة ما بين 943هـ-947هـ/1536-1541م، ولا يزال نقش إنشائه شاهدا على ذلك، فقد جاء فيه: “أمر بإنشاء هذا السور المبارك مولانا السلطان سليمان بن سليم خان سنة سبع وأربعين وتسعماية”[3].
وكلف بناء هذا السور نفقات طائلة بلغت أكثر من ثلاثمئة ألف قطعة ذهبية (أقجة عثمانية)، وقد أمر السلطان سليمان ببناء أبراج للمراقبة الدائمة ليلا ونهارا، لكلٍّ من الداخلين والخارجين قرب باب الخليل عام 945هـ/1538م أحد أبواب القدس الشريف، وبرج داود، وهو من أشهر الأبراج القديمة الباقية إلى يومنا هذا في القدس، فضلا عن إعادة تعمير وبناء أبواب القدس، مثل باب العمود وباب الخليل، ولا تزال بعض النقوش شاهدة على تجديدات العثمانيين وخاصة عصر السلطان سليمان[4] حتى يومنا هذا.
وإذا كان السلطان سليمان حرص على بناء وتجديد سور وأبواب القدس، وتدعيمها بالأبراج العسكرية للمراقبة الدائمة للمدينة، وحمايتها من أي عدوان أو غارات محتملة، فقد دعّم من الوجود العسكري لتعزيز الحماية والأمن في المدينة المقدسة، وذلك بإعادة بناء وترميم قلعة القدس، وكان المماليك (1250-1517م) قد بنوا هذه القلعة في بداية القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي بعد طرد آخر وجود صليبي من بلاد الشام، مخافة العودة مرة أخرى، لكن عدم اهتمامهم بعمليات الترميم، وخلافاتهم الداخلية، وحروبهم الأهلية، أثّر بالسلب على هذه القلعة، فانتابها الخراب مع الزمن، وأمست المدينة بلا قلعة تدافع عنها، وتذب غارات العربان أو اللصوص عن سكانها الآمنين.
ومن أجل حفظ الأمن في المدينة أصدر السلطان سليمان فرمانه بإعادة بناء وترميم قلعة القدس في عام 938هـ/1531م، وأخرجها من وضعها البائس الذي كانت فيه بشكل نهائي، وحرص على تخليد اسمه على حوائطها، والهدف من بنائها لحفظ الأمن على القاطنين والزائرين للمدينة المقدسة، كما حرص على إنشاء مسجد في الزاوية الجنوبية الغربية من قلعة القدس، وجعل فيها حامية عسكرية دائمة قُدّرت بمئتي جندي عثماني[5].
لاحظ الموظفون العثمانيون بعض المشكلات التي كانت تواجه سكان القدس حينذاك، جراء النقص الحاد في المياه، فضلا عن الزوار الوافدين إليها، صحيح أن المماليك والأيوبيين أنشأوا بعض الأسبلة بجوار المسجد الأقصى الشريف، ثم أضاف لها العثمانيون خمسة أسبلة جديدة (والسبيل هو المكان المخصص للمياه)، غير أن توسّع المدينة عبر الزمن كان يحتم على صانع القرار أن يبحث عن حل جذري لمشكلة المياه في القدس، خاصة أن المدينة لا تقع على أي نهر جارٍ.
وكان في جنوب غرب القدس بحيرة صغيرة تُسمى بركة السلطان، ومنها قرر العثمانيون إنشاء قنوات دائمة للمياه لتوصيلها إلى أسبلة الحرم القدسي، وبعد بناء استغرق نصف عام فقط، وصلت مياه القناة إلى الطريق الموازية للحرم من الجهة الغربية وذلك في شهر رجب 943هـ، وبعد ثلاثة أسابيع فقط ورد الماء إلى سبيل باب السلسلة أحد الأبواب الرئيسية في الجهة الغربية للحرم، ومن ذلك الموقع تفرعت قناة نحو الجنوب الشرقي باتجاه بركة صغيرة على شكل كأس شمالي المسجد الأقصى كان السلطان سليمان القانوني قد أمر بتجديده ضمن جهوده لإعادة رونق ومكانة الحرم القدسي[6].
عملت مشاريع السلطان سليمان القانوني العظيمة في مجالات المياه وحفظ الأمن وإعادة رونق الحرم القدسي الشريف على جعل المدينة المقدسة في حُلّة جديدة جذبت إليها أنظار الناس وطلبة العلم من مختلف أقطار العالم الإسلامي، حتى إن الرحّالة أوليا جلبي وصف السلطان سليمان بمجدد القدس بسبب هذه الجهود العظيمة، ولهذا السبب ارتفع عدد سكان المدينة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عند بداية حكم هذا السلطان، مما ساهم في إحداث نهضة اقتصادية وعلمية لافتة شهدتها مدينة القدس طوال أربعة قرون في عصر العثمانيين.
(المصدر: ميدان الجزيرة)