مقالاتمقالات مختارة

من أين أتتنا عقلية تقديس الأشخاص؟!

من أين أتتنا عقلية تقديس الأشخاص؟!

بقلم زيني محمد لامين

من مشاكلنا الأخلاقية المساهمة فيما نحن فيه من ركون عن باقي الأمم المتقدمة: صناعة الفرد المُقَدِّس للأشخاص. صناعة الناظر للأشخاص كمقدَّسينَ. تكوين عقول راضخة راضية بجبروت الطغاة. تكوين عقول لا تقتات ولا تتنفس إلا في بيئات الطاعة والولاء المذموم. يا ترى من أين تأتي عقلية تقديس الأشخاص؟ ومن وراء جو قداسة الأشخاص؟

مما فهمته من شؤون الحياة الاجتماعية أن عقلية تقديس الأشخاص لها علاقة وطيدة بالبيئات المتخلفة أو قل: إن عقول تقديس الأشخاص لا تنبت وتستشري إلا في جغرافيا التخلف، والمنتج الحقيقي للعقل المقدِّس للأشخاص في حقيقة الأمر: المجتمع ككل. المجتمع بمؤسساته؛ أي كان الشكل المؤسّسي سواء بشكله القديم أم الجديد، وبما يَضخُ من أفكار ومعاني في عقول أفراده؛ وفي نظري القاصر بطبعي كإنسان أن هناك مؤسسات لها اليد الطولى في تكوين العقل المقدِّس للأشخاص؛ العقل الذي لا يمكنه أن يعيش إلا في بيئات تُقدِّس الأشخاص. العقل الذي لا يبتهج ولا يُسر إلا في بيئات تقديس الأشخاص. العقل الباحث عن من يتقدَّس أو من يُّدفع بِه لِيَّتقدَّس، هي المؤسسات التالية: الأسرة، المدرسة، الإعلام، ومن خلال هذا المقال سنوضح باقتضاب ما تقوم به هذه المؤسسات في سبيل بذر بذور قداسة الأشخاص.

أولا الأسرة: من أولى نوات المجتمع في تكوين العقلية المقدسة وسيادتها، وبالتالي حظها ليس بالتعيس في مسألة نبض حياة الشخصية المقدِّسة. تزرعُ الأُسرة في الطِّفلِ وهو صغير: خصلة تقديس وتعظيم أشخاص بعينهم، من خلال قناة الخوف والرهبة؛ والتي أول من يشرعن لها حق البث: الأب عن طريق الفزع والقلق الزائد لأبنائه من جنابه، والنظر إليه كشخص مقدَّس، وكسلطة عليا لا يمكن الوصول إليها بأي شكل من الأشكال.

وتعمل الأم القطب –الأول- من حيث التأثير في الأسرة على تكريس هذه السلطة -سلطة الأب-، من خلال تخويف الأبناء من الأب، وسرد قصص مرعبة عنه؛ قد تكون أقرب للخيال منها للحقيقة في حال تمرد الأبناء عليها. ظهور الأب في الوسط العائلي بنفسية قاسية نفسية غامضة تتسم بالغلظة والخشونة. الأب: هو تلك الشخصية الغامضة المتعالية المتجبرة لا حيز للعطف والحنان في قلبها إلا ماقلَّ.

ومن هنا نؤتي تعظيم الشخص في أنفس فلذات أكبادنا من أوسع أبوابه، من هنا نزرع في نفوس أبناءنا أنه لابد من وجود الشخص المهاب المقدس الذي لا تعقيب ولا مراجعة لأوامره في حياتنا. من هنا تكبر الأجيال وقد تتطور وترتقي في شتى المجالات، ولكن تبقى سمة القداسة ملازمة لها، وتبقى دائمة البحث عن من يتقدس. ثانيا المدرسة: تلعب المدرسة دوراً محورياً في صناعة العقل المُمَجِّد المقدِّس للأشخاصِ، وذلك من خلال تأييد المؤسسات المجتمعية في رؤياها وإكمال رسالتها، نظرياً وتطبيقياً، وإضافة بصمتها الخاصة ببراعة وتفننٍ.

نظرياً: تكمل المدرسة مهمة تكوين الشخصية المُقدِّسة للأشخاص من خلال نصوص تعليمية تقدم للطالب؛ تتناول شخصيات بذاتها، وتستطرد في مدح عظمتها إلى أن يستقر في مخيلة وعقل وفؤاد الدارس على أنها شخصيات مرموقة سامية من طين غير طينها لها ما يميزها عن باقي الأنامِ، وأن لولا هذه الشخصيات لما وجد من الأساس كل ما يحيط به من أشياء ضرورية وتكميلية؛ ومن بين هذه الشخصيات على سبيل المثال لا الحصر. أدبيا: امرؤ القيس، عنتر ابن شداد، سبويه الجاحظ…. وحتى المعاصرين أمثال العقاد، وطه حسين، والمنفلوطي، ونجيب محفوظ ووو… وغيرهم من الأقحاح، الذين لا يمكن أن يصل لمستواهم كائن من كان، ولا يمكن أن يأتي بِمعشار ما آتوا به، فالإبداع والجمال اللغوي انتهى عندهم ودُفن.

