من الجهاد إلى الليبرالية.. كيف أصبح “تركي الدخيل” رجل بن زايد في بلاط السعودية؟
في اليوم نفسه الذي توفي فيه العاهل السعودي السابق عبد الله بن عبد العزيز، الجمعة الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني لعام 2015، وبعد رحيله مباشرة، قام خليفته وولي عهده الملك “سلمان بن عبد العزيز” باتخاذ تدابير سريعة تحمي عرشه الجديد من دوائر “عبد الله” القديمة؛ وذلك عن طريق إطاحته بمن أطلق عليهم وقتها رجال “محمد بن زايد”، ولي العهد الإماراتي، في البلاط السعودي، بدءا بإقالته رئيس الديوان الملكي واسع النفوذ وقتها “خالد التويجري”، من عُد حينها أحد المقربين من “ابن زايد”، وليس انتهاء بتهميش “متعب بن عبد الله” نجل العاهل السعودي الراحل والذي كان يتمتع بعلاقات طيبة مع الإماراتيين أيضا؛ إلا أنه وكما اتضح بعدها، فقد كان الحراك شديد السرعة متجها نحو الإطاحة بدوائر الملك الراحل القديمة، لا تحركا مضادا لأبوظبي بحال، وليرسم بذلك مسار علاقات ودودة بين الجارتين الخليجيتين امتد لينعكس مؤخرا في أوضح صوره عبر توجه ولي العهد السعودي الحالي “محمد بن سلمان” بتعيينه لـ “تركي الدخيل”، ابن شقيقة والدة الأمير “متعب”، ومدير قناة العربية السابق المعروف بعلاقاته الوطيدة بكل من ابن زايد وابن سلمان على سواء، في منصب سفير المملكة في الإمارات في العاشر من فبراير/شباط الحالي.
وبسابقة دبلوماسية، سلَّم الدخيل أوراق اعتماده سفيرا لوزير الخارجية الإماراتي “عبد الله بن زايد” نفسه، بعد أقل من 24 ساعة على أداء الأول القسم أمام العاهل السعودي، وليختم “الدخيل” يومه الحافل بشكر وزير الخارجية على “تشريفه” بأن أتاح له موعدا وسط التزاماته في القمة العالمية للحكومات بدبي لاستلام نسخة من أوراق الاعتماد، الأمر الذي أثار حفيظة بعض السعوديين لما لمسوه في كلامه من ارتهان للإمارات[1]، ورغم مرور ما حدث بعد بضعة أيام من الأسبوع الماضي، فإن ضجة “الدخيل” بدأت قبل تعيينه بثلاثة أيام وفي مكان مختلف تماما، في الولايات المتحدة.
شرفني سمو الشيخ #عبدالله_بن_زايد وزير الخارجية والتعاون الدولي بدولة #الإمارات ، بأن أتاح لي موعداً وسط التزاماته في القمة العالمية للحكومات ب #دبي لاستلام نسخة من اوراق اعتمادي سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في الإمارات العربية المتحدة، هذه الليلة. pic.twitter.com/b7TVAkb1fV
— #تركي_الدخيل (@TurkiAldakhil) February 10, 2019
في ذلك الوقت، السابع من فبراير/شباط الجاري، كشفت صحيفة نيويورك تايمز[2] عن تسريبات لمحادثة بين “ابن سلمان” وأحد كبار معاونيه في سبتمبر/أيلول 2017، وهي محادثة كانت وكالة الأمن القومي الأميركي “NSA” قد اعترضتها وسجلتها ضمن تحليل تجريه الوكالة لكل محادثات “ابن سلمان” على مدار الأعوام السابقة. وفي المحادثة، أخبر ابن سلمان الطرف الثاني بوجوب استدراج الصحافي السعودي “جمال خاشقجي” إلى المملكة، وإن لم يفلح ذلك فيجب “إعادته بالقوة”، وإذا لم تفلح القوة فإنه سيلاحقه -أي ابن سلمان- بـ “رصاصة”، وللمفارقة، كان المسؤول الحكومي رفيع المستوى وطرف المحادثة هو تركي الدخيل نفسه، من أصبح سفيرا ووسيطا بين بلده، وبين الإمارات حاضنته الثقافية الأولى.
