منهج السجون في دين الطغاة
” من أدبيات السجون “
(4)
بقلم عمار حسين الحاج
عندما تمتلكُ الإرادة الحُرَّة في مداورة موجودات حياتك باتجاه إنتاجِ واقعٍ أفضل تجدُ ذاتك فيه، حتماً ستكفُرُ بدين الاستبداد، وبقوةِ الجَلَّاد تصبح من ضمن عناصرِ منظومة الاختفاء عن محيطكَ ضمن منظومة ومنهج السجون، وينتعش السجن بكَ، وتُمارسُ عليك طقوسُ دين السُلطة وإعلان التوبةِ، وفي أغلب الحالات لن تُقبل توبتكَ وتبقى في السجن صوتكَ هاربٌ، وانتظاركَ مُصابٌ بالفصام، ويدكَ على فراغٍ محاصرْ.
“لستَ سوى نحَّات خيال الحديدِ بإزميلِ الوقت البليد”.
تبدأ الحكاية بخطفكَ من دائرتكَ الضيِّقة بمظاهر السلاح والقوة المُفرطة والتي لا تَحْتَمِل السؤال أو الجدال، وبإنعاش الخوف داخلَ من سيحاول السؤال عنك وعن مصيرك، وبإظهار كم أنت خائنٌ وكافرٌ بدينِ وليِّ نعمة البلدِ يصير اختفاؤكَ مقبولٌ اجتماعياً، مع غضِّ الطرف عن الخاطف والمسؤول الحقيقي عن تغييبكَ وحجز ذويكَ في دائرة اعتقالك.
لتنضم إلى سُكَّان العتمة، أي مَن سبقوكَ إلى هذا الجحيم، فقصة الاستبداد قديمة ومنهج الطُغاةِ لا يتغير إلَّا في الأدوات والوسائل التي يتبعونها في تطبيق أصول الدين الجديد، وفي محاربة ومكافحة من يكفرون بهِ.
ومن أصول السجون والتحقيق، العتمة والإضاءة البعيدة أو الخافتة، حيث تنقلات المعتقل لا يمكن أن تحدث إلا وهو معصوب العينين وخصوصاً أمام المحققين ذوي الشأن، والزنزانات بلا إنارة، إلَّا ما يرشح من ضوء النهار عبر نوافذ صغيرة جداً في أعلى الجدران، وهناك الكثير من الزنزانات لا يوجد فيها نوافذ أبداً، هذا إذا حالفك الحظ ولم يضعوك في المنفردات، “والمنفردة هي عبارة عن مكان بمساحة متر وربع مترٍ مربع تقريباً، لا يوجد فيها شيء سوى حفرة لقضاء الحاجة، وبعض المنفردات لا يوجد بها حفرة وإنما دلوٌ صغير لقضاء الحاجة”.
تدخُلُ إلى فرعِ التحقيق مع جهلك للجهة التي اعتقلتك، تُحَدِّثُ نفسكَ دائماً: “الظُلمةُ اعتقلتني” ويبدأ الاستقبال، والاستقبال لهُ طقوسهُ التي تبدأ مع أولى خطواتك داخل جحيمك الجديد، وأنت مقيد اليدين إلى الخلف ومعصوب العين تنهالُ عليك الضربات، بالأيدي والأرجل والعصي، وتصير السيالات العصبية بشكلٍ سريعٍ وجنوني تنقل المعلومات من كل مناطق جسدكَ إلى الدماغ ليقوم بتحليلها وتوزيعها على مساحة الإدراك وتفسيرها، “هذه قدمٌ تنتعل حذاء عسكري قد نالت من أضلاعي وهذه قبضةٌ تبدو من ضغطها الشديد على فمي وقدرتها على الإطاحة بنابي الأيمن، لا بُدَّ هي لملاكمٍ عتيد، وهكذا” مع بقاء أمرٍ عام ونهائي من الدماغ برفض أي ردِّ فعلٍ إرادي أو لا إرادي لأيٍّ من الضربات التي يتسع مداها لتشملَ كامل الجسد الذي سيصبح عارياً بعد حفلِ الاستقبال.
ومنذُ لحظةِ اعتقالكَ الأولى وحتى نهايته بالموت أو الإفراج، يبدأ ويستمر جَلْدُ روحكَ وهويتكَ وماضيكَ وحاضرُكَ وعملُكَ بأقذر الشتائم والألفاظِ المهينة لإنسانيتك ولوجودكَ في هذا الكون كائناً عاقلاً وبنيت أدواتكَ التي ستحقق فيها أحلامكَ بأن تكون مصدراً لفِعلِ الخير لنفسكَ ومُجتمعكَ.
عندما تُصبحُ عارياً، تتلمسُ روحكَ هذا العُري، وتتخيل نفسكَ واقفاً في وسط المجهول وكُلُّ شيءٍ يضيق حولكَ وفيك، حتى الهواء في الرئة يضيق ودمكَ أيضاً يبرد وترتفع حرارته لحظيَّاً، ويفوق قدرة الشرايين والأوردة على احتمالِ عدم اتزان ضغط دمك، وجِلدُكَ يضيقُ عليكَ وعلى مشاعركَ المُتناقضة بالإحساس بالخجلِ والذلّ والموت الذي بات قريباً جداً وكأنهُ يقف خلف عصبة العين مباشرةً.
“كُلُّ شيءٍ يضيق حولكَ وفيكَ ما عدا الظلام يتكاثر ويَتسع ليشمُلَ تفكيركَ وبعدِ وقتٍ قصيرٍ سيشمل أيضاً ذاكرتكَ كُلَّها”.
تقفُ في اللا مكان، تلتفُّ حولكَ مخلوقاتٌ متوحشةٌ صوتية وحسيَّة، تنهالُ عليكَ بكُلِّ ما يشوهُ جسدكَ وروحك، تقفُ وحيداً، ووحيداً جدَّاً، في سراديب العتمة المجهولة عن ذويكَ الذين أبعدتهم عن تفكيرك قسريَّاً، لتُفكِّرَ بشيءٍ واحدٍ فقط وحتى اللحظة الأخيرة، وهو “لحظةُ إعدامكَ ببساطة الموت هنا وفي كُلَّ مكانٍ تحكمه وحوش الاستبداد، وكأنَّكَ لم تكُن”.
وهذا الجزءُ الأسهل من الاعتقال، والذي ذاقَهُ كُل مَن دخل كُلُّ أفرع الأمن السورية إن كان قبلَ الثورة أو خلالها، مع الأخذ بعينِ الاعتبار ارتفاع درجةِ وحشية الجلَّاد بعد العام 2011 واتساع دائرة الموت تحت التعذيب من حالة الخصوصية والسريَّة _ لمعتقلين محددين لهم تأثيرهم الكبير في محيطهم أو في المجتمع عموماً وما كان خطراً على النِظام في فضح ملفات استعبادهِ لشعبهِ _ إلى شموليةٍ وشبهِ علنية لأي معتقلٍ ولأي سببٍ كان، حيثُ إنَّ النظام بكاملِ هيكله السُلطوي اعتبر الثورة ومنذ انطلاقتها مرضاً عُضالاً، ويجب علاجهُ باستئصال العضو المريض مهما كانت نسبة العجز الذي سيصيب جسد البلد، وحتى لو أدَّى إلى موتهِ وخرابهَ، فلديهِ كاملُ القناعة في أن يحكم جسداً ميِّتاً ولا أن يتنازل عن كُرسي الحكم لعامَّةِ الشعبِ، ولو فعلَ غير ذلك لما كان دكتاتوراً.
(المصدر: موقع حرية بريس)