بقلم د. حسين عبد الهادي آل بكر
القومية ووحدة الأمة
لا بد من توحيد كل قومية في إطارها الطبيعي، ثم التطلع إلى تكوين رابطة إسلامية أعم من القوميات الشقيقة في إطار دار الإسلام (الولايات الإسلامية المتحدة) التي هي أرحب من أي نظام سياسي، هذا هو الحل الأمثل للشعوب الإسلامية ولمستقبلها للخروج من صراع القوميات.
ما الذي يمنع أصحاب كل فطرة اجتماعية عامة من المسلمين أن ينظموا شؤونهم المشتركة على أساس الإسلام، ثم يلتقوا مع إخوانهم في الدين من أبناء القوميات الأخرى، في إطار الرابطة الإسلامية الشاملة.
أليس في هذه الرؤيا ما يوفِّق بين القومية والدين، ويؤدي إلى تجنب الصراعات القومية واللغوية المتداخلة التي أدت إلى تفكيك الأمة الإسلامية.
إن الوجود القومي لأي شعب من الشعوب من حيث هو وجود اجتماعي تاريخي شيء، وتحويل القومية إلى عقيدة وأيديولوجية وشعوبية شيء آخر، والخطر كل الخطر في تجزئة مصلحة الأمة مما سيؤدي حتما إلى تجزئة في الإرادة.
إن اعتماد وحدة الأمة يخلِّص القضية القومية من الحرص الزائف، ويمنع وجود عصبية تؤثر على وحدة الأمة، وهذا يلغي مفهوم الأقلية بالمعنى السائد حاليا، فوحدة الأمة قائمة على شعوب مع الإقرار بتداخل هذه الشعوب بعضها ببعض، فنحن لا نتعامل مع أقلية محددة بل مجموعة عناصر بشرية تشكل الأمة بكاملها.
فكل قومية بتاريخها وثقافتها ومجموعها بشكل عام، تعتبر ضمن النَّسق الحضاري الواحد المُشَكِّل للأمة، والمؤثر بها وبخط ارتقائها، وبهذا تسقط دعاوى القوميّين الذين يعتبرون أبناء القوميات الأخرى دخلاء، لأن قاعدة وحدة الأمة تضع الجميع على قاعدة المساواة مع بعضهم البعض، ومع الأسف فإن هذه القاعدة الإسلامية الإيجابية غائبةٌ اليوم في ظل النهج السياسي المفروض عليها.
إنك عندما تجرد قومية من حقوقها لتصبح حقوق أقليات، فإن الأمر يصبح خارج إطار القواعد الأساسية التي تقوم عليها وحدة الأمة لأن إنكار الحقوق للبعض سيؤدي إلى تجزئة الوطن والأمة شئنا أم أبينا.
فإذا أردنا وحدة التراب ووحدة الأمة فلنطرح تصورنا وفق القاعدة السابقة، الحقوق قبل كل شيء، ووحدة الإنسان قبل وحدة التراب، لأن الإنسان عندما يحصل على حقوقه، هو الذي سيحمي وحدة الأرض وسيادة الاستقلال، أما وحدة الأرض المزعومة اليوم فهي لا توحد الأمة، ولا تحافظ على سيادة الاستقلال، والواقع خير دليل على ذلك.
عندما ينطلق الطرح من قاعدة الحقوق والواجبات سيرضى جميع الأطراف وستتوحد المشاعر، وتتقارب النفوس مع العدل والمساواة.
المسألة القومية وأوهام الاستيعاب السياسي
السياسة وسيلة لا غاية، وإنها بالدرجة الأولى علم تمتاز به المجتمعات الراقية، فهي تتطور بقدر ارتقاء الأمة ومؤسساتها، فالعمل السياسي المبني على وفق مصلحة الأمة ومنهجها هو وحده القادر على قيادة المسائل نحو الحل النهائي، والسياسة الراقية هي التي لا تجعل الحاكم يمنح هوية المجتمع وانتماءه بل المجتمع يمنح هوية الحاكم.
وإذا نظرنا لواقعنا وفق هذه القاعدة نجد أن أمتنا واجهت كافة تعقيدات القرن العشرين بعد سقوط الخلافة الإسلامية، حيث ظهر التعارض بين وحدة الأمة ومصالحها وبين الدول القومية، وبهذا الوضع وصلنا إلى ذروة التأزم دون وضع حدود واضحة لأسباب المشاكل الداخلية والخارجية.
إن مخططات تقسيم الأمة من قبل الأعداء في القرن العشرين كانت بداية أزمة المنطقة كلها، وهي النقطة الفاصلة لظهور الدولة القومية، وتجزئة المصلحة الواحدة، والإرادة الواحدة، وبما أن هذه المخططات لم تكن تملك الأساس الحقوقي لوضع الحدود، لذا فإنها جاءت تفتت حتى الأشكال القبائلية الموجودة في المنطقة، لأنها لم تراع الواقع الاجتماعي، وإنما تجسد مصالح الأمم الواضعة لها.
فليس الترك وحدهم تمزقوا بهذا التآمر – وإن كانوا أكثر من تضرر – وإنما الكرد أيضا تم تقسيمهم بين عدة دول قومية، وأما العرب فقد تم تقسيمهم إلى اثنين وعشرين دولة. وأدى هذا التقسيم الجائر إلى خلق توترات دائمة في كل منطقة، وهكذا قامت الدولة القومية وفق نسق سلطة خارجية.
إن شرعية الدولة القومية تنبع من المخططات الدولية، لذا فإنها تفرض قسرًا على الواقع، وهي بالتالي تفرز فئة حاكمة تعطل التفاعل الاجتماعي والحضاري بين أبناء الأمة الواحدة، لأن هذه الدول غير قائمة على أساس حقوقي واضح، فهي لا تعبر عن المجتمع ووحدته، لذلك تكون تربة خصبة لظهور مختلف النزاعات العرقية والفئوية، فالأحزاب أحزاب فئات، والمؤسسات مقصورة على جزء فاسد من أبناء الأمة المنتفعين المنافقين، ولا تحقق مصالح الجميع.
فالواقع القبلي أو الطائفي أو العرقي أو الحزبي يتجسد مباشرة داخل هيكلية الدولة، فهل يمكن استيعاب الآخر وفق هذه السياسة؟ وهل يمكن حل القضايا من خلال الدفاع عن الوضع القائم جغرافيا واقتصاديا؟
أم لا بد أن نطرح كل قضايانا ومشاكلنا بجرأة وواقعية وشفافية على بساط البحث، لنضع النقاط على الحروف من خلال الحوار وفق القاعدة الحقوقية ووحدة الأمة، بعيدا عن الثقافات المغلوطة والمشاعر الباردة.
نستطيع اليوم قراءة مشاكلنا المتراكمة برؤية علمية الأمر الذي لم يكن ممكنا في القرن العشرين عندما بدأ تَشويهُ وعيِنا مع موجات التنكيل والتزوير.
إن إجراءات الدول القومية وريثة المنهج الغربي زادت من قوة الانتماء المشتت والرؤية المجزأة وأدت إلى تخلف حضاري واستعمار عسكري واقتصادي وثقافي.
لأن اتفاقات المستعمرين ومعاهداتهم في المنطقة كانت بداية تفريق جغرافي وثقافي واضح، ساعدت على حرق كافة الإمكانات لوحدة الأمة، ولذلك أصبح تدوين التاريخ إرثا دمويا عبر المذابح والاقتتال الذي دار بين الحكومات المستبدة من جانب، وبين هذه الحكومات وشعوبها من جهة أخرى.
ولتصحيح المسار لا بد من جعل التاريخ مفتوحًا وواضحًا لكافة أبناء الأمة بكل جرأة ووضوح، وإلا فسيبقى التاريخ أحداثًا متفرقة وعرضة للاستغلال من قبل الأعداء.
ومن هذا المنطلق يجب أن نفهم الوضع السياسي في المنطقة لكي لا نقع في فخ التفسيرات الخاطئة، وخصوصًا بعد تدخل أمريكا وروسيا وإيران في المنطقة.
فالوضع السياسي هو كما يلي: المنطقة لا تملك ضمانات استقرار أو أمان من قبل الدول القومية الحاكمة، وسياسة التذويب والاضطهاد مستمرة فيها، والتي لا تحمل سوى المآسي، والصراع في الظاهر والباطن مستمر بين القوميات والمذهبيات والأقليات، وخصوصا أن الإسلاميين ليس بيدهم الأمر في إنقاذ المنطقة من وضعها المأساوي.
لقد سادت المنطقة حالة عدم الثقة، فالفرز القائم يضمن البقاء للمجموعة الأقوى التي تسندها جهات خارجية.
إن قضايانا ومشاكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقومية وغيرها لم تعد مجرد خلاف على الحقوق، بل تجاوزته لتدخل في الإطار النفسي الاجتماعي العام القائم على عدم الثقة أو الشعور بالأمان.
يتبع
الحلقة الأولى هــنا
(المصدر: مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري / رابطة العلماء السوريين)