ملخص قصة الحياة وفق المفهوم القرآنيّ المجيد
د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
أخبرت صحف إبراهيم – عليه السّلام – وفق ما ذكر القرآن الكريم في سورة الأعلى بقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [الأعلى: 16-19]. بأنه رغم الإشارات إلى دور الإنسان الإصلاحي في الأرض والبشارات لمن عمل صالحاً والوعيد للكافرين والظالمين والفاسقين، وأن الحنيفية هي الميل من الباطل إلى الحقّ والمداومة على ذلك الحق، إلا أن الإنسان سيميل ويقدم الحياة الدنيا على كل ذلك – إلا من رحم ربك- وسيؤثر الحياة الدنيا ويركن إليها، وهو مأمور بأن لا تكون هذه الدنيا هدفه، وغاية مُناه؛ لأنها دار فناء وليس بقاء، وما هي إلا لهو ولعب، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} ]العنكبوت:64[.
والحياة الدنيا هنا هي كل ما في عمر البشرية من أمور معنوية أو مادية أو زمنية، فهي تشمل عمر الإنسان وحياته وغناه وفقره، وكل ما خلق الله سبحانه وتعالى في هذا الكون من بشر ونباتات وحيوانات وجمادات وكواكب ونجوم، وكل الأشياء الأخرى كالشهوات والملذّات والملك وهكذا، وهي دار امتحان وليس جزاء، فليس من العقل ولا المنطق أن يتصارع ويتنافس من أجلها المتنافسون، وهذه هي نظرة ملة إبراهيم في القضية أن لا نُؤثر هذه الحياة الدنيا، وإنما نأخذ منها ما نقيم به حياتنا من أجل بقائنا للعمل من أجل الآخرة، وقد جاء بيان ذلك في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ]القصص:77[. (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص194)
وهذا هو ملخص قصة الحياة التي نعيشها أننا في الأصل نبتغي الحياة الآخرة، وهناك متطلبات لا غنى لنا عنها في هذه الحياة التي نعيشها، وعلينا ألا ننساها، لذلك فإن ما جاء في صحف إبراهيم عليه السلام: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} إنما هو تحذير ووعيد لمن يفعل ذلك؛ لأنه خطأ فاحش وهو مخالفة صريحة لملة إبراهيم عليه السلام التي أمر الناس باتّباعها.
ثم يقول القرآن الكريم أن من الأمور المهمة في صحف إبراهيم عليه السلام هو الحديث عن الدار الآخرة في قوله: {وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} والكلام عن الحياة الآخرة تأتي أهميته كونه من الأمور الاعتقادية التي لا يصلح الإيمان ولا الإسلام إلا بها، ففي صحف إبراهيم عليه السلام الدار الآخرة تختلف عن الدار الدنيا بأمرين: (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص194)
الأمر الأول: أنها خير منها:
وهذا أمر بدهيّ، ولكن بالنسبة للمؤمن فحسب، فتراه يعمل بعمل أهل الآخرة ولا يفعل شيئاً يغضب الله تعالى، وهذه الأفضلية والخيرية لا تقارن، فنعيم الحياة الآخرة كبير جداً وعظيم جداً وكثير جداً بالنسبة لما في الدنيا، وربما حتى هذه الكلمات لا تفي، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا.
الأمر الثاني: أن الحياة الآخرة {أَبْقَى} من الدنيا:
فهي حياة باقية لا تزول، فمن كان في الجنة ومن كان في النار فهم خالدون فيها، فإخبار القرآن بأهل الجنة خالدون فيها أكثر من أن تحصى، فمنها قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} ]آل عمران:15[، وأما أهل النار فهم أيضاً في النار، فيقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} ]النساء:168-169[، وقوله تعالى في أهل النار: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ]النحل:29[.
وصحف الرسول إبراهيم عليه السلام مثل بقية الكتب، قد أنزلها الله سبحانه وتعالى في رمضان وهي نزلت في أول ليلة رمضان، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نزَلَتْ صُحُفُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلَ ليلةٍ مِن رمَضانَ، وأُنزِلَتِ التَّوراةُ لسِتٍّ مضَيْنَ مِن رمَضانَ، وأُنزِلَ الإنجيلُ لثلاثَ عَشْرَةَ خلَتْ مِن رمَضانَ، وأُنزِلَ الزَّبُورُ لثمانَ عَشْرَةَ خلَتْ مِن رمَضانَ، والقُرْآنُ لأربعٍ وعِشرينَ خلَتْ مِن رمَضانَ.
________________________________
المراجع:
ملاحظة: استفاد المقال أفكاره من كتاب: “إبراهيم عليه السلام” للدكتور علي الصلابي، واستقى المقال أكثر معلوماته من كتاب: “ملة أبيكم إبراهيم” لعبد الستار المرسومي.
ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، دار المعراج للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2021م.
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.