في ثمانينيات القرن الماضي، ووقتما كانت المملكة بمنزلة “حديقة خلفية للجهاد الأفغاني” حسب وصف الدخيل في كتابه “كنت في أفغانستان”، الكتاب الذي ألَّفه فيما بعد إبّان زيارته لأفغانستان في تسعينيات القرن الماضي، بوصفه صحفيا يبحث عن مجد شخصيّ لا جهاديا، كما يقول، ونشره بعد رحلته إلى أفغانستان بعشرة أعوام، في تلك الفترة وأثناء مرحلته الدراسية المتوسطة التي سبقت رحلته لأفغانستان، كان الشاب تركي المولود عام 1973 يساوم والدته على الدراسة مقابل أن تسمح له بالذهاب إلى الجهاد في أفغانستان، وأرجع “الدخيل” مساومته تلك لكونه وغيره من الشباب السعودي آنذاك كانوا في “مرمى سهام محاضرات قادة الجهاد الأفغاني في مساجد الرياض وغيرها من المدن السعودية الكبرى”، محاضرات حث بها القادةُ الشبابَ على الجهاد بالمال والنفس والمشاعر[3].
كانت دراسة “الدخيل” الجامعية في كلية الأصول قسم السنة بجامعة الإمام “محمد بن سعود” الإسلامية، وبدأ مسيرته الصحفية كاتبا في “جريدة الرياض” من عام 1989 وحتى 1992، ثمَّ محررا سياسيا في “جريدة الحياة” من 1995 حتى 2002، ومراسلا سياسيا لإذاعة “إم بي سي” لثلاث سنوات أخرى، انتقل بعدها إلى تقديم برنامج “إضاءات” الذي استمرَّ عقدا كاملا من 2003 حتى 2013[4]، إطلالة إعلامية أولى ممتدة ظهر فيها الدخيل “المتدين قبل بلوغه الحلم”[5] حسب وصفه لنفسه في إحدى مقابلاته، حيث ظهر فيها كليبرالي ينتقد التشدّد السلفي.
لم يكن هذا العقد من الزمن مليئا بظهور الدخيل الإعلامي وحسب، بل وبتأسيسه أعمالا موازية، كان على الرأس منها “مركز المسبار للدراسات والبحوث”، والذي اتّخذ الإمارات مقرا له عام 2005 ورأسه الدخيل بطبيعة الحال، مشبّها نفسه بـ “قائد الأوركسترا”،[6]؛ ومتعاونا مع باحثيه لرصد واقع انتقى منه المركز دراسةَ الحركات الإسلامية والظواهر الثقافية المنبثقة منها عموما، ببُعديها الفكري والاجتماعي السياسي، مع إيلائه اهتماما خاصا بالحركات الإسلامية المعاصرة، فكرا وممارسة ورموزا، واهتمامه بدراسة الحركات ذات الطابع التاريخي متى ظل تأثيرها حاضرا في الواقع[7]، ويتجلّى ذلك بعناوين إصدارات المركز منذ عام 2007؛ كـ “القاعدة في جزيرة العرب”، و”الإخوان المسلمون”، و”حركة حماس”، و”جماعة الجهاد في مصر”، و”الإخوان المسلمون في سوريا”، وليس انتهاء بـ “الحركة الإسلامية في إسرائيل”.
وجدير بالذكر أن ثمة جدلا غير محسوم عن أجندة المركز واتخاذه لمواقف عدائية من “الإسلاميين الحركيين” [8]، مع ما يعده البعض بمنزلة “إساءة” للسعودية و”تحريض عليها” مُنطلِقا من أفكار شيوخها ومبادئها بطرق مختلفة، منها إنجاز بعض باحثي المركز لدراسة لم تنشر عن “انتهاك حقوق الشيعة في السعودية”، وهي دراسة تم بيعها إلى إيران التي تستخدمها حاليا في حربها الإعلامية والدبلوماسية على السعودية بحسب بعض ناشطي موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”[9].
في عام 2006، بدأ المركز تولّي مهمّة إعداد برنامج “صناعة الموت” الذي عُرض على قناة العربية، وعُني البرنامج الوليد بتحليل ونقد “الجهاد والحركات الجهادية”، متعاملا معها كحركات “إرهابية متطرفة مصدّرة للموت والعنف”. أمَّا في عام 2011 وأثناء ظهوره الدوري على قناة العربية، نال الدخيل شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية من جامعة “المقاصد” ببيروت بدرجة جيد جدا عن رسالته: “حجر الزاوية لسلمان العودة؛ دراسة تحليلية مقارنة”، والتي طبعها فيما بعد بعنوان: “سلمان العودة من السجن إلى التنوير”، بإشراف المفكر اللبناني الشهير “رضوان السيد”.
دارت الرسالة حول مراقبة عملية “الأسلمة” الجارية مجتمعيا وثقافيا في المملكة، متخذة برنامج “حجر الزاوية” نموذجا مع التركيز على شخصية الشيخ السعودي الشهير “سلمان العودة” “والتي كانت ولا تزال طاغية الحضور والتأثير في عقود مختلفة وبأفكار متناقضة”، كما يقول الدخيل في مقدمة كتابه[10]، وهو الداعية الذي اعتقلته السلطات السعودية عام 2017 مع عدد من الدعاة السعوديين الذين يمتلكون وجهة نظر مختلفة عن طريقة إدارة المملكة، ولهم بعض الانتقادات والتحفظات عليها.[11]
انتهت مسيرة الدخيل الإعلامية بتعيينه مديرا لقناة العربية عام 2015، ثم إقالته من منصبه مطلع العام الجاري 2019 بسبب “ارتباك” في السياسة الإعلامية عانت منه القناة إثر اغتيال “خاشقجي”، الأمر الذي دفع أصواتا سعودية على مواقع التواصل إلى المطالبة بتحسين الأداء الإعلامي للمملكة، وهو أداء نال فيه الدخيل نصيبه من الانتقادات بشأنه خاصة بعدما كتب مقالا في جريدة “الشرق الأوسط” بعد ردود الفعل الدولية الغاضبة على اغتيال “خاشقجي” هدّد فيه الولايات المتحدة بخطوات سعودية مضادة في حال فرضت الأولى عقوبات على المملكة[12].
https://youtu.be/Ksth94NVIYU
في أبريل/نيسان عام 2016، ظهر “ابن سلمان” وزير الدفاع وولي ولي العهد الصاعد وقتها في أول مقابلة تلفزيونية له ليطرح فيها رؤيته الاقتصادية المعروفة بـ “رؤية 2030″، كانت المقابلة حصرية لقناة العربية، ومع الإعلامي الذي رافق “ابن سلمان” في جولاته الخارجية خصوصا عند توقيعه اتفاقيات دولية جديدة، ومن يعرف بأنه أكثر من يستطيع الوصول لمعلومات حصرية داخل أروقة البلاط الملكي السعودي، وكان ذلك الإعلامي بطبيعة الحال هو “الدخيل”.
عند حديث ابن سلمان في المقابلة عن الدعم الذي يجب أن يوجه لأصحاب الدخل المتوسط ومن هم أقل منهم فقط، أراد الدخيل أن يشمل نفسه مع أصحاب الدخل المتوسط الذين ينتظرون الدعم، فألمح ابن سلمان في صيغة شبه مازحة بأنه لن يتحدث علنا عن ثروة الدخيل، الأمر الذي أوضح الصلة الوثيقة بين الرجلين، وأثار في الوقت نفسه أسئلة إعلامية عن ثروة الدخيل والأجر الذي يتقاضاه في ظل كونه أحد أهم “أبواق الآلة الدعائية السعودية” التي تروج لسياسات التقشف بين مواطني المملكة.
