مقالاتمقالات مختارة

من أجل أن تستعيد الأمة الإسلامية مرجعيتها العلمية المتخصصة

بقلم مجدي محمد علي

إنّ احترام التخصص العلمي والرد في علوم الشريعة إلى أهلها المتخصصين ضرورة علمية وقد أمرنا الله تعالى باحترام التخصص واستفتاء أهل الخبرة والتخصص بقوله تعالى: “وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ”وهؤلاء المتخصصون ينبغي الرجوع إليهم في مجال علومهم قال تعالى: “وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ” وقال تعالى: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ“.

وطالب العلم العاقل لا يطلب العلم إلا في مظانه ومظانه عند أهل التخصص فيه فمن أراد معرفة الحديث لجأ إلى أهل التخصص فيه وهم علماء الحديث ومن أراد معرفة الفقه لجأ إلى علماء الفقه ومدارس الفقه المتأصلة معروفة ومن أراد معرفة العقيدة لجأ إلى علماء العقيدة ومدارسها المتخصصة فيها وهكذا وإنما يأتي الخلل عندما نلجأ إلى غير المتخصص أو عندما يتحدث غير المتخصص في غير فنه.

لقد تطرق القرآن الكريم إلى كل العلوم الشرعية ووضع لها الأسس والقواعد دون أن يعطي لها مسميات وتعريفات ودون أن يجمع أصولها وقواعدها وضوابطها وشروطها في موضع واحد بل فرق تلك القواعد في ثنايا السور والآيات ثم ترك جمع القواعد والأصول لكافة علوم الدين للعلماء لكي يتدبروا ويجتهدوا ويسعى كل عالم منهم من أجل كشف لبنات هذه العلوم وعندما فتح الصحابة رضي الله عنهم مشارق الأرض ومغاربها ودخل الناس من شتى الأمم والأجناس في دين الله تعالى اتسعت دائرة العلوم وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص فقام كل فريق من أهل الاختصاص بتدوين العلم الذي يحتاج الناس إليه.

احتاج الناس إلى حفظ القرآن وفهمه فظهرت أول ما ظهرت من التخصصات الأساسية من علوم الدين مدرسة القرآن وانتسب إليها طلاب العلم وعرفوا باسم القراء وتفرعت وتعددت مجالاتها وظهرت داخلها علوم القراءات وكان من ثمرتها حفظ القرآن عضاً طرياً كما أُنزل.

استفحل أمر الفرق الضالة والتي كان أهم أسباب ظهورها هو الجهل بالدين ولما استفحل أمر تلك الفرق احتاج المسلمون إلى أهل التخصص في العقيدة لبيان عقائد الفرقة الناجية والرد على الفرق الضالة

ثم احتاج الناس إلى الحديث فظهرت مدرسة الحديث وانتسب إليها طلاب العلم وعرفوا باسم أهل الحديث وتفرعت وتعددت مجالاتها وظهرت داخلها علوم الحديث وعلوم الجرح والتعديل وتأسست المدارس الحديثية التي كان من بركتها ظهور الصحيحين وكتب السنن والمسانيد وكتب الجرح والتعديل وكان من أعلامها المتخصصين في علم الحديث البخاري ومُسْلِم أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والأعلام المتخصصين في الجرح والتعديل وعلم الرجال مثل شُعْبة بن الحجَّاج ويحيى بن سعيد القَطَّان وعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن معين وعلي بن المَديني وأحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي وابن أبي حاتم فهؤلاء وأمثالهم ومن جاء بعدهم من تلامذتهم هم المرجع في علم الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال وعلم مصطلح الحديث.

ثم احتاج الناس إلى تعلم أحكام الدين وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام فظهرت مدرسة الفقه وانتسب إليها طلاب العلم وعرفوا باسم الفقهاء وتفرعت وتعددت مجالاتها وظهرت داخلها علوم أصول الفقه وكان من ثمرة التخصص فيها ظهور الأئمة الأربعة الفقهاء المجتهدين أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل لقد أصبحت هذه المذاهب الفقهية الأربعة على مر عصور الإسلام بفعل عوامل عديدة هي القبلة الصحيحة لطالبي الفقه على وجهه الصحيح بعيدا عن تشدد المتشددين وترخص المترخصين مع العلم بأنّها عبارة عن اجتهادات في فهم النصوص الشرعية قد تصيب وقد تخطيء ولكنها أفضل المسالك لطالب الفقه الراسخ.

ثم استفحل أمر الفرق الضالة والتي كان أهم أسباب ظهورها هو الجهل بالدين أضف إلى ذلك الهوى الذي يجري من صاحبه مجرى الدم من العروق ولما استفحل أمر تلك الفرق احتاج المسلمون إلى أهل التخصص في العقيدة لبيان عقائد الفرقة الناجية والرد على الفرق الضالة فظهرت مدارس العقيدة على منهاج أهل السنّة والجماعة وأكرم الله تعالى الأمة بثلاثة من علماء المسلمين الأكابر حملوا لواء الدفاع عن عقيدة المسلمين وبيان عقيدة أهل السنّة والجماعة وهم الإمام أحمد ابن حنبل والإمام أبو الحسن الأشعري والإمام أبو منصور الماتريدي وبهم اكتملت صورة العقيدة الفذة التي ينبغي أن يحملها كل مسلم فالإمام أحمد حمل لواء الدفاع عن عقيدة أهل السنة تجاه المخالفين.

