مقالاتمقالات مختارة

منهجية تفسير النص الشرعي بين المنهج الأصولي والقراءة المعاصرة (2-3)

منهجية تفسير النص الشرعي بين المنهج الأصولي والقراءة المعاصرة (2-3)

بقلم محمد عوام

الخاصية الأولى: تنزيل النص الشرعي منزلة النص البشري وإنكار حجيته: يأتي هذا في سياق التنكر لموثوقية النص الشرعي عبر دحض المناهج العلمية التي أرساها جهابذة العلماء، والتي لم ينازع فيها أحد، لقوة حجيتها، وصلابة برهانيتها القطعية، مثل الاستقراء، وقطعية التواتر، وهلم جرا، حتى أفضى بهم بحثهم السقيم إلى جلب جملة من الشكوك حول مصدرية القرآن الكريم نفسه، فأحاطوه بوابل من الشبهات الواهيات، والظنون الكاذبات، كل ذلك باسم البحث العلمي، فلا تكاد تطمئن لموقف أحدهم من القرآن الكريم، موقفا صريحا واضحا، هل هو من عند الله جل جلاله أم أن مصدره بشري من النبي عليه الصلاة والسلام.

ومثال ذلك ما صرح به عبد المجيد الشرفي مبيّنا -حسب زعمه- حقيقة الوحي، عند شرحه لآيات بينات من القرآن الكريم ورد فيها ذكر الوحي بقوله: “فالوحي إذن هو مصدر علم النبي، أي تلك الحالة الاستثنائية التي يغيب فيها الوعي وتتعطل الملكات المكتسبة، ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللاوعي بقوة خارقة لا يقدر النبي على دفعها ولا تتحكم فيها إرادته.”(1)

وهو نفس المنحى الذي ركب متنه محمد أركون، حيث طعن في كيفيَّة تدوين القرآن الكريم، إذ زعم أن القرآن الكريم لم يدون إلا بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما كان يتناقل شفويا، فاختلفت الصورتان: الصورة الشفوية والصورة المكتوبة من حيث عدم تطابقهما.(2)

يقول أركون: “دوَّنوا (الصحابة) في حياته بعض الآيات، وهكذا تشكَّلت نسخ جزئية مدونة على أشياء مادية غير كافية.”(3) بل إنه يذهب بعيدا حينما يتَّهم السلطة السياسية بإتلاف بعض نسخ القرآن والإبقاء على نسخة واحدة.(4)

ولا يقف أركون عند هذا الافتراء السخيف، وإنما يدعو إلى ممارسة النقد التاريخي على القرآن الكريم، للكشف –حسب إفكه- عن المغالطات التاريخية التي شابت القرآن الكريم، وفي ذلك يقول: “ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية، التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس.”(5)

ولكن هذا الزعم يتهاوى، وهذا الادعاء يتساقط تباعا أمام الحقيقة التاريخية، من كون القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر في أعلى درجاته المفيدة للقطع واليقين، بل إن الناقلين له من شدة عنايتهم، وبراعتهم في النقل، وتحريهم الدقيق نقلوا حتى الأماكن والأزمان التي نزلت فيها الآيات الكريمات البينات.(6)

لأجل ذلك طفق العلماء يتحدثون عن أنواعه، فذكروا أن منه المكي والمدني، والحضري والسفري، والنهاري والليلي، والصيفي والشتائي، والأرضي والسمائي، فكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم قد حازوا علم ذلك وورثوه لمن جاء بعدهم، فقد روى ابن جرير الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “والذي لا إله غيره، ما نزلتْ آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلتْ؟ وأينَ أنزلت؟ ولو أعلم مكانَ أحدٍ أعلمَ بكتاب الله مِنّى تنالُه المطايا لأتيته.”(7) ومثله ورد عن كبار فقهائهم وعلمائهم.

ثم إن البحث العلمي إلى يومنا هذا، في شتى ضروب المعرفة خاصة منها الدقيقة والتجريبية والتاريخية والأركيولوجية، لم تصدر عنه أي مخالفة للقرآن الكريم فيما حواه من حقائق علمية، وثوابت تاريخية، فمن أين استقى أركون ادعاءه، وعلى أي أساس علمي بنى زعمه، سوى ما أملاه عليه هواه ونصرته للفكر الغربي الذي يدور في فلكه.

وأما نصر حامد أبو زيد، فإنك لا تجد له موقفا من مصدرية القرآن الكريم واضحا، بالرغم من إشادته بعربيته من حيث كونه في الأصل نصا لغويا صرفا، وفي بيان ذلك يقول: “إن البحث عن مفهوم “النص” ليس في حقيقته إلا بحثا عن ماهية “القرآن” وطبيعته بوصفه نصا لغويا. وهو بحث يتناول القرآن من حيث “هو كتاب العربية الأكبر، وأثره الأدبي الخالد”. فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، سواء نظر إليه الناظر على أنه كذلك في الدين أم لا. وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى اعتبار ديني، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلا، العربية اختلاطا، مقصدا أول، وغرضا أبعد، يجب أن يسبق كل غرض ويتقدم كل مقصد.”(8)

فهذا هو المسلك الأصلي عند نصر أبي زيد، وما عداها من القضايا سواء التشريعية أو الأخلاقية أو الاعتقادية وغيرها، فلكل أحد الحق في أن يأخذ ما يشاء منها.

فلا جرم أنه من حق الباحث أن يشكّك في مدى إيمان هؤلاء بالقرآن الكريم، من حيث كونُه من عند الله تعالى، لكنهم فضَّلوا التنكر بأسلوب الالتواء حول العبارات، وانتقاء الأساليب الغامضة. فلا ينبئك مثل خبير، من أمثال العالم الباحث التونسي عبد المجيد النجار، الذي خبر كتبهم، وطرائق أساليبهم، ووقف على مناهجهم فخلص إلى القول: “ومما يثير الاستغراب في هذا الشأن أن المؤلفات التي اطلعنا عليها من أدبيات هؤلاء المؤولة لم يحدد أصحابها تحديدا بينا قاطعا موقفهم من القرآن، فيما إذا كانوا يعتبرونه وحيًا من الله تعالى نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس، أو هو إنتاج بشري من النبي نفسه كما ذهب إلى ذلك من تناول القرآن بالدرس من المستشرقين، فبقي موقفهم من هذا الأمر ملتبسا مثيرا للظنون.”(9)

مصدرية السنة

فلئن كان حظُّ القرآن الكريم عند هؤلاء هو التنكر لمصدره الإلهي، وإحاطته بجملة من الشكوك، على جلاله وقدسيته، فالقضية لا تقل خطورة حينما يصرفون وجوههم تلقاء دراسة السنة النبوية، فهي عند هؤلاء ليست مصدرًا للدين أصلا، وإنما هي تتصف بالنزعة الاجتماعية التاريخية لمسلمي عصر النبوة في أحسن الأحوال، وينجم عن هذه المقولة عدم استمرار حجية السنة مطلقا. يقول عبد المجيد الشرفي: “إن شأن الحديث لعجيب حقا فلقد احتفظ هو ذاته بما يفيد نهي الرسول عن تدوينه، وأمرَ بألاَّ يكتبَ عنه سوى القرآن، أي بما ينسف مشروعيته من الأساس. أراد النبي أن يكون القرآن وحده النبراس الذي يهدي المسلمين في حياته وبعد مماته، وألا تكون لأقواله هو صبغة معيارية ملزمة، وأراد المسلمون غير ذلك بل عكسه.”(10)

هذا الموقف من الحديث النبوي حمل صاحبه على أن يشكك في نسبة الأحاديث الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، متنكرا بذلك للمناهج التي بنيت عليها، ومبطلا تبعا لذلك لحجيتها، وهو نفس الموقف الذي جرى عليه محمد أركون، وحمادي الذويب، ونصر حامد أبو زيد، وإن كان هذا الأخير يحصر الحجية في ما يتناسب مع ما يسميه بالأخلاق الكونية، وما عداها من الأقوال والأفعال فيدرجه في “سياق الوجود الاجتماعي للشخص التاريخي” وينبني على هذا الموقف من السنة عنده القول بعدم إلزاميتها، لمن سيأتي بعد من المسلمين في العصور التالية.(11)

والحق أن هؤلاء انتحوا منحى أسلافهم ممن أنكر حجية السنة، ولست أدري أين غابت عنهم الآيات البينات الواضحات، الداعية بصيغة الإلزام إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك بسنته، والاعتصام بهديه. عفوا نعم قد أصابتهم غشاوة فعميت عليهم الآيات البينات، فهم لا يبصرون، ولم يقعوا في هذا إلا حينما تنكروا للأصل الأول وهو كتاب الله، والتنكر للأصل تنكر للفرع تباعا. ثم إنهم ليس بوسعهم مناقشة مناهج العلماء في إثبات السنة، والإفصاح عن مناهجهم، وإنما اكتفوا بأسلوب التشكيك، ومعلوم أن الشك لا يذهب اليقين.

