بقلم د. سعيد بن ناصر الغامدي
عندما تسود حالة (ردة الفعل) على شخص أو مجتمع أو أمة فإن ذلك مؤذن –في أغلب الأحوال-بالتأرجح والتنقل غير المنهجي من طرف إلى طرف مقابل، وحينما تلتبس هذه الحالة –وكثيرا ما تلتبس- بالعاطفة فإن الحدّية والنقد المصادِر والاقتناص تصبح هي سيدة الموقف في الحالة الجديدة كما كانت في الحالة القديمة، بل ربما أشد، وإن اختلف المظهر، وهذا يتضح عند بعض المتنقّلين فكريا أو دينيا والمتحوّلين ثقافيا، بل حتى عند الأشخاص الذين يرفعون شعارات المرونة والتصالحية و عدم الحدية وعدم التطرف.
ويمكن هنا ذكر أمثلة مستندة إلى تأملات في الواقع تهدف إلى استكناه بعض جوانب هذه الحالة:
شخص كان متشدداً في نقد الآخرين ومدققاً في استخراج هناتهم وهفواتهم، ثم اكتشف خطأ هذا المسلك وآثاره السلبية، فانتقل إلى الطرف الآخر تساهلاً وليناً إلى حد السكوت الممنهج، أو التسويغ التطوعي عن أمور لاينبغي تسويغها أو السكوت عنها، ثم تراه وقد تطورت حالته إلى أن أصبح -بمناسبة وبلا مناسبة- يلمز ويغمز ويتهكم بمناهج ومدارس وعلماء ومفكرين كان يفاخر بأنه منهم ذات يوم، أو كان يتمنى أن يكون منهم.
السؤال المطروح في هذه الحالة و أشباهها هو: هل يشعر هذا الشخص أن صدمة من نوع مّا دفعته باتجاه الطرف الآخر؟ والأهم من ذلك هل استشعر وهو في الحافة الجديدة بأنه أعاد تكرار ما كان عليه أول مرة، وأن الذي اختلف هو (المرمى) الذي يصوّب إليه ؟
وشخص آخر عاش في بيئة يغلب عليها التدين القوي الحريص على النقاء من الشوائب والإضافات مع نوع قسوة وشدة، ثم خالط أناساً فيهم رقة ولطف وتألّه فتأثر بهم فانتقل من حالة إلى مقابلها في الطرف الآخر، حتى أصبح يتحدث كعاشق عن رموز ورسوم وأحوال، و يدافع بلا برهان عن غلاة وصل أمرهم إلى دركات باطنية فلسفية تشاقق المحكم والضروري.
وفي أجواء من الشحن والتحشيد الثقافي عاش أحدهم، ثم تبين له إفلاس هذا المسلك وخطره على التماسك والتآلف، فانتقل –فجأة و في ظروف معينة- إلى الضفة المقابلة، مستصحبا بعض أدوات ومشارط التجريح ليمارس ضد رفاقه الذين تشرّب منهجهم الأسلوب نفسه ولكن من زاوية مختلفة، وبقيت الحدية في الطرح والنقد هي السائدة ولكنها هذه المرة مسددة إلى ذات الفناء الذي كان فيه.
لعل هذه الحالات المتقابلة -من وجهة نظر جدلية هيجلية- هي حالات طبيعية لتوليد أفكار وممارسات أكثر نضجاً في المستقبل، أو من وجهة نظر نفسية هي تعبير عن عوالق سيكوباثية (كفشل في التوافق الاجتماعي والأخلاقي أو مواجهة الاحباط بالاندفاع دون نظر في النتائج.) وأيا كان التحليل أو التوصيف فإن من المهم هنا التركيز على أن حالات الانتقال المفاجئ والحاد والمتأثرة بإكراهات واقع معين أو ردة فعل معين،كالأمثلة التي سبقت، يجب أن تبقى في حدودها، فلا يتحول اصحابها إلى نماذج سوف تؤدي إلى ترسيخ الأخطاء وتعميقها أكثر، وينبغي التنبه لآثار حالات التأرجح هذه على صوابية المنهج وعقلانية التناول وبرهانية الحكم، بحيث لاتنتقل الآثار السلبية إلى آخرين يظنون أن صدورها من شخص معروف أو مشهور أو متبوع كافٍ فـي صحتها منهجيّاً أو سلوكيّاً.
ومهما كانت الأحوال فإن البشر عرضة للتغيرات والتنقلات، والتوازن النفسي والسلوكي مطلب مهم، وأهم من ذلك الانضباط المنهجي؛ إذ أن من المتحولين والمتنقّلين من يصابون أثناء سيرهم السريع من ضفة إلى ضفة أخرى بما يشبه الدوار والترنح وضعف الرؤية، فيفقدون عندها فاعلية المنهج المنضبط الذي هو بمثابة الأذن الوسطى للإنسان.