مقالاتمقالات مختارة

مهن العلماء والبحث عن الاستقلالية

مهن العلماء والبحث عن الاستقلالية

بقلم محمد فتحي النادي

للعلماء دور عظيم في بناء الأمم وقيام النهضات والحضارات.
وهم صمام الأمان للمجتمعات؛ إذ إنهم يضبطون حركة الناس بما يوافق الشرع، لا بما يوافق الأهواء.
فالأهواء تأخذ الناس ذات اليمين وذات الشمال، وطريق الشرع صراط مستقيم، من سار عليه وسلك نهجه نجا وفاز.
وإذا غلبت على العلماء أهواؤهم لم يتوقف ضلالهم عليهم، بل ينحرف المجتمع بانحرافهم؛ إذ إنهم في موضع القيادة والتوجيه.
والعلماء شريحة من شرائح المجتمع، ويلزمهم ما يلزم غيرهم من النفقات على النفس والعيال، وتوفير المال والاحتياجات لهم ولمن يعولون.
والاحتراف للعيال واجب على كل عائل، ولكن كيف يجمع العالم بين الاحتراف وطلب العلم؟
وقد يبدو أن هذين الأمرين متعارضان، ولكن بتدقيق النظر رأينا أن كبار العلماء كانوا من ذوي المهن والحرف بجانب العلم.
وهم في ذلك مقتدون بالأنبياء -صلوات الله وتسليماته عليهم؛ فعن المقدام ، عن رسول الله  قال: “ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود  كان يأكل من عمل يده”( ).
وقد سأل معاويةُ عمروَ بن العاص عن المروءة، فقال: “العفة والحرفة”( ).
فيعف عن التطلع لما بين يدي غيره، ويقنع بما بين يديه، ويحفظ نفسه ومن يعول بالاحتراف؛ حتى لا يكون عالة على غيره.
وقد وعى علماؤنا الأولون ذلك حتى إن سعد تميم صنف كتابًا يرى السمعاني أنه لم يسبق إليه، هذا الكتاب سماه: (كتاب الصناع من الفقهاء والمحدثين) ذكر فيه جماعة كثيرة قريبًا من خمسين نفسًا( ).
وللدكتور محمد بن عبد الله التميم كتاب (مهن الفقهاء في صدر الاسلام وأثرها على الفقه والفقهاء).
وقد جمع عبد الباسط بن يوسف الغريب في كتاب أسماه: (الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة) قرابة أربعمائة حرفة ومهنة، منسوبة إلى قرابة ألف وخمسمائة محدِّث، وفقيه، وأديب.
فلم يكن طلب العلم ليمنع أحدهم من أن يكون عطّارًا، أو طبيبًا، أو تاجرًا، أو خوّاصًا، أو مزارعًا، أو فلكيًّا، أو نجَّارًا، أو حدّادًا، أو قصَّابًا.
وقد انتسب كثيرون إلى مهنهم، يقول السمعاني: “العطار: هذه النسبة إلى بيع العطر والطيب، والمنتسبون إلى هذه الصنعة جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين”( ).
فهذا الباقلاني نسبة إلى الباقلاَّ وبيعها، وهذا التوحيدي نسبة إلى بيع التوحيد وهو نوعٌ من التُّمور، وهذا الجصَّاص نسبة إلى العمل بالجصِّ وتبييض الجدران.
وهذا القفَّال، والخرَّاز، والخبَّاز، والصبَّان، والقطَّان، والحذَّاء، والسمَّان، والصوَّاف، والزيَّات، والفرَّاء… إلخ.
ومن النماذج التي يمكن ذكرها ها هنا لأولئك الأعلام( ):
1- الآجرِّي، نسبة إلى عمل الآجر وبيعه، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة: أبو بكر محمد بن الحسين الآجرِّي، صاحب كتاب “الشريعة”.
2- الأنماطي، نسبة إلى بيع الأنماط، وهي الفُرُش التي تبسط، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة: عثمان بن سعيد بن بشار أبو القاسم الأنماطي البغدادي الأحول، والذي قال عنه ابن قاضي شهبة: “أحد أئمة الشافعية في عصره، كان هو السبب في نشاط الناس لكتب فقه الشافعي وتحفظه”( ).
3- البحراني، نسبة إلى ركوب البحر، أو قيادة السفن، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة: محمد بن معمر بن ربعي البحراني القيسي البصري، وقد روى عنه الأئمة الستة.
4- البربهاري، نسبة إلى بربهار، وهي الأدوية التي تُجلب من الهند، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة: الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري، والذي قال عنه ابن أبي يعلي: “شيخ الطائفة في وقته، ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع، والمباينة لهم باليد واللسان، وكان له صيت عند السلطان، وقدم عند الأصحاب، وكان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ للأصول المتقين، والثقات المؤمنين”( ).
5- الحداد، والحدَّادي، نسبة إلى الحدادة، وهي العمل في الحديد، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة: محمد بن الحسين، قال عنه الذهبي: “شيخ مرو، القاضي الكبير، أبو الفضل، محمد بن الحسين بن محمد بن مهران المروزي الحدادي.
قال الحاكم: كان شيخ أهل مرو في الحديث والفقه والتصوف والفتيا”( ).
واحتراف العلماء لأنفسهم ولمن يعولون كان عاصمًا لهم من إذلال أنفسهم على أبواب السلاطين، وهو من أعظم المداخل للاستقلالية المنشودة.
وكان كبار العلماء يوصون بذلك؛ حتى لا يخلف خلوف من العلماء يبيع نفسه بعرض من الدنيا زائل، فقد كان أيوب السختياني يقول: “يا فتيان احترفوا؛ فإني لا آمن عليكم أن تحتاجوا إلى القوم، يعني: الأمراء”( ).
وقد كان التحذير الدائم للعلماء من الوقوف على أبواب السلاطين، فلا يأمن العالم من أن يأتي يوم يطوّع فيه علمه خدمة لهوى السلطان، قال جعفر الصادق: “الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين، فاتهموهم”( ).
فبدلاً من أن يكون العالم موجّهًا ومقوّمًا للسلاطين إذا انحرفوا ومالوا فإنه يكون -باحتياجه إليهم، ووقوفه على بابهم، وانتظاره لأعطاياتهم- ذراعًا لهم، ومسوغًا ومبررًا لأفعالهم الخاطئة، قال سفيان الثوري: “إذا لم يكن للعالم حرفة ولا عقار كان شرطيًّا لهؤلاء الظلمة، وإذا لم يكن للجاهل حرفة كان رسولاً للفساق”( ).
فالعالم يجب أن يكون حرًّا….
ويجب ألا يكون واقعًا تحت سيف المنع والعطاء…
ويجب أن يكون صادعًا بالحق، ولا يخشى في الله لومةَ لائم…
فإن قام قام لله، وإن قعد قعد لله، فلا تكون قومته لمنع، أو قعوده لعطاء…
وعلى المجتمعات أن تحمي استقلالية العلماء بتوفير الأوقاف التي تنفق على العلماء، فإن لم يتنبه المجتمع لذلك فلا سبيل إلا أن الجمع بين المهنة والعلم على ما سبق ذكره.
وفي عصرنا الحديث رأينا من العلماء من بلغت شهرته الآفاق، وكثرت تصانيفه جدًّا، وهو يعمل في إصلاح الساعات، مثل الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى.
نعم الاستقلالية ذاتية، لكننا نبحث عن الظروف المهيئة لذلك.
فقد نجد من يعمل في مؤسسات تابعة للحكومات، لكنه يصدع بالحق.
وقد نجد من لا يعمل في مؤسسات ولكنه يسارع في هوى الحكام.
وتبقى المهنة والحرفة من أعظم الأعوان على الاستقلالية المنشودة للعلماء.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى