من طبائع الاستبداد المعاصر
بقلم الشيخ حسن الدغيم (خاص بالمنتدى)
الاستبداد منظومة متراكمة من الوصول للسلطة عن طريق الاستلاب ، وإدارتها بطريقة التفرّد والاستحواذ، وقمع المخالف، والتنكيل به، والخوض في المقدّرات العامّة، مع التخطيط لتوريث هذه المنظومة للقريب والشبيه، في إصرار على خنق روح المساءلة والمحاسبة، وتعويم الفساد.
الاستبداد لا يحتاج لشيطنة، لأنّه الشيطان نفسه، فما من فتنةٍ إلا قرع على طبولها، وما من رذيلةٍ إلا نفخ في مزاميرها، وهو الشجرة الخبيثة الحاوية بين أخاديد جذعها، صنوف الحيّات والعقارب، لتلدغ المستظلّين بظلٍّ من يحموم، لا بارد ولا آمن ولا كريم.
إنّ الجهد الفكريّ مطلوب بذله بإلحاح، لتجريم الاستبداد، وفضح منظوماته، وذلك للوصول إلى اعتبار الاستبداد -عند مختلف الشعوب- جريمة ً سياسيّة تستهدف الشرعيّة، وجريمة دينيّة تستهدف الشريعة، وجريمةً أخلاقيّة تستهدف قيم الحضارة والتقدّم، ويصير المستبدّ -أينما كان- عارياً من ثياب الخداع.
يجب الانتباه في أثناء مواجهة الاستبداد إلى أنّ هذا الداء يقبل التوارث بين الفاسدين، ولا يتأثّر باختلاف هويّاتهم، لأنّه مع قمع الرقيب، وتزييف الوعي يستطيع المستبدّ التغرير بأتباعه، وإيهامهم بأنّ وجوده مرتبط بمصلحتهم الدنيويّة والدينيّة، بل وبأنّه الأقدر على حراسة دينهم ودنياهم.
الاستبداد عدوان على مبادئ الدّين، فهو النسف العمليّ لمبدأ الشورى، فالشورى في أبسط صورها تضمن أن يعطي الناس رأيهم فيمن يحكمهم، ويرعى مصالحهم، وفيما يشاور الناس إن لم يؤخذ رأيهم في معقد القرار السياسيّ والعسكريّ والاجتماعيّ، وصورة الدولة ورمزها.
الاستبداد عدوان على تعاليم الرسل والنبوّات، ومادعت إليه من ردّ أمور الأمّة لقرارها (وأمرهم شورى بينهم)، ووجوب حفظ الأمانة بتولية القويّ الأمين: (إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين) وكيف تصحّ المشاورة (وشاورهم في الأمر) مع حاكم يبطش بالأرواح ويكتم
الاستبداد عدوان على مقاصد الشريعة، وكليّات الملّة، لأنّه ميدان التفريط بكلّ فضيلة، وجالب كلّ دسيسة، وهو بعكس مقاصد التشريع القائمة على جلب المنافع ودرء المفاسد، فلا حياة للنفس مع حاكم لا حسيب عليه ولا حريّة ولا فكر، ولا مالٍ مأمون عليهِ، ولا عرض ٍ مصون.
الاستبداد عدوان على مكارم الأخلاق، ومنارات التقدّم والرفاه، فهو يقرب الفاسد الموالي، ويبعد الناقد الصادق، بل يستهدف حياتهم ويشيطنهم ليتفرّد بفضاء الآخرين، مع كهنته وسحرته، فيسود النفاق، وتشرعن التقيّة، ويكتم الشفوق رأيه في صدره، مخافة السيف والنطع
الاستبداد عدوان على العلم، لأنّه لا يرى تشجيع العلوم، إلا تلك التي تزيد من تحكّمه بمصائر الشعوب، وزيادة حجم ترسانته العسكريّة، في الوقت الذي يسعى لتطويق العلوم والمعارف التي من شأنها تحصين الوعي، وتوسيع المدارك، وذلك خوفاً من أن تنكشف أوراقه وأب
الاستبداد عائق لحركة الفكر، لأنّ الفكر ينمو بالتقادح والتمازج، وفي الوقت الذي يقف فيه الاستبداد حائطاً صلداً ضدّ هذا التموّج، فإنّه يرسّخ للانطوائيّة والانغلاق، ويدجّن شعوباً عريضة كالقطعان السادرة، تآكلت إنسانيّتها، وقاربت العجماوات في جمودها
الاستبداد عدوان على العقل محطِّ التكريم الإلهيّ، لأنّ المستبد يرى نفسه صاحب الأوليّة الحصريّة على العقول، فهو المؤمن والحريص الأعلم والأفضل، ولأنّه ليس بذاك.. فهو يعمد على طمس عقول غيره، بالترهيب والنكال والتشويه، حتّى يتفرّد أمام المنخدعين بسطوته، ويظهر لهم كحكيمٍ
الاستبداد عارٍ من كلّ فضيلة، لا يستطيع أن يغطّيَ شينه بمنجزات الوهم، أو الأمن المزعوم، ولذلك يلجأ لبعض الأقلام والعمائم التي تطيعه، وتسبّح بحمده، ويخلع عليهم من مال الرعيّة ما يشتري به ضمائرهم، وأمّا أولئك الذين لا يخشونه فلهم سياط القهر، وظلمات السجون.
لا يورطنّ أحدٌ نفسه بشرعنة الاستبداد، بذريعة وجود مستبدّين عادلين مرّوا على حكم الناس، لأنّ القيم لا تبنى على الاستثناء، وعلى فرض أنّهم كانوا، فليس لأنّهم طلبوه، ورغبوا فيه، بل ربّما قصرت بهم أدوات الحكم، وحالت إكراهات الواقع عن بلوغ الأفضل.
لا يزعمنّ أحدٌ من المستبدّين أو مروّجيهم أنّ أحداً ما مفوض بمصادرة رأي الناس في حكمهم، فالسلطة من حقّ الأمّة، تسندها بطريقة تراها الأقوم، ليصل قرارها إلى تشكيل منظومتها، وليس بيد أحد حقّ إلهيّ، أو نصّ نبويّ، أو أمر دينيّ، أو عقد لازم يخوّله تجاوز رأي الناس فيمن يحكمهم.
مامن أحدٍ ذاق ويلات الاستبداد أكثر من أصحاب الفكر والدعوات، ورغم ذلك ينتهض دعاةٌ مساكين وبسطاء، ليدافعوا وينافحوا عن منظومة الاستبداد، ويستدعوا لها ما يجمّلها من الروايات والاجتهادات، بحجّة الخوف على الدين، ونسوا بأنّ المستبد شرُّ من حمل الأمانة.