مناهج الإفتاء في المسائل التي تعتمد على الموازنة بين المصالح والمفاسد
بقلم أيمن صالح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فالمسائل الخاضعة لنظر المفتين نوعان:
أحدهما: مسائل منصوصة بعينها أو ملحقة بالمنصوص بطريق القياس، وهذه لا شك تكون الفتوى فيها بحسب مقتضى النص أو القياس.
والنوع الثاني: مسائل غير منصوصة ولا مقيسة، وإن كانت تدخل على بعد تحت عمومات ضعيفة أو أقيسة واسعة، وبسبب بعدها عن النص والقياس يعتمد الاجتهاد والفتوى فيها بدرجة كبيرة على الموازنة بين المصالح والمفاسد أو المنافع والمضار. ومن أمثلة ذلك: التدخين، والتظاهر السلمي، والعلاج الجيني، وعمليات التجميل، والمشاركة الانتخابية في ظل أنظمة وضعية، والعمل الجائز في ذاته في مؤسسة أكثر كسبها من الحرام كعمل حارس البنك وعامل النظافة فيه وغيرهما، والعيش الدائم في بلاد الكفار…الخ
وهذا النوع من المسائل يمكن استقراء ثلاثة مناهج للمتفقّهة للوصول إلى الحكم فيه:
المنهج الأول: منهج الإلحاق بالنص أو القياس، وهو المنهج الذي لا يقيم وزنا لقضية الموازنة بين المصالح والمفاسد في مسائل هذا النوع، بل يتكلَّف ردَّها بجملتها إلى النوع الأول، فيراها مندرجة في نص أو قياس رغم ضعفِ هذا الاندراج، أو تعارضِه مع نصوص أخرى من نفس المنزلة في البعد، كمن يستدل على حرمة العلاج الجيني، مثلا، بحكايته تعالى عن إبليس، أعاذنا الله منه، أنه قال: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}، فيعارضه آخر بنفس المنهج بقوله، صلى الله عليه وسلم: “تداووا عباد الله”.
المنهج الثاني: منهج الاستصلاح الحاسم، أي إطلاق القول في المسألة بالمنع أو بالجواز بناء على ترجيح المصلحة أو المفسدة من غير تفصيل ولا تقييد. فأصحاب هذا المنهج يعترفون، ابتداءً، بابتناء المسألة على الموازنة بين المصلحة والمفسدة لكنهم لا يراعون اختلاطهما في ذات الواقعة بل يغلبون إما المصلحة وإما المفسدة فيفتون بالمنع مطلقا أو بالإباحة مطلقا. وهؤلاء بدورهم ينقسمون إلى طائفتين متباينتين:
إحداهما: أهل الاحتياط وسد الذرائع والميل إلى تعظيم المفاسد أو ملاحظتها أكثر من المصالح.والطائفة الأخرى: أهل التيسير وفتح الذرائع، والميل إلى الإباحة ورفع الحرج وتعظيم المصالح وإغفال المفاسد.
المنهج الثالث: منهج الاستصلاح التفصيلي، وهو منهج يحاول قدر الإمكان تفصيل القول في المسألة غير المنصوصة محل النظر فيمنع منها في أحوال ترجح فيها المفسدة على المصلحة، ويجيزها في أحوال معاكسة ترجح فيها المصلحة على المفسدة، ولذلك يكثر في فتاوى أرباب هذا المنهج ذكر الضوابط والتقييدات عند الفتوى في مسائل الاستصلاح.
ويبدو لي هذا المنهج الأخير أولى بالصواب من حيث المبدأ؛ لأنه أعمق نظرا إلى الواقعة من المناهج السابقة، مع التسليم بأن المسائل غير المنصوصة بعينها ليست على نسق واحد، بل يخضع كل منها إلى ذوق خاص ويتطلب نظرًا خاصًّا، ولكن على المجتهد والمفتي ألا يمنع ممّا يفضي إلى المصلحة والمفسدة إذا أمكن بنوع من الضبط تخليصه من المفسدة كلها أو معظمها. ومثال ذلك تفصيل القول في عمليات التجميل فتباح لتغيير العيب الطارئ غير المعتاد، ولتغيير العيب بالغ الشذوذ المسبب للحرج، ولتغيير العيب الذي يُرفع تبعا لعلاج داء، وتحرم لغير حاجة من الحاجات السابقة كالعمليات التي تجرى لقصد زيادة الحسن أو لتقليد الآخرين لا أكثر. ومثل هذا التفصيل أرجح من القول بمنع هذه العمليات مطلقا أو بجوازها مطلقا، والله أعلم.
(المصدر: مدونة أيمن صالح)