والإمامان أبو الحسن الأشعري والإمام أبو منصور الماتريدي حملا لواء الهجوم على أعداء هذه العقيدة وتطهير عقائد المسلمين من أخطاء الفرق الضالة وأكرم الله تعالى الأمة بهم وبتلامذتهم وامتزجت علومهم وظهر منهم المتخصصون في مجال العقيدة الذين ضبطوا مسائل الأسماء والأحكام ومسائل الإيمان والكفر ومسائل التوحيد والشرك ومسائل التقديس والتنزيه ومسائل الإتباع والابتداع ومسائل الإلهيات والنبوات والسمعيات وما يجوز وما يجب وما يستحيل على الله تعالى وعلى أنبيائه ورسوله عليهم السلام.

وضبطوا سائر أبواب العقيدة على مذاهب الكتاب والسنة والصحابة وآل البيت وصار للمسلمين ثلاث مدارس في الأصول لا رابع لها إلا الميل إلى الغلو او التفريط وهي المدرسة الأثرية وعليها فضلاء الحنابلة إلا من مال إلى الحشو والتجسيم وسوء الادب مع الله تعالى بسبب عدم العلم بقواعد التقديس والمدرسة الأشعرية وعليها فضلاء المالكية والشافعية وهم سواد العلماء المتخصصين في العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة إلا من مال إلى الحشو أو الاعتزال والمدرسة الماتريدية وعليها فضلاء الأحناف إلا من مال إلى الحشو أو الاعتزال وأُحكم أساس تلك المدارس على يد المتخصصين فيها واتقنت علومها وصارت المرجع لكل مسلم يبتغي في العقائد وجه الحق والعدل والإنصاف من هاجم مدرسة منها فهو متهم في عقله أو علمه أو دينه.

ومع اتساع الفتوحات الإسلامية وثراء المجتمعات الإسلامية بدأ ميل المسلمين إلى الدنيا والركون إليها وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية وبالقلب والهمة مما دعا أرباب الزهد والمعرفة إلى أن يعملوا هُم من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف وإثبات شرفه وجلاله وفضله ومن باب سد النقص واستكمال علوم الدين في جميع نواحي الحياة الإنسانية.

وإذا كان أهل السنة والجماعة سواد المسلمين الأعظم قد اتفقوا على مدارس العقيدة الثلاث الأثرية والأشعرية والماتريدية كمدارس متخصصة في العقيدة واتفقوا على مذاهب الفقه الأربعة الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة كمدارس متخصصة في الفقه فإنهم اتفقوا على أن التصوف الصحيح القائم على الكتاب والسنة هو التزكية المقصودة بقوله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” وهو الإحسان الذي جاء في حديث جبريل عليه السلام المشهور وفيه قَالَ: “فأخبرني عَنْ الإحسان قَالَ أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” أخرجه مسلم وأهله هم المتخصصون في علوم التزكية والإحسان.

أهل السنّة والجماعة الناجية لا يُشاركهم لديهم خصيصة لا يشاركهم فيها أحد من الفرق الإسلامية الأخرى ألا وهو التخصص العلمي ووجود المذاهب العلمية المتخصصة

ولما كان المتخصصون في هذا الجانب قد عُرفوا بالصوفية فلا مشاحة في الاصطلاح والمهم المضمون في هذا الباب وهو أنّ التصوف الصحيح قد تكفل بعلم بتزكية الباطن بطهارته من الحقد والحسد والكبر والعجب والرياء ودسائس الاخلاق وتحليته بالإخلاص والصدق والتواضع والتقوى وعظيم الأخلاق وقد كان السادة الصوفية المتمسكون بالكتاب والسنة هم العلماء العاملون الصادقون والمرشدون المربون والعارفون بمناهج التربية والإحسان.

بهذا صار الإطار الواسع الصحيح لأهل السنة والجماعة في باب التخصص العلمي يشمل هذه المدارس العقائدية والفقهية والتربوية وأتباع تلك المدارس المتخصصة هم سواد المسلمين الأعظم وهم إن شاء الله تعالى الجماعة التي بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة ولا شك أنّ هناك أخطاء وقصور عند تلك المذاهب كما هو القصور عند الأشخاص ولكنه قصور في إطار أهل السنّة والجماعة يمكن تقويمه من خلال الحكمة والموعظة الحسنة.

خلاصة القول إن الخطوة العملية الصحيحة الأولى نحو تصحيح المسار العلمي تتمثل في احترام التخصص العلمي الذي يؤدى حتماً إلى تقارب الصفوف وتكاملها ومعرفة المدارس العلمية المتخصصة في أبواب العلم على منهاج أهل السنّة والجماعة وتحديد المرجعية العلمية إليها دون غيرها ورد الأمور المتنازع عليها إلى الكتاب والسنّة بفهم المدارس العلمية للمتخصصة في علوم الدين على منهاج أهل السنّة والجماعة فنأخذ بما اتفقت عليه من أصول العلم ومحكماته ويسعنا ما وسعها من الاختلاف.

وبعد فهذا اختصار مبسط لبيان تخصصات أهل الإسلام العلمية ويستحيل على أحد أن يطرح مؤسسة واحدة على أنّها البديل عن جميع التخصصات العلمية الإسلامية ونحمد الله تعالى أنّ جعل خصيصة لأهل السنّة والجماعة الناجية لا يُشاركهم فيها أحد من الفرق الإسلامية الأخرى ألا وهو التخصص العلمي ووجود المذاهب العلمية المتخصصة في كافة أبواب العلم.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى