منهج السنة النبوية المشرفة في مكافحة الفساد | الجزء الرابع منهج السنة النبوية المشرفة في مكافحة الفساد في التاريخ
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
مقدمة:
اجتمعت للمنهج النبوي القرآني، شروطه ونصوصه ووسائله وأدواته، وتحقق واقعاً في حياة المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة، من خلال قيام الرسول، صلى الله عليه وسلم، بجعل هذه المرتكزات السابقة نقطة انطلاقه للقضاء على الفساد في مجتمع الجزيرة العربية. وسنحاول في المباحث التالية، بيان كيف نجح منهج السنة النبوية المشرفة في مكافحة الفساد في مجتمع الجزيرة العربية، وأرسى ركائز مكافحته على المستوى العالمي، من خلال تتبع فترة البعثة النبوية على مدار 23 عاماً .
مكافحة الفساد العقيدي
العقيدة بذرة الفساد:
كان حال العرب العقيدي، أسوأ أحوالهم قاطبة، بل كان سبب كل أنواع الفساد الأخرى التي انتشرت بينهم.وكان العرب-إلا قلة قليلة تعد على الأصابع مما يسمون بالأحناف- يكفرون بالله ويشركون به غيره من المخلوقات.
فعندما بعث الله الرسول –صلى الله عليه وسلم-، كان لكل قبيلة إله تعبده، ووجدت حول الكعبة مئات الأصنام التي كانوا يشركونها مع الله في العبادة.بل كان بعض معبوداتهم شجرة كبيرة يعظمونها.ومن العرب من كان يعبد الملائكة، ويسميها بنات الله، ومنهم من كان يعبد الجن، زاعماً أن بينها وبين الله نسباً، وكان هذا كله سائداً مترسخاً فيهم.وليس هذا وحسب، بل إن غالبهم كان ينكر البعث بعد الموت، وينكر الحياة الآخرة، وينكر الغيب كله.[1]
أُس كل فساد:
الفساد العقيدي، هو أُس كل فساد آخر، لأنه يخلق حالة تضاد مع منهج الله، ويتسبب في خروج الإنسان عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإخلاله بالميثاق الذي واثق الله به الناس يوم خلقهم، وتضييعه للأمانة التي حملها بعبادة الشيطان؛ في كفره ومروقه عن أمر الله، فيفسد في الأرض.ومنهج السنة النبوية المشرفة، يؤكد على أن هذا الفساد العقيدي منشأوه نفسي، يبدأ من قلب الإنسان، وينتقل منه إلى المجتمع.
الفساد يبدأ من القلب:
ينطلق النموذج النبوي القرآني في مكافحته للفساد العقيدي من القلب، لأنه المدخل لجميع حالات الانحراف العقيدي، ومنه تبدأ كل أنواع الفساد الأخرى.
فما يفرق مجتمع الصلاح والإصلاح والصالحين المصلحين، عن مجتمع الفساد والافساد والفاسدين والمفسدين، هو نوعية القلب الذي يحمله أبناء هذا المجتمع.
ومن القلب يبدأ الفساد: فساد جسد الفرد، وجسد المجتمع.ومن ثم كان القيام على القلب- قلب الفرد وقلب المجتمع- حفظاً وعنايةً وحراسةً، هو السبيل لدوام صلاح المجتمع، وحصر كل منابع الفساد، ومنع كل منابته، وقتل كل جراثيمه في مهدها، ومن ثم وانتفاء الفساد.
في البدء دائماً العقيدة السليمة:
يعد الجانب العقيدي المعرفي، هو نقطة الانطلاق في منهج السنة النبوية المشرفة، لمكافحة الفساد، ويعد غيابه أو انحرافه، هو السبب الرئيسي في فشل أي محاولات لمكافحة الفساد في أي مجتمع.فالعقيدة الصحيحة القائمة على العلم بأنه”لا إله إلا الله”، فيها من المكونات الربانية، ما يجعلها تثير في النفس اشمئزازاً، وفي القلب نفوراً واجتناباً للفساد.والفرد القويم العقيدة هو أول لبنة في المجتمع الرافض للفساد.
ومن هنا، كانت عملية بناء العقيدة الصحيحة، في الله رب العالمين، في قلوب المسلمين الأوائل، والتي تعطيهم الرؤية المتكاملة للكون ومسائله وقضاياه، وكيف يتعاملون معه باعتبارهم مؤتمنين مستخلفين في الأرض، هي الركيزة الأساسية التي قامت عليها أسس منهج السنة النبوية المشرفة ووسائلها، في مكافحة كافة أسباب وأنواع ومظاهر الفساد في المجتمع العربي، وأي مجتمع من بعده إلى يوم الدين.
التوحيد هو الحل:
كان التوحيد، وحده-ومايزال اليوم وإلى قيام الساعة-، هو القادر على مكافحة الفساد المستشري في البيئة العربية زمن الرسالة، لأنه يمثل الرؤية الصحيحة للنفس والكون ومكونه تعالى، وهو المرتكز الوحيد لأي حياة طيبة مرغوبة على الأرض.ف”لا إله إلا الله”، كانت فاتحة دخول المسلم عالم الشهادة على العالمين، وعالم الاستخلاف وحمل الأمانة، ومن ثم سلوك سبيل الصلاح والإصلاح، ومجانبة سبيل الفساد والمفسدين.فقد كان العربي، غريقاً في ظلمات الكفر والشرك، وغارقاً في كافة أنواع الفساد، والعالم مضطرباً من حوله، فجاء التوحيد لينقذه، وينقذ به العالمين من ضلال مبين وفساد ظاهر.
خطوات منهج السنة النبوية المشرفة لمكافحة الفساد العقيدي
أولا: النصوص الملزمة التي تمثل عقيدة المجتمع وتشكل رؤيته للكون ومكونه
ا-النصوص التي أعادت ترتيب مفاهيم الإنسان المسلم، وكونت معالم عقيدته السليمة في الله، القائمة على فطرته التي فطره الله عليه، والتي تلخصها كلمة”لا إله إلا الله”.
فقد كانت جميع السور المكية، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته في المرحلة المكية خاصة، وباقي مراحل الدعوة في المدينة وخارجها، وفي كل حالاته تدعو إلى التوحيد، وتدور حوله، والتأكيد عليه، عبر التربية اليومية في داره-صلى الله عليه وسلم-، أو دور الأقوياء من المؤمنين، أو في دار الأرقم، وفي دور المدينة، وفي مسجد قباء، ثم في مسجد المدينة الجامع.
وقد أقامت نصوص منهج السنة النبوية المشرفة، العقيدة على “ثلاث دعائم، هي:الوحدانية والإيمان بالغيب والرسل أجمعين[2]“.وكانت هذه العقيدة، بمكوناتها الثلاث، تمثل الكهف الذي آوى إليه المؤمنون من الضلال العقيدي الذي كانوا عليه، وحصنهم من أي محاولات للشيطان أو إرادات النفس والهوى التي تفسد القلوب.فحفظت عليهم فطرتهم، وأنقذتهم من الكفر والشرك والنفاق والرياء، وسائر ما يعبد من دون الله، بعد أن أسلمت قلوبهم لله رب العالمين.
ويمكننا الإشارة إلى بعض أهم النصوص التي دعت إلى العودة للفطرة السليمة، والتوحيد الخالص وترك الكفر والشرك:
- ” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ” [3].
- عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء” ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم ” الآية[4]
- عن عبد الله بن عمر قال:حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا قَالَ : صَدَقْتَ.فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْنَا مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ تَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ:فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ[5]
- عنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَلا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلَّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ، فَمَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ فَدَعْهُ[6] “
- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا نَبِيٌّ»، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي اللهُ»، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ[7].
- في الصحيحين أيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: “أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ[8]“
- ” بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ (101) ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ (102) لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (103) قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ (104) وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ (105) ٱتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (106) “[9] .
- عنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟” قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ”، قَالَ: “أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟” فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ[10].
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: “إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ[11]“.
- عن جرير قال: قلت: يا رسول الله، اشترط علي فأنت أعلم بالشرط، قال:” أبايعك على أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح المسلم، وتبرأ من المشرك [12]“.
- في الحديث القُدسي: ((أنا أغْنَى الشُّركاء عنِ الشرك، مَن عمِل عملاً أشْرَك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكه[13].
ب-النصوص، التي تكشف وتعري كل أنواع ومظاهر وآثار الكفر والشرك في المجتمع في مرحلة تكون الجماعة المؤمنة، وإظهار فساد اعتقاد المشركين وضلال تصوراتهم، ومنها:
- ” وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ ” [14]
- لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به[15]
- عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه: رأى يومًا في عنق زوجته خيطًا فسألها: ما هذا؟ فقالت: خيط رقي لي فيه من الحمَّى، فجذَبه فقطعه فرمى به ثم قال: لقدْ أصبح آل عبدالله أغنياءَ عن الشرك، سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: إنَّ الرُّقَى والتمائم والتولة شرْك، فقالت: لقد كانت عيني تقذف، وكنتُ أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقَى سكنَتْ، فقال عبدالله بن مسعود: إنَّما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقَى كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان- صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: أذهِب الباس ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاءَ إلاَّ شفاؤك شفاء لا يُغادر سَقَمًا[16].
- بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[17]
- من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فسأله.فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم[18]
ج-النصوص النبوية والقرآنية التي توضح كيف تفسد العقائد على مدار التاريخ
ومن ذلك:
- ” كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” [19]
- ” شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ (14) فَلِذَٰلِكَ فَٱدۡعُۖ وَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡۖ وَقُلۡ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٖۖ وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡۖ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡۖ لَا حُجَّةَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ (15) ” [20]
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه[21]“
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ[22].
- عن أبي واقد الليثي يقول:كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح رسول الله مكة، خرج بنا معه قبل هوازن، حتى مررنا على سدرة الكفار:سدرة يعكفون حولها، ويدعونها ذات أنواط، قلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الله أكبر، إنها السنن، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون” ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنكم لتركبن سنن من قبلكم[23]“.
- عنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ ، قَالَ: قَالَ لِي حُذَيْفَةُ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ” فَقَالَ حُذَيْفَةُ:أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَا أَحَلُّوا لَهُمْ مِنْ حَرَامٍ اسْتَحَلُّوهُ ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَرَامِ حَرَّمُوهُ فَتِلْكَ رُبُوبِيَّتُهُمْ[24].
ثانيا:الرسول القدوة
حتى يتحقق المجتمع الصالح العقيدة الرافض للفساد العقيدي، كان ولابد أن يوجد الشخص القدوة والنموذج، الذي تتحقق فيه مقومات الإنسان المؤمن الصالح العقيدة، في مقابلة الكائن الفاسد العقيدة المتمثل في الشيطان وأتباعه.
ولهذا كانت المهمة الأصعب لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-، أن يحقق معنى لا إله إلا الله في شخصه الكريم وسلوكه وتصرفاته وأعماله كلها جميعاً- كل التحقيق- على الوجه الذي لا يترك لمؤمن أو لغيره أي شك في معناها وجدواها وحقيقتها، كمسلمة رئيسية يبتنى عليها أي اجتماع إنساني سليم على الأرض.
وقد نجح، الرسول-صلى الله عليه وسلم-، في تمثيل المؤمن الأول، والنموذج القدوة الذي عرف المؤمنون فيه، ومن خلال تصرفاته طوال 23 عاماً معنى أن تكون موحداً حقيقياً؛ قولاً وعملاً وسلوكاً، وتابعوه في ذلك بالشكل الذي جعلهم خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
فقد كانت حالة الرسول، الحبيب، محمد-صلى الله عليه وسلم-، العقيدية تجذب الجميع من حوله وتثير إعجابهم أو عجبهم على حد سواء.فقد كان صاحب وجه غير كذاب، وكانت علامات التوحيد بادية على كل تصرفاته وسلوكياته، وظاهرة في: ثقته في ربه، وفي صدق رسالته، وجدارة دعوته بالذيوع والانتشار لأنها الحق.
وكان دأبه في نشرها-حتى كاد يذهب نفسه حسرات على من يرفضها-، يعطي لهذه العقيدة الجديدة بعداً روحياً وتأثيراً نفسياً، لا قبل لأقسى القلوب إلا أن تسلم له بقوة تأثيرها، على الرغم من جحود قلوبهم لها، بعدما استيقنتها أنفسهم علواً وكفراً.
وكانت السنوات ال23 التي قضاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في دعوة الناس للإسلام، لا تخلو لحظة واحدة من تحقيق لتوحيد: بالفعل والقول والعمل:في بيته، وفي مسجده، وفي لقاءاته مع الناس، في سلمه وحربه، في بيعه وشرائه، في أدائه واقتضاءه، في فرحه وحزنه، في شدته قبل رخاءه، في ليله ونهاره، وكانت كل لحظة من هذه اللحظات تمثل حقيقة لا إله إلا الله. فطوال، ثلاثة عشرة عاماً في مكة، ظل يقول للناس، قولوا:”لاإله إلا الله تفلحوا”[25]، ويردد ليل نهار” قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا “[26]، منها عشر سنين يوافي المواسم كل عام، يتبع الحاج في منازلهم، وفي المواسم بعكاظ وجنة وذي المجاز يدعوهم قائلاً: يأيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وكان أول ما عاهد عليه الأنصار عندما أسلموا: أن لا يشركوا بالله شيئاً[27].
وكانت دروسه النظرية، عبر حواراته وأحاديثه مع أصحابه، وسلوكياته العملية اليومية، صلى الله عليه وسلم، طوال السنوات العشر التي قضاها في مدينته، هي السبيل الأمثل، الذي جعلهم يفقهون تماماً معنى لا إله إلا الله، وتبعاتها وآثارها، فقد ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم-، أنه شبه العقيدة بالوعاء الذي يحفظ الأعمال، فإذا كان سليماً طاهراً، فكل عمل يعمله الإنسان يكون صالحاً لا فساد فيه، أما إذا كان فاسداً، فكل عمل يبنى عليه فاسد.فعن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه.ولذلك كانت كبيرة الكبائر هي الإشراك بالله[28].
وعندما فتح الله له مكة، حطم كل صنم يعبد من دون الله، بعد أن اقتلع من القلوب كل بذرة شك في الله، وكل بادرة شرك به، فعندما دخل مكة، طاف بالبيت سبعاً، ثم رأى صورة الملائكة بهيئة النساء، ورأى إبراهيم مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، وأمر بطمس الصور كلها، واتجه إلى الأصنام، فحطمها مردداً ” وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً” (الإسراء 81) “[29].
وخلص التوحيد من كل شرك ظاهر أو خفي مثل: الرياء أو الحلف بغير الله، أو التوكل على غير الله، أو الطيرة، والرقى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون، كل هذا أغلق أبوابه تماماً.
وعندما جاءته وفود العرب، كان أكبر همه أن يقتلع من قلوبهم أي وهم في تلك الأصنام التي يعبدونها، فتساهل معهم في أمور كثيرة إلا هذه الأصنام، فقد أمر بتكسيرها جميعاً، حتى يعرف العرب أنها حجارة لا تضر ولا تنفع.
وحج الرسول-صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، وتحدث إلى مائة ألف أو يزيدون من حجيج بيت الله الموحدين، قائلاً بثقة العبد المؤمن وفرحته بانتشار التوحيد والقضاء على الكفر والشرك” إن الشيطان قد أيس أن يعبد في أرضكم بعد اليوم، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات[30]“
ثالثاً: الوسائل التربوية العملية لترسيخ العقيدة في القلوب وتشمل:
ا- العبادات والفرائض مصداق التوحيد:
كانت العبادات، كلها، مداخل لتثبيت عقيدة التوحيد في القلوب والعقول، وجعلها جزءاً لا يتجزأ من شخصية المسلم.فقد حررت العبادات، المتوجهة لله الواحد رب العالمين، الجماعة المؤمنة الأولى من مذلة العبودية لغير الله، وأزالت الغشاوة التي كانت على قلوبهم، والتي أوقعتهم في عبادة حجارة وأشجار وغيرها من المخلوقات، التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.
فالصلاة، مثلاً، كانت مفتاحاً رئيسياً في مكافحة الفساد العقيدي، فالتحقق بالصلاة فعلاً وإقامتها حق إقامتها؛ كحوار صريح من قلب العبد إلى ربه، تصنع من الإنسان في لحظاتها القصيرة زمنياً والطويلة نفسياً وقلبيا، إنساناً موحداً حقاً، ولنا أن نتصور كيفية ومدى هذا التأثير، عندما يكون معلم الناس الصلاة، هو رسول رب العالمين المبعوث رحمة مهداة. وهكذا الأمر في باقي العبادات.
ب- القضاء على مظاهر الكفر والشرك في جزيرة العرب:
وغلق كل منافذ الشرك والكفر من: أصنام، وتصاوير، والنذر والذبح لغير الله، والاستقسام بالأزلام، والسحر، وعبادة الجن وغيرها، مما كان يتعلق بها العرب ويعبدونها، حتى استتب أمر التوحيد في القلوب. ومن الوقائع الدالة على ذلك:
عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ» فَقُلْتُ: بَلَى، فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ، قَالَ: وَكَانَ ذُو الخَلَصَةِ بَيْتًا بِاليَمَنِ لِخَثْعَمَ، وَبَجِيلَةَ، فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ، يُقَالُ لَهُ الكَعْبَةُ، قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا، قَالَ: وَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ اليَمَنَ، كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالأَزْلاَمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَا هُنَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ، فَقَالَ: لَتَكْسِرَنَّهَا وَلَتَشْهَدَنَّ: أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ؟ قَالَ: فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِنْ أَحْمَسَ يُكْنَى أَبَا أَرْطَاةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قَالَ: فَبَرَّكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ[31]. وقد فعل ذلك بكل الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله في جزيرة العرب.
ج- الممارسات الحياتية اليومية الفردية، والمناسبات الجماعية:
كانت عقيدة التوحيد، أول ما يربى عليها المسلم من لحظة دخوله الإسلام إن كان كبيراً، أو من لحظة ولادته إن ولد في الإسلام.
- ” وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) ” [32]
- عن عمر بن أبي سلمة -صلى الله عليه وسلم- قال: أنه لما كان صبياً تطيش يده في الصحفة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا غلام سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك[33]“
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف[34]“
- عنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ، بِالصَّلاَة[35].
- مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه[36].
ج-بناء الجماعة المؤمنة، الحاملة لعقيدة وقيم التوحيد، وإنشاء المؤسسات التي تحصن المجتمع من بأس الفساد العقيدي
كانت أخوة الإيمان والمؤاخاة ومؤسسة المسجد، والأحاديث اليومية للرسول مع جماعة المؤمنين، تبني الجماعة المؤمنة، فقد كان أحدهم يدخل على رسول الله بيته، أو يذهب إليه في بيت الأرقم، أو في مسجد المدينة، في بداية النهار فيعلمه الإسلام والصلاة، فيخرج مع انتهاء النهار شخصاً آخر، بل خلقاً آخر قد استعاد فطرته يوم خلقه ربه[37].
د- إعداد الجيل الأول من دعاة العقيدة:
خديجة وعلي وأبو بكر وعمر وعثمان، ومصعب وابن أم عبد وجعفر ومئات غيرهم من أصحابه رضي الله عنهم.وتكوين النواة الأولى من المؤمنين الدعاة إلى الله على بصيرة، من خريجي مؤسسة دار الأرقم ومسجد المدينة، الذين فتحت باقي الجزيرة العربية، ثم معظم بلدان قارات العالم القديم على أيديهم.