بعدها بشهرين تقريبا، وبنهاية يونيو/حزيران للعام نفسه، وبعد تعيين “ابن سلمان” وليا للعهد بأسبوع واحد، عُيّنَ “الدخيل” مديرا لقناة العربية، ومع تدرج “ابن سلمان” في سلّم السلطة الداخلية في المملكة وليا لولي العهد ووزيرا للدفاع وأمينا عاما للديوان الملكي، ثم وليا للعهد، كان “الدخيل” يتدرّج معه حتى عُد في الأوساط المختلفة بمنزلة مستشار فعلي وغير رسمي للأمير الشاب النافذ، كما كتب “سايمون هندرسون” الباحث في معهد واشنطن[13].
لكن المستشار غير الرسمي كما يُسمى، لا يقتصر نفوذه على البلاط الملكي السعودي فقط، فلطالما عُرف “الدخيل” بعلاقاته القوية مع “آل زايد”، وهي علاقات أكدها بصورة ضمنية بنفسه عندما نقلت صحيفة “ميدل إيست أوبزرفر” تصريحا للدخيل قال فيه إنه لا يعمل مستشارا لمحمد بن زايد ولكن لديه علاقات جيدة معه. وفي البحث عن ماهية هذه العلاقات الجيدة نجد أن هناك صلات مالية بين “ابن زايد” والدخيل كشفتها الصحيفة؛ ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول لعام 2012 نقل ابن زايد مبلغ 1.1 مليون درهم إماراتي، نحو 316،000 دولار، إلى الحساب المصرفي الشخصي للدخيل، وفي يوليو/تموز لعام 2014 تلقّى الدخيل أيضا حوالة مالية من “ابن زايد” بمبلغ وصل إلى 633 ألف دولار تقريبا، أمّا النقلة النوعية في رصيد الدخيل فقد كانت قيمة الاستثمارات المسجلة باسمه والتي قفزت من نحو 8.4 مليون ريال سعودي، في 15 فبراير/شباط عام 2015، إلى 94 مليون ريال سعودي في 13 أغسطس/آب للعام نفسه؛ بزيادة أكثر من 11 ضعفا في ستة أشهر فقط كما كشفت “ميدل إيست أوبزرفر”، زيادة أثارت تساؤلات عند نشرها، باعتبار أنه ليس من المرجح أن تولدها مهنته الأساسية كصحافي شهير بحال.
نتج عن هذا الفائض المالي المتصاعد شراء شركة “الدخيل” في 21 يونيو/حزيران 2015 لعقار في “دبي مارينا” مقابل 17 مليون درهم إماراتي، أي نحو 4.6 مليون دولار، وشراء عقارين في مشروع يسمى “ريفر لايت” لا يزال قيد الإنشاء في لندن بقيمة تجاوزت ثلاثة ملايين جنيه إسترليني، وهي فترة شهدت نشاطا مكثفا للدخيل في ترويج السياسات التقشفية للنظام السعودي ودعوة السعوديين لتقبلها كما ذكرنا[14].
على الأرجح، فإن التتويج الأخير للدخيل سفيرا بين السعودية والإمارات ليس بداية لطريق ربما كان يطمح له، بقدر ما هو حصاد جهد قديم جعله قريبا من المحمَّدين بالدرجة نفسها، ومحل ثقتيهما، ومتلقيا شبه دائم كما يبدو للأعطيات المالية والوظيفية، وهو جهد رشّحه بسهولة نسبية ليكون الشخصية المُجمع عليها لممارسة العمل السياسي بين البلدين اللدودين، لكن ذلك القرب ربما يتسبب مستقبلا في الاستغناء عن الدخيل والتضحية به قربانا لنيران جذور العداء بين فرقاء الأمس أحلاف اليوم، خاصة في ظل التقلبات المستمرة بين بلده، وبين راعي مشاريعه الفكرية والمالية، وهي تقلبات بين حليفين يجدان نفسيهما بالتدريج وجها لوجه، ويوما بعد يوم، في أهم ملفات المنطقة على الإطلاق.
(المصدر: ميدان الجزيرة)