منهجية تفسير النص الشرعي بين المنهج الأصولي والقراءة المعاصرة (3-3)
بقلم محمد عوام
الخاصية الثالثة: إنكار القطعيات وجعل كل النصوص الدينية ظنيات: لا يخفى على دارس للنصوص الشرعية، أن طائفة منها نصوص قطعية دلالة وثبوتا، وأخرى ظنية، لكن أصحاب القراءات المعاصرة ينكرون عن بكرة أبيهم وجود القطعيات، وإنما يزعمون أن جميع النصوص ظنيات، تتسع للأنظار والاختلاف، ويدخل التأويل جميعها، فتصير بذلك ذات دلالة احتمالية، لكل أحد الحق في أن يفهم ويستخلص منها ما يشاء، لا تثريب عليه.
وها هو كبيرهم أركون يصرح بقوله: “القرآن هو عبارة عن مجموعة من الدلالات والمعاني الاحتمالية المقترحة على كل البشر، وبالتالي فهي مؤهلة لأن تثير أو تنتج خطوطا واتجاهات عقائدية متنوعة بقدر تنوع الأوضاع والأحوال التاريخية التي تحصل فيها أو تتولد منها…فالقرآن نص مفتوح على جميع المعاني ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفذه بشكل نهائي.”(1)
وقد اقتفى الشرفي أثر هذا المسلك الأركوني،(2)ولا زلت أتذكر تلك المناظرة التي جرت بين الشرفي وبين أستاذنا أحمد الريسوني حفظه الله بقناة دوزيم، فلما أنكر الشرفي القطعيات واجهه أستاذنا بقوله: “قل هو الله أحد قطعية أم ظنية؟.” فرد الشرفي ممكن أن تكون ظنية. والغرض من إنكار القطعيات نسف ثوابت الدين وأصوله الراسخات، لأن الظنيات من الآيات تدور في فلك القطعيات، التي بمثابة الجبال الراسيات، حتى لا تميد الظنيات أو يلقى بها في غيابات جب التأويلات الفاسدات.
فلا جرم أمام هذا التنكر للقواعد العلمية التي سطرها الأصوليون وغيرهم من علماء الإسلام، أنه لا يسعنا إلا أن نرد عليها، مزيفين مزاعمها، ومتعقبين شبهاتها بالنقض والإبطال، وإن كان المقام لا يتسع لذلك ولكن في حدود الإمكان، وذلك فيما يلي:
أولا: القواعد الأصولية كامنة عند الصحابة ومن تبعهم من التابعين، ثم بدأت تظهر وتتخلق وتتشكل، حتى صارت إلى ما صارت إليه، شأنها في ذلك شأن القواعد اللغوية التي كانت كامنة في لسان العربي، فاحتيج من بعد إلى تقعيدها وتدوينها، وهذا نعتبره شيئا طبيعيا في كافة العلوم، إذ لا جرم أن تدوين القواعد يأتي في سياق نموها ونضجها واتساعها، وهذه نحسبها خاصية العلوم ذات الطبيعة النسقية، ثم هذا الاجتهاد الحر والرأي الشخصي -كما يزعم الشرفي- غير صحيح البتة، فلا جرم أنه اجتهاد صادر عن أصحابه، وأهله ممن تمرسوا به، وترعرعوا في أحضانه، وشربوا من لبانه، مبني عندهم على أصول وقواعد، وضوابط ومناهج. نعم كانت هناك حرية في الاجتهاد، فالعلماء يتحاورون ويتناقشون ويتناظرون، من غير تضييق ولا تحجير، ولا خوف ولا وجل، ولا ازدراء من أحد، وهذا مما ساهم في بلورة الأصول والمناهج التي اعتمدوها. لأنه يحرم على العالم أن يقول بدون دليل، وقد صار هذا منهم إجماعا. يقول الجويني: “أجمعت الأمة قاطبة على أن من قال قولا بغير دليل أو أمارة منصوبة شرعا، فالذي يتمسك به باطل، ثم أجمعوا على بطلان اتباع الهوى.”(3)
ثانيا: أن هؤلاء الحداثويين أو “الفقهاء العلمانيين الجدد” إن جاز التعبير، لم يفرقوا بين الترتيب المنطقي، والواقع العملي ، ونقصد به أنه من حيث الترتيب المنطقي كان الأولى أن تكون هناك أصول ثم يأتي الفقه المبني عليها، لكن الواقع العملي لم يحالف هذا الترتيب المنطقي، فوجدنا الفقه سبق ظهورُه أصولَه، وهذا لا يعني أنه كان فقها مسترسلا كما بينا من قبل، ولكن طبيعة النشأة الأولى اقتضت ذلك. وقد استقرى العلماء التراث الفقهي لذلك العصر، فاستخرجوا منه كنوزا ولآلأ، من أصول وقواعد ومقاصد، في مرحلة التأسيس والبناء المنهجي والمعرفي، فلا جرم أن تكون الأصول في بادئ أمرها منتزعة من ذلك التراث الفقهي لعصر النبوة وما بعده إلى منتصف القرن الثاني للهجرة، وهو مسلك جرى عليه، وإن بطريقة أخرى في تراثنا الأصولي، الأحناف خاصة، حتى أصبحت طريقتهم موسومة بطريقة الفقهاء فأصولهم وقواعدهم انبجست من فروعهم الفقهية، وقد حصل مثله أيضا بمقدار مع كافة المذاهب.
وكل هذا أصبح لدى الباحثين المتخصصين أو مَن دونَهم ممن له إلمام ولو يسير بتاريخ العلوم الإسلامية، وعلى رأسها علم أصول الفقه، من المعلوم من تاريخ الأصول بالضرورة. لكن الشرفي وشحرور وغيرهما من العلمانيين لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة التاريخية العلمية، وإنما يدفعهم تنكرهم للقواعد وتاريخ نشأتها إلى نسف الشريعة من الداخل، على طريقة الباطنية، بفتح الباب على مصراعيه لما سمي ظلما وزورا بالاجتهاد الحر والرأي الشخصي، وما هو عند التحقيق سوى اتباع للهوى “ومن أضل ممن اتبع هواه بغير علم.” والغريب أنه يرسل الكلام على عواهنه دون أن يضرب له الأمثال.
ثالثا: يظهر فقر الرجل العلمي، وأعني به عبد المجيد الشرفي وإن كان شحرور لا يقل عنه في ذلك، وضحالته الفكرية، في جهله بالقواعد والضوابط الفقهية، والتعليلات والغايات والمقاصد التي راعاها الفقهاء منذ زمن النبوة، والأمثلة على ذلك كثيرة، غير خافية على صغار طلبة العلم الشرعي فضلا عن كبارهم وأساتذتهم، ثم جهله التام أن القانون لم يكن في يوم من الأيام ذا مرجعية أصولية على ضوئها يبنى، وفي رحابها يفهم ويبين، وعلى أسسها يُفسر ويُشرح، والدليل على ذلك تلك الإشارة التي وردت في (الموسوعة الفرنسية الكبرى للعلوم والآداب والفنون) فقد جاء فيها : “إن القوانين التي تضع الأحكام العامة لا تستطيع في الحقيقة أن تتصور جميع الفرضيات الخاصة قبل وقوعها، وإن القوانين قد تكون: أحيانا ساكتة تجاه إحدى هذه الفرضيات، وأحيانا لا تتناولها إلا بصورة غير كافية، وأحيانا قد يكون النص معمى أو مبهما، ويجب في جميع الأحوال أن يجبر النقص بالبيان والتفسير.”
“إن قواعد البيان والتفسير ترتبط بالفلسفة أكثر منها بالحقوق الخالصة، وعندما أريد وضع القانون المدني الفرنسي كان من المنتظر في بادئ الأمر أن تجمع هذه القواعد في فصل في مطلع القانون، غير أن هذا الفصل قد حذف من القانون لدى وضع صيغته النهائية.”
ثم تابعت قولها: “وهذا ما جعل القاضي يفسر القانون حين الاقتضاء تبعا لمواهبه المسلكية، وحسب ذمته، تحت مراقبة محمكة التمييز.”(4)
فلا جرم أن مثل هذا الذي حصل للقانون، لم يقع مثله للفقه الإسلامي البتة، إذ خضع منذ نشأته إلى أصول معتمدة، وقواعد مضبوطة، وإن لم يصرح بها أربابها، ثم ما لبثوا أن دونوها، ودققوا النظر فيها، فأصبحت بذلك حَكَما يحتكم إليه، ومعيارا يوزن به، فأطلقوا عليه اسم (علم أصول الفقه) أو (أصول العلم)، وإن شئنا أن نسميه –على حد اقتراح الدكتور معروف الدوالبي- “علم أصول الحقوق”(5) فلنا ذلك.
وبهذا العمل الجليل والجبار الذي يتنكر له كل من عبد المجيد الشرفي ومحمد شحرور وأضرابهما من العلمانيين، قد أسدى علماء الإسلام خدمة عظيمة القدر للإنسانية في مجال القانون، ناهيك عن مجال الفقه، يقول الدوالبي رحمه الله: “إن رجال الفقه في الإسلام، بما ابتكروه من هذا العلم، وبما أقاموا فيه من قواعد في الاجتهاد، قد أسدوا خدمة إلى علم الحقوق عامة لا تقدر، وشغلوا به فراغا لا يزال عند غيرهم يذكر. وسهلوا للقضاة والمفتين طرق فهم الشرائع والقوانين تسهيلا، وغدا هذا العلم ضرورة من ضرورات طلاب الحقوق، وآلة لا بد منها لرجال القضاء والمحاماة، إذا ما أرادوا الكشف عن معاني النصوص، أو تحديد روح القانون، واستنباط العلل المناسبة، عندما يطلبون حلا لمشكلة لم يتناولها القانون صراحة، ولم يشر إليها بإشارة.”(6)
إذا تبين لأولى الأبصار أهمية علم أصول الفقه، في تفسير النصوص القانونية، فضلا عن النصوص الشرعية، فإن عبد المجيد الشرفي يتنكر لهذه الحقيقة، ويلوم هذا العلم، لكونه حسب زعمه، وقف سدا منيعا لإنشاء “منظومة حقوقية” وعن هذا الزعم يقول في معرض حديثه عن علم أصول الفقه ودوره في الدفاع عن حلول الأجيال الأولى: “أنهم منعوا في الآن نفسه من أن ينشأ فقه آخر، بل منظومة حقوقية تَنْشُد تحقيق العدل والنظام –وما أصعب الجمع بينهما- على أسس مغايرة.”(7)
والشرفي لا يقف عند هذا الحد، وإنما ينحى باللائمة على الأصوليين حينما نظروا إلى النص القرآني دون مراعاة الظروف والحلول الآنية، ولا الغايات والسياقات التي وردت فيها، متهما إياهم “أنهم إنما يعكسون على النص مشاغلهم وموازينهم ويقولونه ما لم يقله.”(8)
وكل هذا ينطوي عند الشرفي على فلسفة تاريخانية النص، وتفكيكه بناء على الفلسفات اللغوية المعاصرة، فيكون من مآلات هذا النقد، هو التخلص والتمرد على المنهجية الإسلامية في تحليل الخطاب الشرعي، باعتباره خطابا صادرا عن الله جل جلاله. وكل هذا يأتي ضمن مكاييل من التهم السقيمة للأصوليين وغيرهم من علماء الإسلام. وادعاء قضايا وأمور عارية عن الأدلة، لأجل ذلك صوب سهمه للأدلة الأربعة المتفق عليها عند جمهور العلماء، لأن الذي يتأخاه الشرفي ويتقصده هو “التعامل المباشر مع الوحي من دون المرور عبر إنتاج الفقهاء والمفسرين.”(9)
وهو نفس المنحى الذي سبق أن اقتفى أثره شحرور وأركون، وإن اختلفت أحيانا تحليلاتهم، وتباينت طريقتهم في الظاهر، فإنهم جميعا إلب على النص الشرعي بالإبطال، ومسخ هويته الإسلامية، ومصدريته الربانية.
ولا يخفى ما تستبطنه هذه الدعوة من الفوضى الخلاقة في التعامل مع أشرف كتاب أنزل، أن نترك علم أصول الفقه، وقواعد علم الحديث، ومناهج المفسرين، وغيرها من القواعد والضوابط والمناهج، أن نترك كل هذا ونتوجه مباشرة للتعامل مع نص الوحي، والغريب في دعوة هؤلاء أنها مشرعة للجميع، لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، كل ذلك يحصل باسم الحرية، ونحن نتساءل متى كانت العلوم تسلك هذا المسلك، وخاصة منها التي ذات الطبيعة التقعيدية والنسقية، حتى تكون مستباحة من غير ضوابط، بل متى كانت هذه القضية سائغة في كافة العلوم دون استثناء؟ إن هذا لعمري شيء عجاب، لا يستسيغه ذوو الألباب.
وهذا لا يعني أنني أمجد كل ما خاض فيه الأوائل، ونقله مع الإضافة والتنقيح عنهم الأكابر، وإنما أرفض كل تنطع سقيم، ومتنكر لأهل الفضل والسبق أثيم، ذو بصر حسير، وهو عن مدارك الفهم كليل، لا يرى بعين الإنصاف، وإنما ديدنه الإنكار والاعتساف. والحمد لله رب العالمين.
الحلقة الثانية هنا
====-
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي 143.
(2) انظر الإسلام بين الرسالة والتاريخ 156.
(3) التلخيص في أصول الفقه 3/314، وانظر المعتمد في أصول الفقه 2/56.
(4) نقلا عن المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدوالبي 18،19.
(5) المصدر نفسه 20.
(6) المصدر نفسه 21.
(7) الإسلام بين الرسالة والتاريخ 155،156.
(8) المصدر نفسه 157.
(9) المصدر نفسه 168.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)