ه- مكافحة النفاق: أخطر ما يواجه الأمة إلى يوم الدين
بعد أن تطهرت قلوب العرب، من الكفر والشرك الصريح.وبعد أن أنضج التوحيد القلوب والعقول المسلمة، فلم تعد تقبل أن تعبد وثناً أو صنماً أو بشراً أو مخلوقاً من دون الله.بقي لمنهج السنة النبوية المشرفة، أن يعالج تلك الحالة الخطيرة والداء الوبيل، الذي نشأ بين ظهراني المؤمنين في المدينة، يريد أن يلفتهم ويفتنهم عن دينهم ويعيدهم كفاراً: إنه داء النفاق، وما يفعله في القلب: قلب الفرد المنافق، وقلب المجتمع الذي يبتلى بنفر المنافقين المترفين، الذين يفسدون في المجتمع ولا يصلحون.
فالفساد طبيعة النفاق، والنفاق طليعة الفساد.ومن هنا سمي المنافقون مفسدين، لأن أول ما يقومون به نقض عهد الله من بعد ميثاقه، وهو الإيمان به تعالى وتوحيده الخالص.والنفاق سم يسري في جسد المجتمع، ولا يحس به إلا وهو قاتله، بعكس الكفر والشرك الصريحان.والمنافقون، قوم فاقوا الكفار والمشركين في فساد قلوبهم ودخيلة نفوسهم، فقد جحدوا بآيات الله بعد إيمانهم، استكباراً وعلواً وظلماً، فماتت منابت الإيمان والشعور بالفضائل لديهم.
فالنفاق، في منهج السنة النبوية المشرفة، هو أخطر أنواع الفساد العقيدي الذي يصاب به المجتمع المسلم بعد أن برىء من الكفر والشرك، ويأس الشيطان أن يعبد في مجتمع الإسلام الأول.
ولهذا تكفلت نصوص منهج السنة النبوية المشرفة وتطبيقاته، باقتلاع وكشف جذور النفاق في المجتمع، وتعريته ونزع كل أسلحته الناعمة التي يوقع بها بين أبناء المجتمع، ويبث من خلالها سمومه، وعرى شخوص المنافقين إلى يوم الدين وكشف دواخل نفوسهم، وأظهر صفاتهم الخبيثة، بل ألجأهم للاعتراف بحقيقة التوحيد في آخر لحظات عمرهم، حيث لا منجى من الله إلا إليه، بعد أن كفروا من قبل وضلوا عن سواء السبيل.
ومن أهم هذه النصوص:
- آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان[38].
- إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان[39].
- ” إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا (142) ” [40] .
- ” أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا (60) ” [41]
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجراً، ولا يأتون الصلاة إلا دبراً، مستكبرين، لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار[42]“
في جذر القلوب:
استطاع الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم-، بفضل تأليف الله بين قلوب المؤمنين، أن يجعل الأمانة: أمانة لا إله إلا الله والخلافة عنه-تعالى-، في أرضه، ومسئوليتهم عن عمرانها حسب منهجه، تنزل في جذر قلوب المؤمنين بالإسلام، قبل أن يعلموا من القرآن ومن السنة، فكان من السهل عليهم بعدها، أن يسلموا ويطيعوا لقوانين القرآن والسنة في كافة المجالات.
وتحققت هذه العقيدة الغضة الطرية، وظهر نموذجها الأول واقعاً متجسداً في رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وانتقلت منه إلى المسلمين فتحققوا بها، ونزلت في جذر قلوبهم، متوهجة متألقة متمكنة، فأعطهتم دفعة قوية، وطموحاً صادقاً في حياة جديدة طيبة على الأرض، بدلاً عن حياة الجاهلية التي عاشوا بها دهراً.
وكان تمكن هذه العقيدة من النفوس بعد أن تشربتها وأخبتت لها القلوب، هو ما سهل إعادة بناء المجتمع العربي، وتحويله من تجمعات متفككة لا رابط بينها، إلى مجتمع حقيقي يرتبط بشبكة علاقات متينة مؤسسة على التقوى.وكانت هي الركيزة الأساس، التي أسهمت في تطبيق قوانين الإسلام وقيمه الجديدة في هذا المجتمع؛ الذي لم يكن قبلها يحل حلالاً، ولا يحرم حراماً، ويستمرىء الموبقات كلها.
لقد سرت روح التوحيد الحق في النفوس، وتشربتها القلوب، على مدى يقارب ربع قرن من الزمان، فغيرت عالمنا بأكمله، بعد أن غيرت جزيرة العرب.وقضت على مفاسد وموبقات ما كان لها أن تزول إلا بفعل”لاإله إلا الله محمد رسول الله”، حتى تكاملت خطة القضاء على الفساد في مجتمع المدينة وتمت.
العقيدة السليمة هي مرتكز أي خطة لمكافحة الفساد:
لقد بين منهج السنة النبوية المشرفة، عبر القدوة والمثل محمد صلى الله عليه وسلم، أصول الإيمان، حتى اكتمل الدين وتمت النعمة، واجتمعت كل مقتضيات تحقيق التوحيد، وخير كلمة قالها وعلمها وتحقق بها الرسول والنبيين من قبله”لا إله إلا الله” لدى المسلمين الأول: فتم لهم التأسيس الإيماني المعرفي الواعي، القادر على مكافحة أي فساد في ذواتهم ومجتمعاتهم.
ولهذا نجح هذا النموذج النبوي القرآني، في مكافحة الفساد والإفساد بكافة أنواعه ومظاهره، وقضى على معظم آثاره الضارة بين العرب على مدى 23 عاماً كاملة، بعد أن اقتلع بذور وجذور وثمار شجرة الفساد العقيدي من القلوب المؤمنين، ومن مؤسسات مجتمعهم.
واستطاع تحقيق نتيجة، لم ترق لها أمة من قبل في مجال مكافحة الفساد بكافة أنواعه، ولا حتى بين الأجيال التي جاءت من بعده حتى اليوم، حتى حق لهذا الجيل أن يكون خير أمة أخرجت للناس، كما سنحاول بيانه في المباحث القادمة إن شاء الله.
[1] محمد محمد أبو شهبه، السيرة النبوية،القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية القاهرة، ط،1 2012، الجزء الأول ص97
[2] أبوزهرة، محمد،المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، القاهرة ، دار الفكر العربي، دون تاريخ، ص17
[3] الأعراف: 172
[4] صحيح مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة
[5] رواه مسلم
[6] رواه البخاري ومسلم
[7] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة
[8] متفق عليه
[9] الأنعام: 101-106
[10]متفق عليه
[11] متفق عليه
[12] رواه أحمد
[13] صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله
[14] الزمر:38
[15] رواه أبو نعيم والطبراني والبيهقي
[16] أحمد وأبو داود
[17] أخرجه مسلم
[18] رواه البرزار وأبو يعلى
[19] البقرة:213
[20] الشورى:13-15
[21] متفق عليه
[22] متفق عليه
[23] صحيح ابن حبان
[24] سنن سعيد بن منصور
[25] رواه أحمد
[26]الكهف:110
[27] البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار
[28] سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي على العمل
[29]ابن هشام، السيرة النبوية، على الرابط التالي
http://www.al-eman.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%20%D9%87%D8%B4%D8%A7%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%85%D9%89%20%D8%A8%D9%80%20%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%88%D9%8A%D8%A9%C2%BB%20**/%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1%20%D9%85%D9%86%20%D8%A3%D9%85%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84%20%D8%A8%D9%82%D8%AA%D9%84%D9%87%D9%85%20%D9%88%D8%B3%D8%A8%D8%A8%20%D8%B0%D9%84%D9%83%20%E2%80%8F/i109&d73061&c&p1
[30] أخرجه أحمد
[31] صحيح البخاري، كتاب المغازي، غزوة ذي الخلصة
[32] الفرقان: 74
[33] صحيح البخاري
[34] رواه الترمذي
[35] أخرجه أحمد وأبو داود
[36] رواه ابو داود
[37] راجع في ذلك:
برغوث، الطيب، منهج النبي في حماية الدعوة، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م، ص298-304
[38] رواه الشيخان
[39] رواه أحمد
[40] النساء:142
[41] النساء:60
[42] رواه أحمد