وهذا لا يعني أن لا نجدد النظر في مناهج العلوم الإسلامية البتة، وإنما قضية التجديد تأتي بعد الاستيعاب والتمكن من دراسة الموروث نصا ومنهجا، واكتساب الخبرة به، أما التطفل عليه، فهذا لا يليق بباحث يحترم نفسه، وإنما هو ديدن أصحاب الإيديولوجيات الفاشلة.

الخاصية الثانية: تغييب للمنهجية الإسلامية، واستبدالها بالمناهج الوافدة، وهو ما يعني التخلص من كل القواعد والضوابط اعتمادا على الرأي الشخصي والاجتهاد الحر كما يسميه عبد المجيد الشرفي، مدعيا أنهما السمة البارزة للمرحلة التي جاءت بعد عصر النبوة، قال: “فالرأي الشخصي والاجتهاد الحر هما اللذان كانا موجودين في الفترة التي تلت عصر النبوة، مباشرة وامتدت طيلة القرن الأول كله على الأقل، ولا شيء غيرها البتة، لا العودة إلى النص القرآني في كل حادثة، ولا الاستنجاد بأفعال النبي وأقواله في كل صغيرة وكبيرة، ولا اعتماد قياس الحاضر على الماضي، أو قياس فرع على أصل. ولا شك أن هذا هو السبب الأصلي والرئيسي في الخاصية التي بقي الفقه يتميز بها حتى بعد تدوينه واستقراره، وهي أنه مجموعة متراكمة من الحالات صنفت فيما بعد ضمن أبواب وفصول، ولكنه يعسر-بل يستحيل- ردها إلى مبادئ عامة تستوعبها وتفسر جزئياتها وتفاصيلها، كما هو الأمر في المدونات القانونية. فلا أثر في الإنتاج الفقهي، على غزارته، لشرح الأسباب أو تفسير الغايات.”(12)

وإن الباحث ليستغرب من كلامه هذا، الذي يرسله إرسالا دون قيد ولا شرط، ودون تحقيق ولا تمحيص، ودون دليل علمي موثوق به، وكل هذا يقع في سياق إبعاد المنهجية الأصولية في البيان والاستنباط، لأنها تلجم المتطفلين على الاجتهاد، وتطوق المتقحمين لميدانه وهم ليسوا من فرسانه.

والاتكاء على الحرية المطلقة في تفسير النص الديني وقراءته، كانت أيضا دندنة أركون، ومحط عنايته ودعوته، هذه الحرية المطلقة والموغلة في الذاتية يتوخى منها صاحبها أن يجد كل قارئ ذاته فيها، بحسب تأويلاته. يقول أركون: “إن القراءة (قراءة النص الديني) التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرد والتسكع في كل الاتجاهات، إنها قراءة تجد فيها كل ذات بشرية نفسها.”(13) ولا إخال مثل هذه القراءة إلا أن تصدر من مخمور طافح، لا يدرى ما يقول، ويمكنكم أن تستذكروا مثل هؤلاء في المجتمع، وإن كان أركون وجماعته شر مكانا وأضل سبيلا.

بيد أن مثل هذا الرأي السقيم لا تستجيب له أي دراسة من الدراسات، ولا يقبله أي منهج من المناهج حتى الحديثة منها، لا لشيء إلا لكونه لا ينبني على أسس علمية محترمة، وقواعد معرفية يمكن أن تكون معيارا وضابطا لهذه القراءة المزعومة.

وهذه القراءة بهذه الكيفية، حينما تسير على هذا المنوال، متكئة على القول المطلق بظنية النص الديني، فإنما تفعل ذلك لمسخ هوية هذا النص الديني، وفك عضويته المتميزة في إقرار الثوابت المبنية على القطعيات، التي تمثل الوحدة الفكرية والعقدية والسلوكية للأمة، ويكون المقصود هو فك الارتباط بين المسلم ودينه، بحيث تصبح له أحقية ممارسة الدين بالشكل الذي يرتضيه هو، وبحسب حريته الذاتية، فتكون النتيجة هي ما عبر عنها الشرفي بقوله: “الحرية للمسلم يتعبد بالصيغة التي يراها أنسب وأفضل.”(14)

وهو المنهج نفسه الذي ارتضاه المسمى محمد شحرور، فجعلَه مضمونَ ومحتوى القراءة المعاصرة، والذي يرمي إلى اختراق الثوابت وخلخلتها، مركزا خاصة على علم أصول الفقه، وفي ذلك يقول في سياق بيانه لمنهجه المتبع: ” وفيها يرى القارئ ما هو معنى ومحتوى القراءة المعاصرة، حيث تم اختراق كثير مما يسمى بالثوابت، وخاصة ما يسمى أصول الفقه التي تم وضعها من قبل الناس في القرون الهجرية الأولى وهي – برأينا – لا تحمل أي قدسية، وبدون اختراق هذه الأصول لم نتمكن – ونرى – أنه لا يمكن تجديد أي فقه.”(15)

وقد أفضى هذا “التجديد” بالشحرور إلى هذه النتيجة الغريبة والشاذة، التي تتوافق قطعا مع مذهبيته الماركسية اللنينية، التي شرب من لبانها يوم كان طالبا بالاتحاد السوفياتي. هذه النتيجة هي قوله: “فأي تجديد لا يسمى تجديداً إلا إذا اخترق الأصول، وعلينا أن نعي حقيقة تاريخية هامة جداً وهي أن التاريخ الإنساني حسب التنزيل الحكيم يمكن أن يقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة الرسالات التي انتهت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . والمرحلة الثانية مرحلة ما بعد الرسالات والتي نعيشها نحن. أي أن الإنسانية الآن لا تحتاج إلى أية رسالة أو نبوة، بل هي قادرة على اكتشاف الوجود بنفسها بدون نبوات، وقادرة على التشريع بنفسها بدون رسالات. والإنسانية اليوم أفضل بكثير من عصر الرسالات، فالبكاء على عصر الرسالات لا جدوى منه، لأننا الآن في مستوى أرقى معرفياً وتشريعياً وأخلاقياً وشعائرياً.”(16)

وينبني على هذا المسلك الشحروري السقيم، النظر في التنزيل الحكيم، من غير رجوع إلى القواعد العلمية والمنهجية التي دونها علماء الإسلام، ومنها علم أصول الفقه، وفي هذا الصدد يقول مبينا خلافه مع المرجعية السلفية التي تستقي من الأصول التي دونها الإمام الشافعي: “نختلف عنهم بأننا نزعنا عن عيوننا نظارة الشافعي، وسمَحنا لأنفسنا بأن ننظر إلى التنزيل الحكيم بعيون معاصرة، لا بعيون مستعارة، دون مساعدة أحد أو تأطير مسبق من أحد.”(17)

والغاية من هذا التوجه عند شحرور – كما يزعم- هو “وضع أصول جديدة تختلف عن الأطر المعرفية التي تم وضع هذه الأصول من خلالها، في القرنين الثاني والثالث من الهجرة.”(18)

ولسنا في حاجة إلى التعليق على كلام شحرور، فهو يمتح كسابقيه أركون وغيره من الإلحاد في الدين، ولكنهم يتسترون وراء التجديد، وأن آيات القرآن كلها حسب زعمهم وإفكهم ظنية تحتمل كل التأويلات. فمن الطبيعي أن لا يحتكموا إلى المنهج الأصولي في الفهم والاستنباط. ولكن لا يخفون مناهجهم الغربية من البنوية والماركسية والتاريخانية وغيرها. فمن المجازفة الظن بأنهم ينطلقون من فراغ، وإن زعموا ذلك، فهو محض الكذب.

الحلقة الأولى هنا

====-

(1) الإسلام بين الرسالة والتاريخ 42.

(2) انظر الفكر الأصولي واستحالة التأصيل 135

(3) الفكر الإسلامي85.

(4) انظر الفكر الأصولي284.

(5) الفكر الإسلامي قراءة علمية 23.

(6) انظر الإتقان في علوم القرآن 1/36،90.

(7) جامع البيان عن تأويل آي القرآن بتحقيق عبد الله التركي 1/75.

(8) مفهوم النص دراسة في علوم القرآن 10.

(9) القراءة الجديدة للنص الديني29.

(10) الإسلام بين الرسالة والتاريخ 176،177.

(11) انظر النص، السلطة، الحقيقة 17.

(12) الإسلام بين الرسالة والتاريخ 141.

(13) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل76.

(14) الإسلام بين الرسالة والتاريخ 121.

(15) انظر موقع شحرور.

(16) نفسه

(17) الإسلام والإيمان منظومة القيم 21.

(18) دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع 16.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى