مقالاتمقالات المنتدى

موانع إنفاذ وعيد الله لأهل المعاصي يوم القيامة

موانع إنفاذ وعيد الله لأهل المعاصي يوم القيامة

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

تحدّث العلماءُ عن أسباب سقوط العذاب في الآخرة، وذكروها في موانع إنفاذ الوعيد، والتي منها:

أولاً ـ التوبة:

التوبةُ مانعٌ من إنفاذِ وعيد جميع الذنوب، ودليلُ ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

أما الدليل من كتاب الله تعالى فقد قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *﴾ [الزمر: 53] أي لمن تاب، وقال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *﴾ [المائدة: 38‑39].

أما الدليل من السنة فقد جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): « إنّ اللهَ عزّ وجلّ يَبْسُطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ، حتّى تطلعَ الشمسُ من مغربِها ». وقال رسول الله (ﷺ): « إنّ الله يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ ».

ثانياً: الاستغفار:

دلّتِ النصوصُ الشرعيةُ على أنَّ الاستغفارَ مانعُ من إنفاذِ الوعيد، ومن هـذه النصوص:

قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ *﴾ [آل عمران: 135 ـ 136] وقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *﴾ [النساء: 11] وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *﴾ [النساء: 64].

ثالثاً: الحسنات الماحية:

دلّت نصوصٌ شرعيةٌ كثيرةٌ على أنَّ الحسناتِ يمكنُ أن تمنعَ إنفاذَ وعيدِ السيئاتِ، والأدلّةُ على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ *﴾ [هود: 114].

وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسولُ الله (ﷺ): « اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ النّاسَ بِخُلقٍ حَسَنٍ ».

رابعاً ـ دعاء المؤمنين:

النصوصُ الشرعيةُ التي دلّت على مشروعيةِ الدُّعاء للمؤمنين بالمغفرةِ والرحمةِ تدلُّ قطعاً على انتفاع المدعو بدعاء إخوانه المؤمنين، ومن أهمِّ مظاهرِ انتفاعهِ عدمُ إنفاذِ الله وعيدَه بسببِ دعاء المؤمنين واستغفارِهم، ولا شك أنَّ الدعاء بالمغفرةِ والرحمةِ لا يمكِنُ أن يمنعَ إنفاذَ وعيدِ المدعو له إذا لقي الله متلبِّساً بمكفِّرٍ، كالشرك الأكبر والنفاق الأكبر، لأنّ الله أخبرَ في كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا *﴾ [النساء: 48].

كما أنَّ النصوصَ الشرعيةَ دلّت على تحريم الاستغفار المطلق والمقيد بفعلٍ معيّنٍ كمن لقيَ الله كافراً، فقد دلَّ على تحريم الاستغفار المطلق قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *﴾ [التوبة: 113] والمقصودُ من هـذا كله أنَّ تحريمَ الاستغفار بمختلَفِ صوره لَمَنْ لَقِيَ الله كافراً، يدلُّ مِنْ وجهٍ اخرَ على أنَّ طلب المغفرة وما في معناها لا أثر له البتَّة في إسقاطِ وعيدِه، كما أنَّ الدعاءَ من حيث هو لا يترتّبُ عليه أثرهُ إلاّ إذا تحققتْ شروطُه، وانتفتْ موانعُه، ومن شروطه أن يكون المطلوب جائزَ الطلبِ شرعاً، ومن موانِعِه الاعتداءُ في الدعاء، وحينئذٍ فطلب المغفرة وما في معناها لمن لقي الله كافراً لا يمكِنُ أن يترتّبَ عليه أثرهُ، لتخلّف شرطه، ووجودٍ مانعه (اليوم الآخر في القرآن العظيم ص، 472)

وأمّا الأدلة الشرعية على مشروعية الدعاء لأحياء المؤمنين وأمواتهم بالمغفرة والرحمة فمنها: قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 91] وقوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159] وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ*﴾ [الحشر: 10].

خامساً ـ إهداء القربات:

دلّتِ النصوصُ الشرعيةُ على انَّ الجزاءَ ثواباً أو عقاباً إنّما يترتّبُ على عمل الإنسان، وعلى ما هو من اثارِ عملهِ. قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164] وقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ *﴾ [يـس: 12] أي نكتبُ أعمالَهم التي باشروها بأنفسهم واثارَهم التي اثروها من بعدهم، فنجزيَهم على ذلك، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر (اليوم الآخر في القرآن العظيم ص، 473).

وقال رسول الله (ﷺ): « مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةَ حَسَنَةً، فَله أجرها، وأجر مَنْ عمله بها مِنْ بَعْدِهِ، من غير أن يَنْقُصَ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شيءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كان عليه وزرُها ووزرُ مَنْ عمل بها، من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيء » (موانع إنفاذ الوعيد د. عيسى السعدي ص، 41 ) وقال رسول الله (ﷺ): « مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ أُجُوْرِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أجورِهِم شيئاً، ومَنْ دَعَا إلى ضَلالةٍ، كانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْم مِثْلَ اثامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامِهِم شَيْئاً[. وقال رسول الله (ﷺ): « لا تُقْتَلُ نفسٌ ظُلْماً إلاّ كانَ على ابنِ ادَمَ الأول كِفْلٌ من دمها، لأنَّه أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ»، وقال رسول الله(ﷺ): « إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنه عملُه إلاّ مِنْ ثلاثةٍ: إلاّ من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له ».

سادساً ـ الشفاعة في أهل الكبائر:

الشفاعةُ المقبولة يمكِنُ أن تمنعَ إنفاذَ وعيدِ المعيّنِ من أهلِ الكبائرِ ظنّاً لا قطعاً، والشفاعةُ المقبولةُ هي التي انتظمت فيها شروطُ القَبولِ، وهي ثلاثة: إذنُ الله في الشفاعةِ، ودليله قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255] ورضاه عن الشافع، ودليله قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً *﴾ [طـه: 109] أي إلاّ شفاعةَ مَنْ أَذَنِ له الرحمنُ، ورضاه عن المشفوع له، ودليلُه قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنيباء: 28] وأهلُ رضا اللهِ هم أهلُ التوحيدِ، ولو كانوا أهل كبائر[(690)]. وقد دلّ على هـذه الشروط مجتمعةً قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى *﴾ [النجم: 26] أي الشافعِ والمشفوعِ له.

سابعاً ـ المصائِبُ المكفّرة:

المصائبُ اسمٌ جامع للآلام التي تلحقُ الإنسان نفسيةً كانتْ أو عضويةً، وهـذه الالامُ إمّا أن تكونَ قدريةً، وإمّا أن تكونَ شرعيةً.

أمّا الالامُ القدريةُ فتنقسِمُ باعتبارِ المكانِ الذي تقع فيه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الام دنيوية: كنقصِ الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ.

القسم الثاني: الام برزخية، وهي ما تكونُ في القبر من الفتنةِ والضغطةِ والروعةِ.

القسم الثالث: الام أخروية، وهي ما تكونُ في عَرْصاتِ القيامة من الأهوالِ والكُرُبات والشدائد.

ثامناً ـ العفو الإلـهي:

دلّت النصوصُ الشرعيةُ المتواترةُ دِلالةً قطعيةً على أنَّ الله تعالى عفوٌّ غفورٌ، يتجاوَزُ عمّا يستحقّه المذنبون من العقابِ، منها قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ *﴾ [الرعد: 6] وقال تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى: 25] وقوله تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ *﴾ [الشورى: 30] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ *﴾ [الحج: 60] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا *﴾ [النساء: 43]، وهـذه النصوصُ، وما في معناها تدلُّ قطعاً على أنَّ العفو الإلـهي من موانعِ إنفاذِ الوعيد.

ولـكن لا يمكنُ أن يمنعَ إنفاذُ وعيدِ الكفرِ قطعاً، ودليلُ هـذا الأصلِ القرآن والسنةُ:

فالقرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48] وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *﴾ [المائدة: 72].

وأمّا السنة فقد قال رسول الله (ﷺ): «مَنْ ماتَ وهو يدعو مِنْ دونِ اللهِ نِدّاً دخلَ النارَ». ولا خلاف بين المسلمين أنَّ المشرك إذا ماتَ على شركِه لم يكنْ من أهلِ المغفرةِ.

_________________________________________________

المصدر:

علي محمد الصلابي، الإيمان باليوم الآخر، ص 323-327.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى