موسى بن شاكر وأبناؤه.. أول أسرة علمية تتبناها الدولة في تاريخ الإسلام
بقلم أحمد إبراهيم
“كنتُ أغرق في الفكر في مجلس في جماعة فلا أسمعُ ما يقولون ولا أحسُّ بهم… ولقد فكرتُ يوما فأطلتُ، ثم قطعتُ الفكر لمّا غرقتُ فيه، فرأيتُ الدنيا قد أظلمت في عيني، وكأني مغشي علي، أو أنّي في حلم”
(الحسن بن موسى بن شاكر، واصفا شغفه بالعلوم والمعارف)
بلغت الخلافة العباسية أوج قوتها ونشاطها واتساعها وغناها في عصر الخليفة هارون الرشيد وابنيه المأمون والمعتصم منذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري/الثامن والتاسع الميلادي، وهو العصر الذهبي الذي نشطت فيه حركة الترجمة والتبادل الثقافي والعلمي بين الأجناس الإسلامية، مثل العرب والفرس والسند والبربر والترك وغيرهم من جهة، وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة أخرى، لا سيما اليونان والهنود والصينيون وغيرهم.
أدرك المسلمون بمختلف طبقاتهم، لا سيما الخلفاء والعلماء، مبلغ قوتهم الدينية والثقافية فضلا عن العسكرية، ورعى الخليفة المأمون مشروعا ثوريا أطلق عليه “بيت الحكمة”[1]، وهي الجامعة والمؤسسة العلمية والتكنولوجية الأكبر في عصره وفي العالم كله في زمنه، جامعة أنشأ فيها المأمون واحدة من أكبر المكتبات في العالم، وعيّن لها أعظم المترجمين، وأرسل بعثاته العلمية في الآفاق لنسخ ما عند اليونانيين والبيزنطيين والسريان والهنود والفرس وغيرهم من العلوم الفلسفية والتجريبية على السواء، كما عيّن في هذه المؤسسة العملاقة أكابر العلماء التجريبيين في عصره، في علوم الفلك والرياضيات والهندسة والطب وغيرها، وأغدق عليهم وعلى البحث العلمي ثروة هائلة سرعان ما آتت بثمارها.
بل إن الخليفة المأمون اهتم فوق ذلك بالنابغين والأسر العلمية، وكان لهذا الاهتمام أعظم الأثر في تاريخ العلم في الحضارة الإسلامية وفي تطور العلوم والاختراعات، ومن جملة هؤلاء النابغين الذين احتضنتهم الحضارة الإسلامية في عصرها العباسي أسرة موسى بن شاكر، الأب وأبناؤه المخترعون، أو العباقرة الثلاثة محمـد والحسن وأحمد. فمَن أبناء موسى بن شاكر؟ وما الذي قدّموه لمسيرة العلوم التجريبية في حياتهم؟ ولماذا أغدق عليهم الخليفة المأمون رعايته وعنايته البالغة؟
عاش موسى بن شاكر في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد وأبنائه الأمين والمأمون قبل 1250 عاما، في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي في بغداد، وقد اشتُهر موسى باهتمامه بشؤون الفلك وأزياجه، وهي الجداول الفلكية الخاصة التي تُبين مواقع النجوم وحركاتها عبر الفصول، ولشهرته في هذا المضمار عيّنه الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) مُنجّما في بلاطه، أي عالما للفلك وشؤونه، وسمح له ببناء مرصد كبير على جسر بغداد ساعده فيه أبناؤه الثلاثة محمد والحسن وأحمد، فسجّلوا أرصادهم التي فاقت في بعض جوانبها دقة ما قام به بطليموس ومن بعده من علماء الفلك والرياضيات من اليونان وغيرهم [2].
ثم كلّف الخليفةُ المأمون موسى بن شاكر بصحبة أبنائه على رأس بعثة علمية إلى منطقة سنجار شمال العراق لقياس المسافة التي تقابل درجة واحدة على خط الطول (ما يساعد في النهاية في تحديد محيط الأرض)، وبعد الحساب الطويل والدقيق توصلت البعثة إلى أن المسافة 66.6 ميلا عربيا، أي ما يعادل 47.356 كم لمدار الأرض، وهذه النتيجة قريبة من الحقيقة العلمية اليوم، إذ يبلغ محيط الأرض الفعلي 40.000 كم تقريبا! [3]
ونظرا لوفاة موسى بن شاكر، وذكاء وعبقرية أبنائه الثلاثة الصغار الذين أدرك نبوغهم الخليفة المأمون، وولعهم بعلوم الفلك والرياضيات والهندسة، قرر حينها أن تحتضنهم الدولة وتتعهدهم بالتربية والتطوير، فعهد بهم المأمون إلى والي بغداد إسحاق بن إبراهيم المصعبي وأشار إليه بضرورة العناية البالغة بهم، وفي ذلك يقول إسحاق: “جعلني المأمون دايةً لأولاد موسى بن شاكر”[4]. ومن جانبه أرسلهم إسحاق بوصفهم طلابا وباحثين لإدراجهم في مؤسسة “بيت الحكمة” تحت إشراف أحد مشاهير علماء الفلك في ذلك العصر، يحيى بن أبي منصور.
وكان الخليفة المأمون يتابعُ أخبارهم بين الحين والآخر، ويسأل عنهم، ويطمئن على أمورهم حتى أثناء أسفاره وغزواته إلى بلاد الروم، فيرسل إلى المتولي شؤونهم الوالي إسحاق المصعبي ويوصيه بهم، فنشأ الإخوة الثلاثة تحت رعاية الدولة وكنفها، وفي أعظم مؤسسة علمية حديثة آنذاك وهي “بيت الحكمة”، فشاهدوا مناظرات العلماء التجريبيين، واطلعوا على أحدث التجارب والأبحاث العلمية، وكذلك أحدث الترجمات التي كان يشرف عليها عدد من كبار المترجمين في عصرهم مثل ابن قرة وحنين بن إسحاق وابن بختيشوع وغيرهم.
نبغ الإخوة الثلاثة في علوم الرياضيات والهندسة والفلك وعلم الحِيل “الميكانيكا”، وكان ما ميّز نبوغهم ومواهبهم التعاون فيما بينهم في البحث والتنقيب والدراسة، حتى شكّلوا أشهر وأقدم فريق بحثي علمي في تاريخ الحضارة الإسلامية في النصف الأول من القرن الثاني الهجري/التاسع الميلادي قبل 1200 عام من الآن.
وكان لميولهم ورغباتهم أثر في تخصصاتهم العلمية، فقد اهتم محمد بعلم الرياضيات والأرصاد الجوية والإنشاءات الميكانيكية، فقضى جل وقته في دراسة علم الفلك والرياضيات، وعلم طبقات الجو وتطويرها، فضلا عن إسهاماته في علم الميكانيكا، وبسبب سعة علمه لُقب محمد بـ”حكيم بني موسى”. أما أحمد فقد أحب علم الميكانيكا (الحيل)[5]، وبلغ فيه مبلغا عظيما لم يناظره أحد فيه، حتى إن المؤرخ جمال الدين القفطي قال عنه: “كان أحمد دون أخيه في العلم إلا صناعة الحيل (الميكانيكا) فإنه قد فُتح له فيها ما لم يُفتح مثله لأخيه محمد ولا لغيره من القدماء المتحققين بالحيل”[6].
أما الأخ الثالث الحسن فكان بارعا في علم الهندسة، متقنا لفنونها وأسرارها، لديه ذاكرة عبقرية لحل المسائل الصعبة والمستعصية، وكان دائما ما ينشغل بعلوم الرياضيات، دائم التفكير فيها، وقد أُثر عنه أنه قال عن نفسه: “كنتُ أغرق في الفكر في مجلس في جماعة فلا أسمعُ ما يقولون ولا أحسُّ بهم… ولقد فكرتُ يوما فأطلتُ، ثم قطعتُ الفكر لما غرقتُ فيه، فرأيتُ الدنيا قد أظلمت في عيني، وكأني مغشي علي، أو أنّي في حلم”[7].
يُعد كتاب “الحيل” أو الميكانيكا من أشهر الكتب التي ألفها الإخوة الثلاثة بصفته ثمرة فريق علمي واحد، ولم تكن معرفة أبناء موسى بن شاكر بعلوم الميكانيكا معرفة نظرية فقط، بل أسفرَ تضافر جهودهم عن اختراعات عظيمة ما تزال بيننا إلى اليوم رغم مرور 12 قرنا على وفاتهم.
كان من بين ما اخترعه الإخوة الثلاثة جرّة صديقة للبيئة، يخرج منها الماء بمقدار محدّد عند فتح البزّال أي الصنبور، ثم ينقطع، وبعد فاصل زمني معين ينساب الماء مجددا، ويتكرر الأمر حتى يفرغ محتوى الجرّة من الماء، وهذا الأمر يشبه ما نراه في مغاسل الحمّامات العامة الحديثة اليوم التي تعمل بمستشعرات خاصة، فقد استخدم الإخوة الثلاثة السدّادة والعوّامة وصحيفة فاصلة لتفصل الجرّة إلى جزئين، علوي يعمل خزّانا، وسفلي فيه حوضان، مع استخدام أنبوب معقوف يشبه فكرة السيفون يصل بين الحوضين في جسم الجرَّة[8]، وهي آلية متقدمة للغاية في التحكم بالمياه قبل اختراع الصنبور بمئات السنين.
كان مما اخترعه أبناء موسى بن شاكر اعتمادا على علوم الرياضيات والميكانيكا ما يمكن تسميته بـ”الخطّاف الآلي” لاستخراج المحار الذي يحمل اللؤلؤ من البحار، أو لانتشال الأشياء الغارقة في قيعان الأنهار والبحار وأجواف الآبار، وهذا الخطاف أو “الكبّاش” لا يختلف عن آلية عمل الخطافات الحديثة، فقد صنعوه من نصفي كرة مرتبط بعضهما ببعض عن طريق سلاسل تُستخدم للتحكم بحركتهما[9].
ومن الأشياء العجيبة التي ابتكرها أبناء موسى آلة موسيقية بالغة التعقيد ذات تشغيل ذاتي، وقد أضافوا إليه كثيرا مما سبق أن طوّروه في أجهزتهم كالتروس وأذرع التدوير والصمّامات وأشكال مختلفة من السيفون والروافع، ووضعوا تصورا لربط عمل هذا الجهاز بجسم عازف مزمار. وكان من أهم أعمالهم في الرياضيات كتاب “معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكريّة”، وقد اعتمد عليه كثير من علماء الرياضيات والفلكيين العرب منهم والأوروبيون على حد السواء[10].
على الرغم من أن أبناء موسى بن شاكر تعاونوا فيما بينهم وكوّنوا فريقا بحثيا علميا أنجزوا من خلاله الكثير من الأعمال المشتركة التي مثّلت نواة الفرق البحثية في الحضارة الإسلامية، فإنهم اهتموا أيضا بتبني المواهب الشابة والعمل على تشجيعها مثلما فعل معهم الخليفة العباسي ورجالات الدولة في عصرهم، وقد حوّلوا دارهم إلى أحد أهم مراكز العلوم في العالم الإسلامي، وهي الدار التي أُهديت لهم من قبل الخليفة العباسي المتوكل حفيد هارون الرشيد على مقربة من قصره في سامراء، ففي هذه الدار أنشأوا قسما للترجمة على غرار قسم الترجمة الذي أنشأه المأمون في بيت الحكمة ببغداد، فترجموا عددا هائلا من الكتب في مجالات الفلك والرياضيات والطب[11].
وقد روى عدد من المؤرخين أن أبناء موسى بن شاكر كانوا يرسلون بعثات علمية إلى بلاد الروم لإحضار مصنفات العلوم بمختلف تخصصاتها، واستقدام أكثر المترجمين خبرة ومعرفة حتى ينقلوها إلى اللغة العربية، فيَذكر ابن أبي أصيبعة في تاريخه أن بني موسى بن شاكر كانوا يدفعون لبعض المترجمين، أمثال حنين بن إسحاق وحبيش بن الأعشم وثابت بن قرة، رواتب شهرية مقابل النقل والترجمة تصل إلى نحو 500 دينار (تعادل ما بين 70 إلى 100 ألف دولار أمريكي شهريا)[12]، وهذا يبين مقدار السخاء والثروات الطائلة التي كانوا ينفقونها على البحث العلمي وتطوير المعارف العلمية في زمنهم.
توفي محمد بن موسى بن شاكر الابن الأكبر الملقب بحكيم بني موسى عن عمر ناهز السبعين عاما في عام 259هـ/872م، ولا يُعرف على وجه الدقة متى توفي أخواه الآخران، على أن أغلب الظن أنهما توفيا في أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي بعد مسيرة علمية حافلة رأينا فيها اهتمام مؤسسة الخلافة بنفسها بهؤلاء النابغين، وقد أدى هذا الاهتمام بالعلم والبحث العلمي إلى ابتكارات واختراعات مهمة في علوم الميكانيكا التطبيقية، وهي تُضارع علوم الروبوتات اليوم، ولعلنا لا نستغرب حين نعرف أن العلماء العرب اخترعوا أول “روبوت” منذ مئات السنين اعتمادا على مصنفات من سبقهم كأبناء موسى بن شاكر، وذلك حديث آخر سنقف معه لاحقا.
________________________________________________________________
المصادر:
- خضر عطا الله: بيت الحكمة في عصر العباسيين ص28 وما بعدها
- محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام 5/114.
- علي عبد الله الدفاع: بنو موسى بن شاكر ص82.
- القفطي: إخبار العلماء بأخبار العلماء ص264.
- هيلة القصير: أثر الفرق البحثية في تطور العلوم في الحضارة الإسلامية ص41.
- القفطي: السابق ص287.
- القفطي: السابق نفسه.
- بنو موسى وعلم الحيل، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ص30- 32.
- المصدر السابق ص49.
- المصدر السابق ص54، 55.
- هيلة القصير: السابق ص54.
- ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء ص283.
(المصدر: الجزيرة)