تاريخيا: تقدم أمجاد وانتصارات الأمة كاملة في شخص واحدا، ونتغافل بعقلنا الموروث في حالتيه الجينية والثقافية، عن ما وراء هذا المجد من منظومة متكاملة بدءً من أصغر مولود في الأمة إلى أكبرها، ومن ظروف محيطة متشابكة، بفضل هذا التشابك حدث المجد. وننسى كل هذا ونعلقه بشخص واحد وكأنه كان يعيش لوحده، وبهذا يكبر العقل المقدس للأشخاص فينا بقدر ما نكبر ونظل ندور ونبحث عن من يُقدَّس. تنسب كل الانتصارات الماضية وحتى الحاضرة لشخص واحد ويسلط الضوء عليه كمركز، وكمثال لذلك طرد المسلمين للمغول هنا لا نتذكر من الأحداث سوى الزعيم وفقط ركن الدين ببرس ونتغافل عن الجو السائد حينئذٍ وروح الأمة ومعطياتها المغذية المتكاملة الذي لولاه لما حدث انتصار.

عالمياً: هتلر النازي ويذكر بهذه العبارة “غازي العالم” مع إضافة شماعتنا الخاصة ورنتنا المفضلة وهي: ألا تعلم أن هتلر أباد اليهود؟! ليزداد قداسة ومكانةً في قلوبنا. مع العلم أن بث هكذا أخلاق في مراحل التربية المبكرة من أخطر ما قد يضر الأجيال والمجتمعات المستقبلية، وهذا قطعا ليس من باب الدفاع عن اليهود بل من باب حاجتنا الماسة إلى تزكية وترقية عقولنا، ومحاكمتها وتوعيتها بضرورة اليقظة والمساهمة في تمكينها من سرها السرمدي ألا وهو محاكمة الأشياء بقوانين لا بعواطف ومزاج.

أما تطبيقياً: فمن خلال المنهجية التي يزرعها المعلم في الطالب وهي عدم مناقشته فيما يقول. عدم إبداء رأي مخالف لما يراه حضرة المعلم؛ لأن المعلم هو ذلك الشخص الذي لا يخطئ، وبالتالي تحوز الأمة أجيال كل همها وأُمنياتها أن تكبُر وتصبح بمثابة من علّمها ودرّسها وتسود عقلية لا أحد مثلي، ولا أحد يناقشني، ولا أحد أوفر مني مكتسبات. أو نتوج بذهنية الاستكانة والبحث عن من يتقدس. وهكذا تزرع المؤسسة التعليمية قيم الرضوخ وقداسة الآخر، وتكوين العقل الذي لا غنى له عمّن يقوده ويستسلم له ليضعه في المكان الذي يريده.

الإعلام: يلعب الإعلام دوراً بارزاً في تكوين العقلية المقدِّسة للأشخاص التي لا تهنى ولا ترتاح إلا في ظل وجود مقدَّس مُبجَّل؛ من خلال مواده ووسائله المتنوعة التي يطرحها بين أنظار ومسامع الجمهور المتلقي. ومن الوسائل المستعملة في ذلك: السينما، الشاشات الموجَّهة، الأشرطة الوثائقية، الجرائد بشكليها التقليدي (الورقية) والحديث (الإلكترونية)؛ لذا سنقوم بتقديم مثال من السينما الصانعة لقداسة الأشخاص حتى تتضح الصورة.

الأفلام الزعائمية التي تتناول شخصيات بعينها كفيلم -أيام السادات- الذي قام بدور البطولة فيه النجم أحمد زكي، أو فلمه الثاني -ناصر ٥٦-، وبما أننا أصبحنا أمة السكن في ما مضى وفي جميع مجلاته وعلى ضوء هذه المجالات فلابد لنا من استدعاء الماضي وذكرياته سينمائيا من خلال أفلام تتناول شخصيات تاريخية بعينها كفيلم -الحجاج- على سبيل المثال مع العلم أنه طاغية وظالم ويكفيه طغياناً وظلماً؛ أنه قتل عبد الله ابن الزبير ابن العوام، ومع هذا الجرم الذي تندى له الجباه وتدمع له العين، إلا أن السينما العربية ما فتئت تقدمه لنا على أنه زعيم وبطل مغوار. وتم توجيهنا ونحن صغارا إلى مشاهدته لنتأثر به من خلال الهالة الكلامية بوجهيها الشعبوي والثقافي التي تدور حوله من شكر وثناء إلا درجة أننا ونحن صغارا لم نعد نرى غير شخصية الحجاج نموذجا للاقتداء، وأصبحنا نحلم بأن نرى هكذا نسخة تتكرر في زماننا. كل هذه الأفلام في حقيقة الأمر ما هي إلا نوع من أنواع تكريس قداسة الأشخاص في نفوس الناس وجعل النفسية من بديهياتها وأولوياتها البحث عن رموز لتقدسها وتلهث ورائها كما تلهث فريسة الضباع خلفها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى